يشكل صورة “السياق” بجسده العاري على الدوام صباح مساء، وصيف شتاء، من تبان عريض فضفاض، وبقطرات الماء اللاصقة على صدره وبين منكبيه،مثل بلورات تائهة من زمن الأحلام، مشهدا قويا في ذاكرتنا الشعبية، صورة منحوثة في العيون، وراسخة بالأذهان عن الشخص الذي يضحي بنفسه وسط صهد الحمام من الصباح إلى أوقات متأخرة من الليل، يسبح وسط صراخ المستحمين وانتقاداتهم، وأوساخهم التي تزيدها حرارة المكان رطوبة، تزكم الأنوف وتضيق بعطنتها صدور تبحث لها عن فسحة هواء نقية في “الڭلسة” وهي البهو الخارجي لصالات كل حمام . السياق هو الإنسان الوحيد الذي يقضي يومه وما تسير من ليله وسط المياه الباردة أو الساخنة، إذ يمتلك طاقة مميزة تمكنه من قضاء أطول مدة ممكنة في الغرفة الساخنة حيث ” تافضنة ” التي تلهب الأجساد وتجذب ضحايا البرد إلى التمدد قربها أو التمتع بنوم خفيف وسط بخارها المنعش والمغري بالتحليق بين فناءاته الرطبة الخفيفة،في عوالم سريالية،تتوحد فيها الأوهام مع الإنتظارات، وتتحول داخلها الأفكار والإنبجاسات الذهنية إلى أرانب تتقافز بين “الصلب والترائب” ، فضاء تختلط بداخله رائحة العرق العطنة بعبق بعض أنواع الصابون المعطر بالورد والخزامى لتلج الأنوف دون سابق إعلام، معلنة أن مثل هذه الخصوصية لن تتأتى سوى في حمام بلدي حقيقي. استنشاقها للوهلة الأولى وأنا أدفع الباب الخشبي الثقيل والمغلف بالمطاط الصلب المؤدي إلى الغرفة الأولى ذكرتني بتلك الرائحة التي تفاجئ المرء وهو يلج بهو رياض عتيق ظل مغلقا لسنوات، بسبب صراع الورثة. لقد اخضرت بعض جنبات صالات الحمام بالطحالب الناتجة عن الرطوبة،وبدت مثل حواشي سفينة قراصنة مهجورة على مدخل ميناء صغير بمدن الضباب الشمالية، هكذا هي رائحة الحمام الذي دخلناه في حي الزاوية العباسية، بخار الماء الساخن يحجب الرؤية، مثل غيوم جبلية ،منبعثة من قمم جليدية صامتة وبقايا “الصابون البلدي” عالقة بالجدران متدلية كالوطاويط ، وقد ساهمت حرارة المكان المرتفعة في إذابتها مما جعل بعض قطع الصابون المائعة تتحول إلى خيوط بنية أقرب إلى السواد الباهث وهي تتجه إلى الأسفل،تحت وطأة التمدد مثل لوحة فنان تجريدي عجيب، حيث صارت حيطان الحمام أشبه بفروة النمر بفعل البقع البنية المتزاحمة على مساحتها، سقف الحمام نصف دائري، وقد تجمعت به بعض قطرات الماء، المتقاربة لتسقط الواحدة تلوى الأخرى، باردة كأنها تعاقب المستحمين على عدم انتباههم. ومثل كل حمامات المدن العتيقة، في فاس وسلا ومكناس وتطوان وغيرها تتكون حمامات أحياء مراكش العتيقة، في المواسين والقنارية والموقف وأسوال وبوسكري وباب دكالة والقصبة وباب أيلان وضبشي واسبتيين وغيرها من ثلاث صالات واسعة تعرف بإسم “البارد” و”الوسطاني”، ثم “تافضنة”، تزداد درجة الحرارة من صالة إلى أخرى، بالتتابع من الداخل إلى الخارج، وكأنك تقترب من فوهة بركان نشيط . إشتغل عبد الكبير بن إبراهيم الموحد 65 سنة،المعروف في أوساط مراكش بلقب “الكعية” فكاهيا شعبيا ودقايقيا، يعني فنان ديال الدقة المراكشية، ومساعدا لأحد المؤذنين،وحارسا بمقر الزاوية الدرقاوية، وحارس سيارات،ومستخدما بشركة لتصبير الزيتون وبائعا ل “خودنجال” ، وذلك قبل أن يلتحق بطاقم حمام في حي سيدي عبد العزيز التباع، أحد الرجالات السبعة المشاهير بمراكش. يتفنن عبد الكبير “الكعية” في تمرير “خرقة” سوداء على ظهر الزبون، الذي كان منبطحا وقد مد يديه ليبدو كأنه في لحظة عناق حميمية مع دلو أسود خيوطه تدلت من فرط الإستعمال، وكان كلما حك ظهر الرجل إلا وصب عليه بطاسة عريضة ما تضمه من ماء ساخن،أو فاتر وكان أيضا عندما ينتهي من حك عضو من أعضاءه يضرب براحته الإسفلت لتتطاير قطرات الماء الدقيقة، في إشارة إلى أنه سينتقل إلى عضو آخر، الكعية “سياق” مشهور بهذا الحمام، وزبناؤه كثيرون، وحسب بعض المستحمين يكفي أن تمنحه جسدك ليحولك إلى إنسان جديد آخر. ربما لذلك ، كان يقول الناس، ومن زمان، دخول الحمام ليس كالخروج منه ، وهو المثل الذي خرج من الحمام، ليشمل صفقات بيع مواد البناء الكبيرة، ودوائر المعاملات البنكية، وخبايا المضاربات العقارية، والتعليق على الزيجات الفاشلة،والإنسحابات الحزبية الغير المدروسة العواقب، والإرتماء في أحضان المشاريع الوهمية،والوثوق ب”الشوافات” والمعلبات والنمامات،والسيارات ولذة التملص من الضرائب إلى أن يضبط المتملص طبعا من طرف مفتشي مديرية الضرائب ، فيؤدي السابقات واللاحقات.... أومأت ل “الكعية” بأن دوري في “التكسال” سيأتي بعد الرجل الذي بين يديه ليخاطبني وعلامة الجهد بادية من كلامه، قائلا “أنت هو الرابع، أصبر شوية يا القنور حيث باقي رجالة تايتسناو، الحاج العباس و”ولد مولاي الحسين” و”الجيلالي “مول الدجاج”. وبالفعل، كانت الفرصة مناسبة كي ألاحظ كيفية اشتغاله على أجساد المستحمين، فعندما انتهى من حك جسد الزبون، من رأسه إلى أصابع قدميه، أمره بالإنبطاح أرضا وأن يضع جبهته على موزييك الحمام، جلس “الكعية”على ظهر الزبون، وجذب كتفيه من فوق حتى تقوس ظهره، حيث بدا “الكعية” كأنه يمتطي صهوة حصان خشبي، كتلك الأحصنة التي تتأرجح ذهابا وإيابا تحت تأرجحات الأطفال المشاكسين،أو كأنه “دون كيشوت” يصارع الطواحين ويظنها الأعداء، وكان كلما جذبه أكثر إلا وأصدر الزبون أصواتا أقرب إلى الآهات ليضرب براحته الأرض وهي إشارة إلى “الكعية” بأنه وصل إلى الحد الأقصى في عملية الجذب، بعد انتهاء هذه العملية أعاده إلى وضعه الطبيعي، ثم عاود الكرة مرة ثانية، لكن بطريقة مختلفة، إذ وضع يديه خلف رقبة الزبون، بعد أن تشابكت أصابعه لتتدلى رقبته، ثم جدبه مرة ثانية حتى تقوس ظهره وما إن مططه أكثر حتى ضرب الزبون براحته مرة أخرى على الأرض قائلا “باركا ...الله على راحة”، فبالرغم من كون الزبون كان يجد صعوبة في التحرك إلا أن جسده أصبح تحت يدي “الكسال” كقطعة مطاطية لدرجة أن الزبون بدا في آخر المطاف كبطل من أبطال “الجمباز” امتصت حركات “السياق” عياءه لترتسم على محياه المليء بالإحمرار علامات الرضا والإرتياح. والحق، أن مدينة مراكش لا زالت تزدهي من خلال حماماتها في حي القصور والقنارية وضبشي ورياض العروس،وباب دكالة، والمواسين وأسوال و إسبتيين وغيرها حريصة في الحفاظ على الحمامات التقليدية العريقة “البلدية” كما لا تزال ساكنتها وفية في رسم صورة فريدة عن “السياق” باعتباره رجل الأجواء الساخنة والأجساد العارقة بلا منازع . يؤكد التهامي 55 سنة المنحدر من مدينة قلعة السراغنة، ل “مراكش بريس” :أن “السياق” ضروري في المجتمع فأحيانا يجد المرء نفسه متعبا وعاجزا عن حمل الكيس أو “الشبكة” لحك بدنه وسرعان ما يجد أمامه رجل الخلاص الذي يغنيه عن عناء “الفرك والعرك” وإزالة الأوساخ، الذي ليس سوى ”السياق”. ويضيف التهامي بأن أجرته ليست محددة، فهناك من يمنحه عشرة دراهم، وآخر يمده بعشرين درهما وقليل من يتجاوز ذلك إلى الخمسين، فمدخوله من الحمام قد يفوق 100 درهم لكن أيام السبت والأحد وكذا الأعياد الدينية يتجاوز مبلغه اليومي أحيانا 300 درهم، لكن بالمقابل يسهر على نظافة الحمام طيلة مدة اشتغاله، فليس التهامي وحده من يقوم ب “تكسال” الزبناء، فهم أربعة “سياقة” يتناوبون على حك وتدليك المستحمين الراغبين في الإستفادة من خدماتهم. ثم أضاف التهامي ل “المراكشية”: “أن في مهنة “تكسالت” لا نعيش سوى مع الكرماء من ذوي الأريحية وأبناء العائلات، لكن الآخرين الذين يتعففون عن منح مبلغ 20 أو 30 درهم، فأظن أنهم يمنحون أكثر في الحمامات العصرية على غرار “الصونات”في الفنادق والمنتجعات والأحياء العصرية المراكشية التي يتقاضى فيها المدلك مبلغا محصورا ما بين 200 و500 درهم. ورغم أن صنعة السياق أصبحت تنافسها خدمة الحمامات العصرية، التي بدأت تظهر حتى في مراكش العتيقة ببعض الرياضات التي يملكها المغاربة والأجانب على حد سواء، نتيجة الطفرة السياحية التي تعرفها عاصمة يوسف بن تاشفين وصارت توفر لزبنائها مدلكين ذوي كفاءات واختصاصات في التدليك والتدليك الطبي مقابل مبالغ قد تصل إلى أكثر 1500 درهم أحيانا،”وافينك يا الكعية”. بوجمعة بدوره سياق قضى عشر سنوات في ممارسة هاته المهنة بأكثر من ستة حمامات بمراكش، بدءا من حمام في حي رياض الزيتون وانتهاء بحمام في حي أزلي، يقول إن هذه المهنة تمنحه شعورا دائما بالإرتياح، ولو أنها متعبة وتضعف طاقته باستمرار، ويرجع هذا الإرتياح يقول بوجمعة قائلا ل “مراكش بريس” :” أني أخدم الرجال بتطهيرهم وخدمتهم طيلة فترة تواجدهم بالحمام، لدا لا أشعر بالخجل وأنا أمارس هذه المهنة الشريفة بالرغم من كون البعض يسخر ويستلقي ضاحكا كلما سمع كلمة سياق، ففي سنة 1998 وجدت نفسي مطرودا من العمل بشركة لصناعة المواد البلاستيكية، فلم أجد بدا من أن أشتغل بالحمام، وبحمد الله فقد وفرت لي “تسياقت” طرف ديال الخبز حلال باش نعيش خمسة ديال النفوس”. ويضيف بوجمعة ل “مراكش بريس” أن البعض أصبح يفضل حمامات الصونا التي بدأت تتناسل في مراكش، بفعل الطفرة السياحية ودخول المستثمرين الأجانب لميدان الحمامات العصرية، التي تتوفر على مدلكين يعملون بأدوات خاصة في “التكسال” ويستعملون زيوت رياضية خاصة، ومستخلصات طبية وعطور مستخرجة من الأعشاب، ومرهمات طبية، وكل ما تفرضه الشريحة الإجتماعية التي ترتاد مثل هذه الحمامات الجديدة. والواقع،فإن “السياق” الذي يجعل طاقته وصحته في خدمة الزبناء، يبقى دوره أساسيا وهاما في المجتمع المراكشي والمغربي، إذ لولاه لما استطاع الشيخ العجوز،والمرهق والمتعب والمريض وذو الحاجة الإستحمام كما ينبغي، وليبقى السياق أطهر المخلوقات على وجه البسيطة، لا لشيء سوى أنه في استحمام دائم بعيد عن الدرن والقادورات ، وفي منأى عن الأوساخ والغبار. محمد القنور عدسة المصور الصحفي : محمد سماع