في تقرير للجنة الدولية لحماية الصحافيين تم رصد تحول واضح للدول العربية إلى أساليب ملتوية لإسكات صوت السلطة الرابعة، بدلا من الاعتداء المباشر على جسمها أو جرها لمحاكمات ذات علاقة بالرأي، وأشار ممثل اللجنة بالشرق الأوسط الصحفي التونسي البارز كمال العبيدي إلى أن مصر والمغرب توجدان على رأس هذه الدول. "" ويبدو أن المغرب يكرس اليوم هذا الحقيقة المرة ويمنحها كثيرا من العمق والتأصيل والتجدر، بعدما أيدت الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالرباط، الحكم الابتدائي المستأنف الصادر في حق مدير جريدة المساء، والقاضي بأدائه تعويضا مدنيا إجماليا قدره ستة ملايين درهم (600 مليون سنتيم) لفائدة أربعة نواب وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالقصر الكبير. وأيدت الغرفة نفسها الحكم الابتدائي في شقه المتعلق بأداء الغرامة لفائدة الخزينة العامة المقدرة في 120 ألف درهم. لا يتناطح اثنان حول حق الفرد أو الهيئة في اللجوء إلى القضاء إذا ما اعتبر نفسه متضررا مما نشر حوله، لكن دائرة الجدل لابد أن تتسع حول هذا الحكم القاسي بكل المقاييس وحجم الضرر الذي سيلحقه بمؤسسة إعلامية رائدة في إيصال الخبر إلى القارئ، مُواظِبة على تعقُّب ورصد حركات المجتمع المغربي وسكناته ومصممة على صناعة رأي عام ضاغط يجيد قراءة الراهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويتفاعل مع الأحداث بدينامية فاعلة ويساهم في صناعة القرار السياسي؛ رصيد إعلامي ضخم لجريدة المساء منحها الريَّادة ومكَّنها من أحقية تبوء مقدمة الصحف الأكثر مبيعا بالمغرب، في الوقت الذي عجزت الكثير من الصحف العريقة عن حصد نفس الرصيد لمَّا طالتها آفة الانحباس الإعلامي وتحكَّم الحزبي الضيق فيها وهيمن على خطها التحريري فنأت بنفسها عن قضايا المجتمع وانشغالاته المركزية وارتهنت لمنطق التسويق الإيديولوجي الموجه عن قرب بواسطة المقاصد الانتخابوية المقيتة. وباتساع دائرة الجدل تتعاظم علامات الاستفهام وتكبر لتشكل بابا لولوج ردهات أجوبة صادمة ومقلقة لمستقبل مغرب حالم بانتقال ديمقراطي حقيقي يوصله لمرحلة الحق والقانون والمؤسسات. تتسع الدائرة لتشمل البحث في أبعاد الظاهرة التي صارت تتأصل في طبيعة التعاطي الجديد للدولة مع الجسم الصحافي المغربي الناشد للعب الدور الحقيقي للسلطة الرابعة والمنحاز على الدوام لقضايا الأمة وانشغالاتها الحقيقية؛ والأبعاد الواضحة للحكم القاسي الذي قضت به الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالرباط في حق جريدة المساء تبرز مدى الرغبة المفضوحة التي تسكن الكثيرين الطامحين لإخراس صوت منبر إعلامي جريء وقطف رأسه اليانع على الطريقة الحجاجية. فلو كان الأمر يتعلق بمجرد رد الاعتبار والتعويض عن الضرر اللاحق بنواب وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بمدينة القصر الكبير لقضت المحكمة بأداء تعويض مدني رمزي وطوي الملف، خاصة وأن التعويض المادي لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعوض المتضرر عن الضرر الذي لحقه جراء القذف والسب مهما انتفخ وتضخَّم. وفي الوقت الذي يجابه القضاء المغربي القضايا المرتبطة بالإعلام والنشر بكثير من الصرامة والغِلظة تُقابل قضايا أخرى بكثير من الرقة واللين، ولعل المغاربة تابعوا بعناية شديدة فصول اعتداء السيد حسن اليعقوبي زوج الأميرة على رجل الأمن طارق محب وهو يزاول عمله بإطلاق النار عليه وإصابته في فخده الأيمن، لكن نفس المغاربة صبوا دلاءً من الماء البارد على بطونهم وهم يتابعون التعاطي البارد القارس جدا الذي أبدياه جهازي الأمن والقضاء مع القضية والقدرة الخارقة للقوى النافذة في جهاز الدولة على الالتفاف عليها، لما خرجوا علينا فقالوا أن زوج الأميرة مصاب بمرض الكورساكوف، وذلك حتى يقطعوا الطريق أمام المطالبة بتقديمه للعدالة. بهذا الحكم القاسي في حق جريدة المساء، نكون أمام فصل آخر من فصول حكاية مرة وحارقة لا تنتهي، تروي عن مغرب جديد لم تستجد فيه غير أدوات اللعبة، أما شروط اللعب وقوانينه فلازالت كما هي. بهذا الحكم القاسي وكل الأحكام الأخرى التي صدرت في حق الجسم الإعلامي المغربي نكون قد تيقنا من حقيقة ضياع مفتاح الانتقال الديمقراطي في أتون حرب قذرة يشنها سدنة المعبد القديم ضد تطلعات المغاربة المشرئبة أعناقهم للتغيير الحقيقي الضامن لميلاد مغرب الحق والقانون والمؤسسات. وبقليل من الحكمة والتفقه ندرك أن جريدة المساء أضحت منبرا إعلاميا غير مرغوب فيه، وصار مطلب شطبها من المشهد الإعلامي المغربي ملحا أكثر من أي وقت مضى، بالنظر للانزعاج الكبير الذي يسببه خطها التحريري للكثيرين؛ حيث أن جرأتها الفريدة والناذرة في تناول الخبر ونشره وإيصاله للقارئ أتت ضدا على التصميم الفولاذي لذوي المصالح في الإبقاء على التعتيم الإعلامي ومصادرة مصادر الخبر والمعلومة. وإذا كان أسلوب التعاطي مع حرية الرأي والتعبير في زمن الجمر والرصاص أبان عن قصوره الحاد وفشله المروع في صد الإرادات الحرة المعتنقة لقيم الحرية وحقوق الإنسان، فإن الشكل الجديد لابد أن يعلن كساد سلعته وبَوارَ بضاعته حين يُواجَه بعزيمة حراس الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان الأشاوس. http://awraq-com.maktoobblog.com