هل الحج على نفقة الدولة جائز، أم أنه تصرف غير مشروع في المال العام؟.. سؤال بدا ملحا في المغرب مع اقتراب موسم الحج، وإثارته من جانب عالم المقاصد المغربي د. أحمد الريسوني على صفحات جريدة المساء المغربية.. خلال الفترة الماضية. "" الريسوني في بداية كتاباته حاول أن يحرر أولا "أموال الدولة"، حيث اعتبر أن ما يسمى اليوم بأموال الدولة، أو المال العام، أو الأموال العمومية، هي أموال تعود ملكيتها الحقيقية لعموم أفراد المجتمع، موضحا أن الشرائع والقوانين قد تعارفت على أن تدبيرها والتصرف فيها يدخلان في صلاحيات ولاة الأمور، باعتبارهم نوابا عن الأمة، مستشهدا بقول العلامة علاء الدين الكاساني: "وأما الإمام فهو نائب عن جماعة المسلمين" (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 2 /491) واشترط الريسوني في تصرف هؤلاء النواب -وكذلك نوابهم- في أي جزء من المال العام شرطين أساسيين هما: الأول: أن يكون بالأنفع والأصلح للمجتمع ولعموم الناس، طبقا لقاعدة: "تَصَرُّفُ الإمامِ على الرعية مَنوطٌ بالمصلحة"؛ فمصلحة الجماعة ومصلحة أكبر عدد ممكن من أفرادها هو المعيار المحدد للتصرف في المال العام: ما يصح منه وما لا يصح، وما يجوز وما لا يجوز، ومن يستحق ومن لا يستحق، وما هو الأولى، وما هو خلاف الأولى... أما الشرط الثاني في نظر الريسوني: هو أن يُنفَق كلُّ مال في ما أخذ لأجله وفي ما رُصد له؛ فمالُ الزكاة للزكاة، ومال الفقراء للفقراء، ومال الأيتام للأيتام، ومال الأوقاف لما وقف له، ومال المرافق والمصالح العامة فهو لها... فإذا لم يكن للمال مصرف خاص محدد عدنا إلى الأساس الأول. أشكال الحج الجائز وميز عالم المقاصد المغربي بين عدة أشكال وأحكام في مسألة الحج على نفقة الدولة، وهي إجمالا كالتالي: - مَن ترسلهم الدولة، أو أي جهة تابعة لها، للقيام بعمل أو مهمة ما في موسم الحج، فيؤدون مناسك الحج بجانب المهمة الموكولة إليهم، كما هو شأن أعضاء البعثات الإدارية والطبية والعلمية، وكذلك الوفود أو الشخصيات المكلفة بإجراء لقاءات ومشاورات ومفاوضات، مع وفود وشخصيات من بلدان إسلامية أخرى، سواء تعلق ذلك بالحج، أو بغيره من مصالح الدول والشعوب وقضاياها. وهؤلاء يجيز الريسوني لهم أن يذهبوا ويحجوا على نفقة الدولة، أو تحديدا على نفقة الجهة المرسِلة لهم، ولهم أن يتقاضوا مكافآت وتعويضات زائدة عن نفقات الحج، بحسب ما هو معمول به. - الشكل الثاني: يتمثل في الأشخاص الذين يذهبون إلى الحج على نفقة صناديق ومؤسسات حكومية، أو حُبُسية مخصصة أو مخصص جزء منها لهذا الغرض، وتكون مدخلاتها وملكيتها عائدة إلى فئة معينة؛ مثل صناديق التقاعد، وصناديق الأعمال الاجتماعية، فمن كان مستحقا بمقتضى مصارف هذه المؤسسة وقوانينها، ولم يكن قد سبق له الحج، وتم اختياره بطريقة عادلة، فله أن يحج على نفقة تلك الجهة. حالات غير جائزة والشكل الثالث: يوجزه الريسوني في إرسال أشخاص لمجرد الحج وما يدخل في رحلته من تعبد أو تبضع أو منافع خاصة، وذلك على سبيل التكريم والمكافأة، مع الإنفاق عليهم وربما الإغداق عليهم من مال الدولة لا لشيء إلا لمواقعهم وصفاتهم.. وفي هذه الحالة يقول الفقيه المغربي: حج هؤلاء الناس لا يجوز، وهو من أكل المال بالباطل، وهو من التخوض في مال الله بغير حق. وأضاف: "هذا لا يجوز لأي مسئول أن يتصرف به، كما لا يجوز للمستفيدين أن يقبلوا ذلك ولا أن يطلبوه، فإذا فعلوا، فالأموال التي أخذوها، والنفقات التي أنفقت عليهم على هذا النحو، تبقى دَينا في ذمتهم". - والحالة الرابعة: هي تلك التي سبق لنواب مصريين قبل مدة أن احتجوا عليها، حيث يكون وراء الإرسال إلى الحج غرض سياسي يرمي إلى الاستقطاب والتأثير على مواقف المبتعثين، وهذه الحالة يعتبرها الريسوني حالة أدهى وأمر، وهي جناية دنيوية وأخروية، والحكم فيها أوضح من أن يحتاج إلى كلام، ومثل ذلك أيضا، إذا تم الأمر لمجرد المحاباة واعتبار القرابة أو الصداقة، أو لمصلحة شخصية. لا بأس.. بشروط وفي حديثه لموقع إسلام أون لاين يحدد الدكتور محمد بولوز، باحث في العلوم الإسلامية، الأصل في مال الحج، معتبرا أنه لابد أن يكون من المال الطيب الحلال؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب، وأصول المال الطيب إما عمل مشروع بإتقان، أو تجارة مشروعة بصدق، أو عطية بحق. والعطية بحق، يقول بولوز عنها: هي كالهدية المشروعة غير المتلبسة برشوة أو مصلحة مرتبطة بمنصب، أو صدقة يأخذها الفقير من مال الزكاة والصدقات والكفارات وغيرها، أو ميراث مستحق، أو مكافأة مستحقة بمعايير موضوعية. ويناقش الباحث المغربي حدود الحج على نفقة الدولة، وهل يشكل اعتداء على أموال المجتمع وأكلا للمال بالباطل، بالتأكيد على أن التصرف في المال العام منوط بالمصلحة وبرضا الأمة أو من ينوب عنها، وبالتالي لا يرى بولوز بأسا في حالة ما إذا صادق نواب الأمة على ميزانية الدولة، بما فيها الجزء المخصص لتكريم عدد من الموظفين أو من عموم المواطنين، بإرسالهم إلى الحج على نفقة الميزانية العامة أو ميزانية مختلف القطاعات الحكومية، أو مؤسسات موازية وفق معايير موضوعية مفتوحة مبدئيا في وجه من توفرت فيه تلك الشروط من غير محاباة أو مصالح شخصية أو قرابة أو رشوة أو ولاءات حزبية أو انتخابية أو طائفية أو عرقية أو غيرها. وأضاف بولوز: "لا أرى بأسا بذلك، ولا حرج على من كان نصيبه الحج بتلك الأموال وهو من النعمة التي يسرها له الله عز وجل، ومن سبل الاستطاعة التي توفرت له لأداء المناسك". التدقيق في بعثات الحج ويشدد بولوز على أنه من المفروض في نواب الأمة عند مناقشة الميزانية التدقيق في النسبة المخصصة لبعثات الحج، حتى لا تكون على حساب أولويات الشعب في الغذاء والصحة والأمن والدفاع وغيرها من الضروريات، وأن لا يتجاوز ذلك خانة التحفيز والتكريم في الحدود المعقولة التي تذكي التنافس في خدمة الصالح العام. وتابع: "مع التأكيد على أنه ليس في الشرع ما يلزم الدولة أن تنفق على الناس لأداء فريضة الحج؛ لأنها منوطة بالاستطاعة الفردية ومن لا يملكها فلا إثم عليه، ومن مهام النواب أيضا ومن له حق المراقبة والمتابعة والمساءلة من المسئولين التدقيق في الشروط الموضوعة للاستحقاق ومساءلة مختلف الوزارات والمؤسسات التابعة للدولة عن المعايير المعتبرة في الاختيار، حتى تتميز بالشفافية والموضوعية والنزاهة وتعميم الاستفادة حتى لا تبقى حكرا على أناس يحجون كل عام في وقت يحرم فيه آخرون". الحج على نفقة الدولة من العطايا وتحفظ العلامة محمد التاويل في الجزم برأي حاسم في الموضوع، معتبرا في حديثه ل"إسلام أون لاين" أنه يدخل محل خلاف بين الفقهاء منذ عهد العباسيين وغيرهم، ويعتبر الحج نوعا من الهدايا والعطايا تنعم بها الدولة على بعض الأفراد، ففي نهاية الأمر يُعد الحج عبارة عن هدية المال وهدية تذكرة السفر، وأكثر الفقهاء يجيزون ذلك. ويضيف التاويل أن أم المؤمنين عائشة وابن عمر رضي الله عنهما كانا يقبلان هدايا أضعاف المال المخصص للحج. ويشير إلى أن القول بأن الحج على نفقة الدولة يعتبر تصرفا في المال العام، فهذا ليس دقيقا، حيث إن بعض الفقهاء يرون أن الدولة ليست منتجة للمال، إنما جامعة له ومسئولة عن صرفه، وحين ترى الدولة إقامة شعائر دينية من قبيل الحج يمكنها فعل ذلك". واختلفت الإجابات بين مؤيد للطرح الذي يقول: إن الحج على نفقة الدولة جائز لا شيء فيه، وبين من لا يرى ذلك معتبرا أنه نوع من أكل المال بالباطل، والتخوض في مال الله بغير حق.