أعرف فضاء الحَمّام الشعبي، مثلما أحيط تحديدا بتفاصيل تاريخ مساري الذاتي، مع أولى بواكير تمثُّلي لأفق حياتي. السبب بسيط، مفاده أنه منذ فجر حقبة طفولتي، اكتشفت مبكرا للغاية، هذا الفضاء عن طريق جَدَّتي من أمي، التي اشتغلت زمنا طويلا، كناطور (غَلاَّسة) ومراقبة لأمتعة المستحِمَّات؛ وفي الوقت نفسه أمينة صندوق المداخل، فترة قليلة بعد وفاة جدِّي بداية سنوات الستينات، ولم تمر على عودته بفترة قليلة كجندي قاتل في أدغال الهند الصينية؛ ضمن صفوف الجيش الفرنسي، غير أسابيع معدودة، ثم تقاعدت إراديا عن يومياتها تلك في الحَمّام، عندما بلغت من العمر عتيا واشتعل رأسها شيبا. لم تستسغ حقيقة نمط حياتها الجديدة؛ وهي المرأة العاشقة للحركة وطيِّ الأمكنة، تكتمت على حزنها في امتعاض سحيق، غاية رحيلها عن هذا العالم وحيدة، ذات صباح باكر، دون إزعاج أحد. دأبت جَدَّتي يوم عملها على الاستيقاظ بمجرد انبلاج أولى خيوط الفجر؛ الساعة الخامسة تحديدا، تتناول حساءها المعهود من الشعير غاية كونه شعيرة مقدسة وترتشف كوب قهوة سوداء رشفات سريعة، ثم تسرع كي تفتح باب حَمَّام الحي، ولا تعود ثانية إلى بيتها سوى بعد العاشرة ليلا؛ أحيانا أكثر من ذلك، خلال مناسبات معينة بالأخص ليلة رمضان وكذا الأعياد. أيضا، خلال صبيحة الغد يوم عطلتها، تنهض باكرا صباحا، وتهيئ مثل دائما الحساء والقهوة السوداء، ثم تغادر هذه المرة كي تقضي ساعات لا بأس بها؛ وقد سئمت تكاليف الحياة، داخل فناء ضريح أو زاوية متصوف، سواء داخل مراكش أو أطراف المدينة، لذلك أحطتُ علما بأسماء من هذا القبيل عبر رواياتها المتواترة، وأدركت بعض حكايات كراماتهم، رغم أني لم أزر قط في يوم ما تلك الملاذات ولم أتمسَّح يوما ببناية أيِّ من هؤلاء الأموات؛ بل ومجرد التفكير في الدنو من طيف قلاعهم. لقد وفَّر لي هذا الانتماء العائلي، إمكانية ولوجي على نحو متواتر واستئناسي بالحَمَّام، صحبة أمي وأختَيَّ كل أسبوع تقريبا لقضاء زمن ليس بالعابر احتفالا بأجسادنا تحت كنف حرارة الفضاء العجيب. نتأهب عقب وجبة الغذاء مباشرة، كي نشرع في تهييئ لوجستيك المُهِمَّة من ملابس ولوازم التنظيف، لا سيما عنصرا معينا؛ وكل خطأ أو سهو بصدده يفسد لا محالة طقوس حفلة النظافة، أقصد أداة الحكِّ المذهلة المنسوج هيكل مربعها الخشبي بالخيط، قصد فرك الجسم فركا؛ وتقشير مستحاثات الأدران الجلدية المتراكمة التي نعتنها داخل الحمام تفكها ب "طَبَق الشَّعْرية" (نظرا لتشابه الشكل) حينما يشتد وقعها وتغدو تلك الأوساخ كثيفة؛ كبيرة الحجم. بعد طلاء مجمل الجسد بالصابون البلدي؛ ذي اللون البني أو الأسود، تبعا لمصدره، ثم ضرورة الاسترخاء لدقائق في القسم الأكثر سخونة للحظات قد تطول أو تقصر، حسب قدرة تحمّل كل واحد، أساسا بمحاذاة الجحر الإسمنتي المخصص لملء وتخزين الماء الساخن. حوض اتخذ لحظة أولى سنوات اكتشافي للحَمَّام، شكل حفرة تستوطن أسفل الحائط شبه معتمة، تكتنفها ظلمة ملغزة؛ أثارت دائما ارتيابي، ثم ارتقت مع مرور الأيام إلى حوض واضح المعالم مربع الأضلاع، ينبثق من وسط الحائط وأضحى مكشوفا للمستحمين عبر مختلف زواياه. أيضا، يستحيل نسيان تلك الحجرة الصماء الناتئة، من أجل إزالة الزوائد المتراكمة على واجهة أسفل القدمين، قصد ردم هوة الشقوق التي أضحت بارزة بسبب تراكم الأوساخ، نتيجة الدأب على ارتياد صنادل بلاستيكية رخيصة، شكلت خلال تلك الحقبة نعالا لا غنى عنها بالنسبة لأغلبنا. في ما بعد، تطورت أداة الحَكِّ التي رافقتنا طويلا، غاية إزاحتها تدريجيا من طرف كيس ثوبي خشن قليلا، يوحي بقفاز الملاكمة، إلى أن اختفت تماما خلال وقتنا الراهن. بالمناسبة، مَثَّل قماش الكيس طيلة فترة زمنية موضوع استغراب بل استهجان خفيف، عكسته نظرات المستحمِّين نحو صاحبه، واتجهت تأويلاتهم الضمنية والصامتة، مثلما استبطنتها إيماءات وجوههم، بأنه شخص رخو أقرب في توجهه العام إلى فصيلة النساء. أيضا، يتبنى بصنيعه الجديد ذاك سلوكا متبرجزا، غير منسجم مع وضعيته الطبقية الأصلية. ينطبق هذا التقييم على سلوكات أخرى، جراء تطور ثقافة الحَمَّام تبعا لآفاق الحياة الجديدة. على سبيل المثال، لم يكن المستحمون يصطحبون معهم قوارير مائية مثلجة تحسبا لعطشهم، بل يشربون مباشرة من الصنبور. كذلك، الجلوس على كراسي أو أفرشة بلاستيكية. إنها جملة ممارسات دخيلة قياسا للماضي، نتيجة ازدياد الوعي الطبي بخطورة الأمراض المعدية. ففي السابق، كنتَ ترى الجمع ملتصقا بالأرض مباشرة، بل وغالبا كما ولدتهم أمهاتهم؛ أقصد مجردين حتى من تُبَّان حاجب. حينما يرغمه الوقوف، بغية ملئه سطلا أو سطولا من الماء، أو أكثر حرجا الذهاب لمسافة معلومة وجهة المرحاض، يستعين فقط بغطاء يديه قصد التستر على حميمة مقدمته وفي أفضل الحالات يوظف ذات الإناء الصغير الذي يغرف به الماء من السطل. أدركت في ما بعد، أنها أجيال قضت لم ترتدِ قط ملابس داخلية لا سيما ضيق التُبّان، حفاظا على ارتياح أجهزتهم وكذا استمرار نمو حجمها دون إزعاج. مشهد ظل مألوفا أساسا مع كبار السن والشيوخ، وقد عاينت غير ما مرة صدامات بهذا الخصوص أحيانا مناوشات جادة، حينما يتعرض مستحمّ لمؤاخذة بخصوص الاهتمام بستر عورته من لدن شخص يصغره سِنّا. أذكر، بهذا الصدد نقاشا حادا تحول معه الحَمَّام إلى حلقة مناظرة دينية بين شخصين، فقد عاتب أحدهما بشدة على الثاني عراءه الفظِّ المثير للقرف، لا سيما أن عضوه بدا مستيقظا. بينما تحجج الثاني، بأنه صاحب حق لا يقهر؛ ما دام شرط الاغتسال من الجنابة أو الوضوء الأكبر، يفرض عليه حسب ادعائه صب الماء على مختلف مكامن جسده، ثم دخلا في دوامة الاستعانة بقول فلان وعلان. عموما، كان حجم التُبّان آنذاك قصيرا جدا، يتخذ شكل جمجمة ثور حين الشرود لحظة التعمق في تأمله، مجرد قطعة ثوب صغيرة ملتصقة بجغرافية القضيب والمؤخرة، دون أدنى زيادة أو نقصان. ثم، تطور حجمه فاكتسى مساحة سروال سباحة أو مئزر، يمتد غاية الركبة تقريبا، وأضحى التُبّان أخيرا؛ في صيغته البورنوغرافية، مثار تهامس وتغامز بين المستحِمِّين. إذن، لا تُقْنع أمي مساحة زمانية، امتدت من العصر غاية ما بعد العشاء، ظرفية قد تطول أكثر، في حالة اكتظاظ الحمام أو التقت واحدة من معارفها مصحوبة بصغارها حتما، هنا تغدو صدفة الموعد أشبه بنزهة، حينما نستغل نحن الأطفال انخراطهما في القيل والقال والشائع من القول، كي ننسلخ عنهما بتؤدة؛ دون إثارة انتباه، ثم نشرع بكل مرح ولامبالاة في التزلج على بطوننا، والسعي إلى بلوغ أقصى مسافة ممكنة بناء على دفعة واحدة. قد يتوقف بغتة الحفل منقلبا إلى ضده، حينما يضطرب نظام الحَمَّام بسبب تضاؤل غير متوقع لمنسوب الماء أساسا الساخن، نتيجة خطأ في سوء التقدير من طرف الشخص المكلف بمسألة مراقبة إيقاد النار وتسخين الماء؛ المعروف ضمن تداول اللغة الشعبية ب "الفرناطشي"، وأحيانا يعود سبب انقطاعه إلى عُطْل خارجي أصاب لوجستيك الشبكة المائية. حينئذ، تتضاعف المشكلة وتحدث الكارثة العظمى، بحيث يتوقف كل شيء وتتراكم سلسلة طويلة من السطول أمام الصنابير تنتظر الملء. تعمُّ في نهاية المطاف فوضى عارمة. أذكر في سياق ذكرياتي دائما، حادثة استثنائية، حينما جفت تماما الأنابيب لسبب خارج عن توقع جَدَّتي وكذا زميلتيها المساعدتين.هكذا، استحال الحَمَّام بامتياز سوقا شعبيا سادت زواياه الهرج والمرج، وطال انتظار الفرج، ثم لا مخرج، مع حتمية العثور بأيِّ وسيلة على مخرج لهذه الورطة الفظيعة. لذلك، أسرعت جَدّتي نحو جلبابها مرتدية إياه بكيفية مقلوبة جراء مفعول شدة الاضطراب وهول اللحظة، وخرجت مهرولة قاصدة دون التفات منازل جمعٍ من النسوة المحاصرات داخل الحَمَّام، فقد كانت محيطة جدا بأهل الحي نتيجة تراكم سنوات انتمائها للجيل الأول من سكانه، بغية إخبار أهلهن كي يسرعوا إلى إحضار قنينات غاز، وتفويض أحد الأفراد مهمة الإشراف على عمليات تسخين ليترات ماء، قصد إغاثة العالقات. لم ترجع جَدَّتي لبيتها ذلك اليوم سوى عند جوف الليل، بعد تدبير أسطوري لطارئ غير منتظر قط، كادت أن تفقد عقلها لولا الألطاف الإلهية، مثلما أكدت مكرِّرَة حيثيات الواقعة مرارا. واقعة نادرة حدثت مرة واحدة، لأسباب تجاوزت قدرات الجميع. مع ذلك، يعرف الحَمّام النسائي بين الفينة والثانية، سياقات شاذة توشك باستمرار الخروج عن حدود السيطرة، تنجم عنها عواقب غير مضمونة. فكم من امرأة، ارتمت كقطة على أخرى وجذبتها من كساء شعرها؛ ثم مسحت بها هندسة فضاء الاستحمام وهوامشه، نتيجة خلاف نشب غالبا للأسباب التالية: صراع حول رقعة مكانية استراتيجية تيَسِّر الاستفادة أكثر من ينبوع الماء. أيضا عدد السطول لا سيما أوقات الازدحام، قبل أن تبدأ موضة تأبُّط كل مستحِمّة لأوانيها البلاستيكية الخاصة، بسبب تطور الوعي الوقائي حيال العدوى الجرثومية الناجمة عن أدوات الحَمَّام التقليدية. أخيرا، قد يتأتى الشنآن، بسبب شغب الأطفال وشجارهم مما يستدعي تدخل أمهاتهم، هنا ينتقل النزاع إلى الكبار آخذا مسالك شديدة الحساسية، ربما انتهى بدماء نظرا للطبيعة الخاصة المميزة لمضمار الحَمَّام. اتسمت أمي بدوغماطيقية للغاية في ما يتعلق بخطوات سلخ الجلد، منذ بداية حصة الاغتسال، ولتقبل تنازلا بهذا الصدد: ينبغي أولا، طلاء الجسد غاية العنق بالصابون البلدي، غير الوجه وشعر الرأس، عملية تتم بغير مناقشة داخل القسم الجواني، فقد تقاسمت فضاء الحَمَّام ثلاث حجرات كبيرة، تزداد كثافة بخار حرارتهم أو تنقص، حسب الانتقال من هذه الجهة أو تلك. في انتظار، امتصاص أطراف الجسد زبد الصابون وترتخي شدته، يلزمني الانكباب على حكِّ باطن قدمي بواسطة حجارة صماء ناتئة إلى حد ما. بعد هذا المدخل الأساسي، يقتضي الوضع الانتقال بالانحدار إلى القسم الثاني من الحَمَّام، لأنه أقل سخونة من الأول، وبالتالي يتيح إمكانية التفرغ بتركيز أكثر على حكِّ الجسم كاملا بعد استيفائه المستوى الحراري المطلوب فأضحى ليِّن العريكة. عملية، تقتضي وقتا متأنيا وقدرة فيزيائية على التحمل، لأنها بمثابة الحلقة المفصلية، قبل الانتهاء بغسل الشعر وتعطير الجسم بصابون رومي غزير الرغوة. في غضون ذلك، لا بد من الإشارة إلى تلك العقبة الكأداء المتعلقة بحَكِّ الظهر، لذلك نجد مثلا بهذا الصدد شخصين لا جامع مشتركا بينهما، غير أنهما يتفقان في مسألة المجيء معا، فيتواعدان على لقاء الحَمَّام وإن تباعدت بهما السبل، لا لشيء سوى هزم تلك العقبة، فيدعم أحدهما الثاني بخصوص إنجاز هذه المهمة، وإلا فسيواجه صعوبات العثور على مستحمٍّ بوسعه تقديم العون دون طيِّه ضمنيا تأفُّفا. في حالة انعدام مُرافِق، يحتاج الأمر لحظتها إلى الاستعانة بالمكيِّس، الشخص الذي يوفر قوت يومه بفضل وظيفة الحكِّ وربما حصة تدليك وترويض عضلاتي لكل من ارتفع سقف مطالبه، مقابل تعويض مادي طبعا، تختلف قيمته وتتنوع رمزيته حسب الوضع الطبقي للمستفيد. يزدهر الطلب على خدمات هذا الرجل، أيام الازدحام، ثم داخل الحَمَّامات المنتمية للأحياء الراقية. إذا انتفت سواء ممكنات الخيار الأول والثاني، هنا يلزم العالق عند عقبة إنهاء تنظيف الظهر، كي ينهي بسلام ويغادر، لا سيما إذا أرهق نَفْسه بمكابرة نَفَسِه نتيجة اشتداد ضباب بخار المكان، الاعتماد على ذاته. مسألة عويصة، تقتضي حركات رياضية رشيقة؛ أشبه بلوحات مشاهد صامتة ينجزها بهلواني. قد يستسلم، ويقضي الأمر بتركه ثم ينصرف. لكن، لحظتها يبقى شعور الارتياح بعد حصة التنظيف، شقيّا بل مشوَّها، لذلك يضطر التماس المساعدة من مستحمٍّ ثان، ولتحقيق قصده بنجاح يلزمه التمتع بحس تواصلي ذكي، ومدى قدرته على رصد الشخص المناسب لتقديم التماسه وتجنب ممكنات الرفض. أهم مدخل يقتضيه خطاب التواصل في هذا الإطار، بعد التحية طبعا ورسم ابتسامة خفيفة على محياكَ، وجب إشعار المخاطب بممكنات الصفقة؛ أي ازدواجية الاستفادة من خلال تبادل الأدوار. حينها، تغادر الحمام بانتعاشة وقشعريرة لذيذتين حقا؛ تأخذكَ بشرود منشرح، نحو عالم مفارق تماما لوطأة وثِقل ما يجري حولكَ.