ليس في الجو غيم، فلنعد ترتيب الأولويات، ولنعد تدوير أشياء الحياة. تلك العبارة نلوذ بها كلما أزمت بنا أزمة، قلناها في بداية الوباء والخوف يتسيد آفاقنا، ولكننا عدنا مرة أخرى وبسرعة مذهلة إلى العادات نفسها. لربما قيلت العبارة في أزمات سابقة، وربما فعلها آخرون بطريقة ما: وهؤلاء لم يدَّوِّروا أو "يرسكلوا" أشياء الحياة، وإنما هربوا من الحياة نفسها: جنحوا إلى الخيال والتصوف في رؤوس الجبال في انتظار الذي قد يأتي وقد لا يأتي، ثم أصبحوا لا يفكرون إلا في اللحظة التي يعيشونها: أبناء للحظة وللوقت وللحين كانوا يقولون. ليس في السماء غيم.. وهذه السنة لن يأتي الربيع، متنفسنا الوحيد، الذي يدوم شهرا أو يزيد بقليل ولكنه كان يأتي. سنشتاق إلى الأشياء ولن نخرج إلى البراري لنرى الزهور حتى ولو كانت متوحشة، ولن نرى الألوان، لن نرى الزنابق ولا شقائق النعمان..لن نرى الطيور وهي تبني أعشاشها في فرح بريء. سترحل اللقالق إلى وجهة ما، فقبلها فعلها العندليب والحسون: كانا من أكثر الطيور تغريدا في حدائقنا العمومية والخاصة: أزلنا من الوجود الحدائق، فهجرنا الجميع. وستهجرنا الأشياء: لن نرى أسراب النحل الشغال وهي تبني حضارتها، تنقل رسائل ولقاحات وعلاجات ونغمات. أفلست خليات النحل وتم تسريح العاملات من تلك الشركات، مقاولات لم تعد تطيق الضريبة والضغط، والمنافسة غير الشريفة التي لجأ إليها البشر. ألم يكن العقل التنويري يسعى إلى السيطرة على الطبيعة وقواها ليسخرها لصالحه؛ ها قد حصلْ!. ها هي شركاته المجهولة الاسم – يقولون في خبث- قد نافست أشياء الطبيعة الأخرى وسلبتها حقوق الملكية ثم كتبت على علبها الاسم المسروق من الطبيعة أيضا. لقد صنع البشر نوعا آخر من العسل لا يشفي أي نوع من العلل. ستهجرنا الأشياء هذه السنة نعم، في العام القادم لا ولن ندري ولا نريد. السنة لهم ولنا العام. يقولون سنة سعيدة ونقول كل عام وأنت بخير. السنة من الجدب والقحط والقليل يفطن لذا المعنى. ليس في السماء غيم: ولا في الأرض عشب: ما حصدتم في العام الماضي، احفظوه للسنة الجارية، من يهتم؟. لن يحس بالأمر إلا من تجرع غور الماء أو بعده، أما موتى القلوب فمازالوا يتوهمون أن الجَمال أساسه خضرة حول المنزل وسيارة واقفة تغسل – كل أسبوع مرتين- من ماء معين نكاية في الحقول. ليس في السماء غيم: يقول المثل الأجنبي: "واجِهِ الجو السيئ بوجه فَرِحٍ ضاحك" "Al mal tiempo, buena cara". متى جرب هؤلاء الأجانب لذة الجو المطير؟ متى جربوا القطرات تنقر القصدير وتبهج البائس الفقير ولو كان مملقا يعضه البرد القارس؟.. فرب ضارة لحين نافعة لأحيان. متى جربوا لذة العدس المحروق في يوم ممطر؟. صاحبي المعدم: واجهِ الجو الصحو بوجه عبوس، فكل شيء صار إلى نقيضه. ليس في الجو غيم: وربما حان الوقت لنعود إلى قراءة "الحيوانات المرضى بالطاعون" لنبحث عن مرتكب الخطيئة بيننا، عمن جلب اللعنة إلينا؟ مرة أخرى سنلتفت يسرة ويمنة ولن نرى إلا الحمار، واضح أنه أكل بعضا من الغيط. أما من أكل الغيط كاملا فهو لَابِدٌ في مخبأ غير معلوم، ينظر إلى نشرة الأخبار ويشير إلى الشاشة ضاحكا: الهمج. ثم يرددها حزبه وزبانيته.