تحدث الكثير من الباحثين والعلماء عن نظريات متعددة في صناعة الرأي العام في العالم الغربي، ومنذ سنوات ظل باحثونا ومثقفونا يسقطون تلك النظريات على واقعنا العربي متناسين أن منطقتنا ومن يحكمها يتقن فن الهدم على فن الصناعة والتقدم. من خلال مسألة التأثير على الرأي العام، ظهرت تفاوتت آراء الباحثين في مدى فعلها وتفاعلها مع الواقع العربي، وقد ساهمت التحولات التي عاشها الإعلام العربي منذ التسعينيات في التبشير بالتأثير الإيجابي للفضائيات خاصة في الرأي العام العربي بما يخدم تغيير وإصلاح الأوضاع المزرية في المنطقة العربية ككل. ثم جاءت حقبة الإنترنت وما ارتبط بها ثورات تكنولوجية ومعلوماتية واتصالية وإعلامية لتعزز تصورات وآمال الباحثين والمتتبعين في دور الإعلام والوسائل الاتصالية الجديدة في خلق رأي عام يصنع هذا التغيير والإصلاح ويذود عنه، وقد زكّت ثروات الربيع العربي هذه الآمال والتصورات. ومع سقوط الرؤوس لا الأنظمة، وغياب قيادات ورؤى وبرامج تعزز مكاسب الربيع العربي، ومع تذبذب محاولات الإصلاح وكبوات من تحمل المسؤولية ومحاولات خنقه وطعنه واغتياله، وفي ظل ماكينة بحث متعددة ونشطة ومتفاعلة في الغرب للبحث في كيفية الحفاظ على مصالحه في العالم العربي، عاد السؤال ليطرح نفسه من جديد بشأن تأثير وسائل الإعلام العربي في مسار الإصلاح والتغيير أو الحؤول دونه، ودورها في التأثير على الرأي العام بما يعزز هذا المسار. فقد ظل الإعلام العربي الرسمي ينتهج نفس النهج في اختيار الأخبار وغربلتها وصياغتها وفق ما يريد إيصاله من رسائل للرأي العام، ورغم أنه قدم برامج تحليلية وحوارية جديدة الشكل فإنها بقيت محكومة في مضمونها بالرؤية القديمة للتأثير على الرأي العام وفق أجندة واضعيها. كما أن الأنظمة العربية لم تتنازل بعد عن الإعلام للمجتمع المدني بما فيه من أحزاب وجمعيات ورجال أعمال ومثقفين، ولم تسمح إلا بجرائد خاصة محدودة ومحاصرة معنويا وماديا، وبإذاعات منوعات خاصة، ومن أجل الديكور والديمقراطية الشكلية تسمح الأنظمة ببعض الأخبار السريعة والوجوه الإصلاحية التي يكون تأثيرها باهتا أو عكسيا أو يمتص نقمة شعبية، بالمقابل تقوم بكل ما يلزم من أجل إبعاد الإعلام الإقليمي والدولي عن محيطها الوطني والتشويش والتضييق عليه رغم ما عليه من ملاحظات. ولا بد من الإشارة إلى أن عقلية الضبط والسيطرة في منطقتنا هي نفس العقلية التي تحكم عمل الدول الغربية في تعزيز سيطرتها على الإعلام ووسائل الاتصال، أقمارا اصطناعية وكالات وقنوات وإنترنتا وغيرها، فهي تعرف أهمية القوة الناعمة في تعزيز سيطرتها وتمديدها، ودورها في التأثير الفعال في الرأي العام بما يخدم مصالحها. في المقابل نجد أن هذه الجمعيات والأحزاب المعارضة مكتفية بجريدة يتيمة أو موقع إلكتروني مغمور لا يقرأ مواده إلا أفرادها وباحثون ومثقفون ورجال الأمن والمخابرات. ومن هنا فتأثير قوى الإصلاح خافت وباهت، بل منعدم خاصة لتلك القوى التي لا تزال تناقش أهمية الإعلام في التأثير الإيجابي أو السلبي لمسار الإصلاح والتغيير، ودعم مشاريعها! إجراءات أنظمتنا العربية وغياب قوى الإصلاح عن الإعلام، تبين أن الإعلام العربي لا يلعب دورا إيجابيا في التأثير على الرأي العام بما يخدم مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي.. وهو ما يجعل آراء الباحثين والمتتبعين خلاصات مغلوطة أو إسقاطات لتجارب الآخرين على تجاربنا هذا من جهة. من جهة ثانية، فالبحوث التي تجرى لقياس الرأي العام وتأثير الإعلام ودوره تركز على الجمهور المثقف، مع استحضار أن المثقف درجات ومستويات سواء من ناحية الدرجة العلمية أو من ناحية متابعة التكوين أو البحث أو من ناحية شمولية الاطلاع والمتابعة! فتبعا لطبيعة وإجراءات البحث، يجري التركيز على الفئة المتعلمة والمثقفة سواء كانوا طلابا أو صحافيين أو أكاديميين أو باحثين أو ناشطين وغيرهم، في حين لا تجرى بحوث على الرأي العام العادي أو "الأمي"، بما في ذلك المتعلمون الذين اكتفوا بالشهادات وبتتبع الإعلام فقط. هذا الرأي العام العادي (أو المواطن الصالح بالمفهوم المتخلف القديم) يمثل الأغلبية في مجتمعاتنا العربية، وهم محط التأثير والتغيير والإصلاح أو العكس، هذه الفئة العريضة لا تسمح الأنظمة بالتعامل معها عبر وسائل الإعلام ولا حتى بالتواصل المباشر، ولعل مواطني وأبناء القرى والبوادي مثال حي على أنه لا يمكن لأي ناشط بيئي أو ثقافي أو سياسي أن يتواصل معهم من دون موافقة السلطات ومراقبتها. من ناحية ثالثة –وهذا هو الأهم- ما التأثير الذي نتحدث عنه؟ هل نتحدث عن التأثير الآني والقريب المفعول أم المتوسط أم البعيد المفعول؟! وما هي أشكال التأثير في الرأي العام التي تركز عليها قوى الإصلاح والتغيير وأيضا البحث العلمي؟ أليس التأثير موجودا في كل وسائل الإعلام والاتصال القديمة والحديثة من إذاعة وسينما ومسرح وفعاليات فنية وثقافية وسياحية وعلمية وفكرية ومن صحافة وتلفزيون ومواقع إلكترونية تواصلية وغيرها الكثير؟ كيف نعرف مدى التأثير المبثوث في جميع هذه الوسائل الاتصالية؟ ألا يمكن أن يتم بث التأثير الواحد بأشكال وألوان متعددة وبجرعات متفاوتة من قناة اتصالية إلى أخرى؟! ألا توجد وحدات وهيئات تتابع وسائل الإعلام في كل بلد على حدة؟ أليس من وظائف تلك الهيئات مراقبة المواد المنشورة إلى درجة أن كلمة ترفع صحفيا وتخلع آخر كما حدث مع المذيع المغربي مصطفى العلوي وغيره؟ في الحقيقة السؤال الأهم والأكبر الذي على البحث الإعلامي أن يركز عليه هو هل تملك قوى الإصلاح والتغيير بالعالم العربي وسائل إعلامية أصلا لإحداث التغيير وتعزيزه؟! وما هي المساحة المخصصة لها بين الجمهور إن وجدت؟! ما حجم حضور هذه القوى على الإنترنت؟ وهي الساحة الافتراضية التواصلية التي انتبهت الأنظمة إلى دورها فخصصت لها "الجيش الإلكتروني" و"وحدات معالجة المعلومات" وغيرها من الهيئات والمؤسسات التي تعمل على توجيه الرأي العام والتأثير فيه بما يخدم مسار الثبات والجمود بدل التقويم والإصلاح. علما بأن الإنترنت لم تكن مساحة حرة للعالم العربي والآسيوي والأوروبي حيث سيطرت عليه أمريكا ولم تفرط فيه من أجل عولمة ثقافتها ورؤيتها وسيطرتها، غير أن انتباه قوى الإصلاح حول العالم لأهمية الشبكة التواصلية دفع القوى المسيطرة إلى خلق صفحات ومواقع وقراصنة وغيرها من الأشكال لنشر الدعاية والكذب وتعميم الفوضى الخلاقة التي تتحكم أو تشوش على الأقل على الرأي العام الإلكتروني، وقد انتبهت أنظمتنا العربية للفراغ الذي بدأت تملأه قوى الإصلاح فصنعت هي الأخرى مواقع وصفحات تفاعلية وتواصلية توجه بها من ناحية رأيها العام، ومن ناحية أخرى وضعت قوانين تحد من حرية النشر والتعبير، ناهيك عن محاكمة الصحافيين والناشطين الإلكترونيين بالقانون الجنائي وقانون "الإرهاب". كل هذه المعطيات وغيرها تثير إشكاليات حقيقة لا بد من العودة لنقاشها وبحثها في إطار سؤال كبير: عن أي أدوار أو تأثيرات نتحدث من أجل إنجاح مسار التقويم والإصلاح بالعالم العربي؟...