طنجة تستعيد أمجاد السياحة الثقافية، بعدما شهد رحاب المدينة العتيقة ترميم وتهيئة "برج النعام"، ليكون حاضنة لمركز ذاكرة ابن بطوطة، ومن خلاله ذاكرة كوكبة من المغاربة والأندلسيين، الذين أسهموا في إثراء المعرفة الإنسانية، كالشريف الإدريسي وابن جزي الكلبي والسلطان أبو عنان فارس. وبهذا الصرح تضيف مدينة طنجة إلى رصيدها من المعالم ذات النفع الثقافي، مؤسسة بمضامينها المعرفية والفنية والتقنية، ستقرب إرث ابن بطوطة وعصره إلى الأجيال المتعاقبة، بأسلوب يلبي ذوقهم الفني، ونهمهم المعرفي. إن برج النعام هذا، الواقع في أقصى شمال المدينة وأعلاها، والذي عُد في فترة زمنية "شعار المدينة"، الذي يمكن رؤيته من كل أطراف المدينة قبل توسعها العمراني الحديث. وحصنها الأمامي في مواجهة الهجمات البرتغالية والإسبانية خلال القرن الثامن عشر، كما استغل في أدوار جغرافية وسياسية متعددة. بالإضافة إلى هذه الخصائص الحضارية والتاريخية، فهو يتبوأ مقامه بين مكونات خريطة المدينة العتيقة، بما ترمز إليه من مكانة في وجدان أبناء المدينة، وما تتضمنه من عمران حضاري، وفضاءات ثقافية وسياحية، عمومية وخصوصية، تجعلها عامل جذب لكل زائر لعروس الشمال. فهو محاذي لقصر المتحف كبناء تاريخي، والجامع لما تفرق من نقوش ولقى في ربوع أحواز طنجة. ناهيك عن المعرض التشكيلي الدائم بجواره. هذا الزخم التاريخي والحضاري، يحيطه سور ضخم من الجحر المقاوم لعوادي الزمن والبشر، المقابل للبحر المتوسط، والذي يشعر الناظر إليه بهيبة التاريخ، وقساوة الجغرافية، وشجاعة وقوة من شيدوه. ناهيك عن الإطلالة البانورامية العابقة بكل معاني الجمال والبهاء، وأنت تملي العين والنفس من "باب البحر". في حضرة هذه الأبعاد الجغرافية الاستراتيجية والتاريخية، ينتصب اليوم ابن بطوطة مجسدا من رخام صقيل، أجادت أنامل مبدعه في نحت تقاسيم ملامحه ونحت سمته المتأبط لملخص رحلته: "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". هذا الكتاب كما يشير إلى ذلك مضمون الأروقة التي تزخر بها مقر "ذاكرة ابن بطوطة"، المعروف باسم رحلة ابن بطوطة، وقد تناوله بالدرس والتحليل العديد من الباحثين، وملهما لكثير من الرحالة الذين أتوا بعده. لقد جُعل هذا الفضاء إلى جانب تخليده اسم رحالة مغربي سارت بذكر مناقبه الركبان، أيضا فضاء يؤرخ للزمن المغربي في العهد المريني، الذي شهد انطلاقة الرحلة منذ أن كان الفتى ابن الواحد والعشرين من العمر، بغرض أداء مناسك الحج. فطالت الرحلة عبر طريق الحرير، الذي عرف مبادلات دينية وعلمية وثقافية إلى جانب المبادلات التجارية، فلكل هذا وغيره، كان ابن بطوطة بحق سفيرا للمغرب عبر هذه المحاور التي عبرها، والتقى فيها بالعديد من الملوك والسلاطين، الذين حظي عندهم بشرف الاستقبال والضيافة. وكان منهم من كلفه بمهام القضاء، كما هو الحال في جزر المالديف. فبإيعاز من السلطان المريني (أبو عنان فارس)، المشهور باهتمامه بالمدارس والمساجد، تكلف ابن جزي المؤرخ والفقيه والشاعر الأندلسي، والكاتب في بلاط السلطان، بكتابة فصول الرحلة، بعدما تعهد ابن بطوطة بسرد تفاصيل الرحلة. وتتيح زيارة الذاكرة، بمعرفة المزيد عن الرحلة وظروف كتابتها، في الرواق المخصص للسمعي البصري كما يسردها المؤرخون، وخصوصا المؤرخ عبد الهادي التازي. بالإضافة إلى المعروضات لوسائل النقل البرية والبحرية والمعينات التقنية لتلك الفترة. يجد الزائر والمهتم ضالته في إرواء ظمئه التاريخي، لحقبة زمنية مهمة من تاريخ المغرب، لا تغفل أي فئة عمرية. فقد جُعل للأطفال قاعة خاصة مزودة بالألواح الإلكترونية، تثير انتباه الناشئين وتجبرهم على مزيد اطلاع وبحث، بأسلوب مشوق ونشط ومريح. ومن غريب الأقدار أن يتزامن افتتاح فضاء ذاكرة ابن بطوطة، مع زمن وبائي يعرفه العالم، وهو ما يذكرها بظروف عودة ابن بطوطة إلى المغرب في أواخر يوليو 1348م، الذي تزامن مع وباء الطاعون الأسود الذي ضرب دول أوروبا والشرق الأوسط. مما اضطر الرحالة إلى قطع رحلته والتعجيل بالعودة، لكن الوباء الحالي كان فاتحة خير على الثقافة بهذا البلد الأمين وتاريخه المجيد، وحفظ ذاكرته من الضياع والنسيان. وفرصة لتمكين الأجيال الحالية والقادمة من قاعدة حضارية لبناء حاضر ومستقبل أكثر إشراقا وتألقا. فهنيئا لساكنة طنجة وزائريها والمغاربة بهذا الصرح الثقافي الذي يعرف بنا، ويلهم الناشئة بمزيد عطاء.