تحركت هيئات المجلس الأعلى للتربية والتكوين، مؤخرا، بإصدار ثمانية آراء حول مجموعة من المشاريع لتفعيل إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، كما صنع المجلس الأعلى للتربية والتكوين قبل أسابيع جدلا إعلاميا واجتماعيا كبيرا وهو ينشر بيانات صادمة حول مكتسبات التلاميذ في اللغات والعلوم خصوصا في المستوى السادس والمستوى الثالثة ثانوي إعدادي انطلاقا من التقرير التحليلي للبرنامج الوطني لتقييم مكتسبات التلاميذ، وهي أرقام أضحت عادية لا تثير الهلع رغم قساوتها لكثرة ترددها في ظل الأزمة التي تتخبط فيها المنظومة التعليمية منذ عقود. في الجهة المقابلة خاض شكيب بنموسى، وزير التربية الوطنية الجديد، معركة حقيقية على جبهات متعددة لإقرار تصوره الجديد حول مواصفات أستاذ الغد وإرجاع الهيبة إلى مهنة التدريس وجعلها ذات جاذبية، في وقت كان الجميع بمن فيهم زملاؤه في الحكومة ينتظرون تراجعه عن الشروط المستجدة التي وضعها لولوج مهنة التدريس تحت ضغط الشارع ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث أضحى التعليم مهنة من لا مهنة له ووسيلة لامتصاص بطالة الخريجين الجامعيين. إذن في ظل هذا الفوران التشريعي التربوي والتخمة البيداغوجية يبدو أننا لا نقترب تماما من الفصول الدراسية ولا ندخل عمقها حيث يوجد التلميذ المستهدف الأول بكل هذا الحراك التربوي، ونقف دائما على أعتاب الأقسام الدراسية دون الجرأة في اقتحام الفصول الدراسية لتحقيق التعلمات الأساس للجميع، ليبقى التلميذ فقط رقما إحصائيا في التقارير الوطنية والدولية، كل يوظفه على هواه ومبتغاه وأهدافه. لنتذكر جميعا أنه وقبل سنوات حينما أخذت نجاة بلقاسم وزارة التربية الوطنية الفرنسية لم تنغمس في الجدل الإصلاحي وهي ترى بلد الأنوار يتقهقر في الترتيب التربوي العالمي، بل توجهت رأسا إلى التلميذ بكلمات بسيطة وحازمة بأن فرضت حصصا إجبارية للإملاء والحساب الذهني والقراءة يوميا في جميع مدارس فرنسا لمنح المتعلمين آليات عملية لتحرير عقولهم والسماح لهم بوضع أفضل لتعلم أشياء معقدة، وبعدها كما قالت الوزيرة الفرنسية نرى ما سنعمله في الأمور الأخرى. ولعل وزيرنا في التربية يتذكر تلك التعبئة التي شملت فرنسا برمتها بإجراءات سهلة؛ لكنها نافذة إلى عمق التكوين الصلب للمتعلم، فالحفظ والترديد والتدريب اليومي للصغار على الإملاء والقراءة والحساب الذهني مدخل مثالي لبناء أساسات متينة لتعلم الإبداع والتفكير الحر فيما بعد... والأهم هو أن التلميذ حينما يترك المدرسة الابتدائية عليه أن يعرف كيف يقرأ ويكتب ويحسب ويتحدث شفهيا، فبدون هذا الإتقان التام لجميع التلاميذ والتلميذات لا تحدثني عن جودة التعليم والمصطلحات البيداغوجية الفخمة التي تصلح لتزيين صالونات المحاضرات وليس لإنقاذ مدرسة يراها الجميع تغرق؛ لكن لا أحد له الجرأة لانتشالها من غياهب التأخر ولو كلفه ذلك سمعته. قصة مشابهة حدثت في الولاياتالمتحدةالأمريكية بداية الألفية الجديدة حينما استشعرت مؤسساتها التربوية تراجعا في نتائج مادة الرياضيات لدى طلبة التعليم الثانوي وتحييد ممثلي البلد في أولمبياد الرياضيات العالمي من المراتب الثلاث الأولى، فقامت عاصفة من الانتقادات لم تهدأ إلا بعد تفكيك أسباب التراجع وتغيير شامل لبيداغوجيا تدريس الرياضيات وفق أحدث النظريات التربوية والممارسات المهنية حتى يستعيد التلميذ الأمريكي تميزه في الرياضيات وطنيا وعالميا وبالتالي ريادته في العلوم كافة؛ بينما في بلدنا تم إفراغ شعبة العلوم الرياضية جوهرة التعليم المغربي وخزان عقوله المستقبلية من بريقها وسلبت منها امتيازات عديدة وأضحت الامتحانات في هذه الشعبة أشبه بنزهة تطبيقية. أما أولمبياد الرياضيات المغربي فيبقى رهينا بمجهودات فردية للتلاميذ وتكوينات هزيلة كما وكيفا ودعم محدود لا يرقى لصنع أبطال دوليين. مثال ثالث لأولوية التلميذ فعلا لا قولا من بريطانيا، حيث لم يجد وزير التعليم البريطاني زمن كاميرون أي حرج في النزول بنفسه إلى ثانويات عمومية دون تدابير مسبقة قد تفسد أهداف الزيارة ومقاسمة الطلبة يومهم التعليمي كاملا داخل الفصول الدراسية وكأنه تلميذ جديد معهم يناقش ويحاور ويتتبع حصصا مختلفة ليتعرف طرق تصريف المنهج التربوي على أرض الواقع ويخرج برؤية واضحة لنوع الإصلاح المطلوب الذي يمس المتعلم بصورة مباشرة بعيدا عن تصور المكاتب الإدارية والتقارير الرديئة وشكاوي النقابيين التي لا تنتهي؛ فالتلميذ عندهم هو الأساس والغاية، والنهر الذي تصب فيه كل الوديان ليبقى جاريا... ولو فعلها السيد شكيب بنموسى وهو الخبير بجلسات الإنصات والاستماع ونزل بمؤسسات تعليمية بطريقة غير مرتبة سلفا وشارك المتعلمين حجرتهم الدراسية لمدة كافية، خصوصا في التعليم الثانوي بنوعيه، منصتا للدرس المقدم ومستمعا للتلاميذ فقط دون الأساتذة والإداريين لخرج بخلاصات ثقيلة وحسم في ملفات تمس جوهر مشكلات التعليم ببلدنا، خصوصا ملف المناهج التربوية والكتاب المتعدد والمراقبة المستمرة وامتحانات البكالوريا، وكذا الساعات الخصوصية التي أصبحت عبئا ثقيلا يثقل الآباء ويقتل تكافؤ الفرص ويفرغ الأساتذة من ضميرهم المهني تحت جشع المال ويؤسس لثقافة الغش والمحسوبية. لقد حان الوقت لمثل هذه التدخلات العاجلة لإنقاذ الرؤية الإستراتيجية من الفشل بعد سبع سنوات عجاف تخللها فائض في التنظير والتشخيص وإسهال في الحلول المتشعبة والمتداخلة في محاور متعددة كتبت في أبراج عالية؛ لكنها لم تستطع النفاذ إلى مصلحة الطفل المغربي القصوى، باستثناء جهد تعميم التعليم الأولي.. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستمرار في سياسة دعه يمر دعه ينجح تحت مبرر أن الدولة غير قادرة ماديا على توفير ظروف مريحة للتعلم لكل من الأستاذ والمتعلم؛ وبالتالي، فالتساهل جائز.. إن الأمر اليوم يتعلق بنموذج تنموي جديد قاطرته التعليم، ولن يستطيع قطار التنمية الجديد الإقلاع إذا لم نعالج جسد التعليم بصدمات كهربائية سريعة تنعش قلب الأقسام الدراسية التي يتواجد بها بنات وأولاد متحمسون، فخورون بوطنهم ومتعطشون للمعرفة والعلم، وإلا سنكون مجبرين بعد سنوات على التباكي عن فرصة أخرى ضائعة للإصلاح. ألم يحن الوقت مثلا لكي يبقى معلم الابتدائي مع تلامذته ثلاث سنوات كاملة من المستوى الأول حتى المستوى الثالث أو من المستوى الثالث حتى المستوى السادس ليتسنى له إكمال أهدافه التعليمية مع متعلميه، ويظهر عمله للعيان واضحا وجليا ويمكن بالتالي محاسبته عن كل تقصير في عمله أو تميز في إنجازه، هل من الضروري أن يتشبث أستاذ بتدريس مستوى واحد عشرين عاما كاملة تحت مبررات واهية يكون ضحيتها التلميذ المغربي، علما أنه في بلد كفنلندا يصعد أستاذ اللغات مع متعلميه وهو المتسلح بدكتوراه في تخصصه حتى سنة البكالوريا لأنه الأعلم بتطور مستوى متعلميه، لماذا لا تتغير قواعد الحركات الانتقالية التي أصبحت مائعة إلى درجة يمكن معها الانتقال كل سنة للتهرب من المسؤولية؟ ولماذا لا تكون دورية كل ثلاث سنوات لنمنح الفرصة لاستقرار الأطر التربوية وتراكم عملها التدريسي باعتبار مصلحة الطفل فوق مصلحة الجميع، ولا يمكن أبدا أن يصبح الالتحاق بالزوج أو الزوجة حقا مقدسا يدوس مصلحة التلميذ؟ وهل إعلان الحركات الانتقالية وسط السنة لا يضر بحقوق التلاميذ حيث تتراجع مردودية جل المنتقلين والمنتقلات بصورة واضحة؟ ألا يمكن إعادة النظر في عتبات النجاح والرسوب ومعها مواد المراقبة المستمرة والاختبارات عوض البقاء رهائن لبرنامج معلوماتي اسمه مسار، حيث ينجح تلميذ فقط بنقط مرتفعة في مواد هامشية لكنه لا يفقه في التعلمات الأساس التي بدونها لا يستقيم تعلم مثمر في المستوى الموالي وهي اللغات والرياضيات في السلكين الابتدائي والإعدادي؟ ألم يصل نظام البكالوريا المعتمد منذ عقدين في التعليم الثانوي التأهيلي إلى استنفاد طاقته بالكامل وحان وقت تغييره بنظرة مستقبلية تراعي متغيرات تدريس اللغات والعلوم وسوق الشغل؟ إنها أسئلة تستحق التوقف عندها، لأنها تمس التلميذ مباشرة وغيرها كثير؛ لكننا نتجاهلها عنوة ونخضع لتهديدات النقابات التي لا تخرج أنيابها البتة إذا ما تعلق الأمر بمصلحة التلميذ المباشرة وتشحذ سكاكينها جيدا في المسائل الأخرى، حيث يؤكل الكتف وما البرنامج الاستعجالي وأمواله المبعثرة عنا ببعيد. إنني أوكد أننا إذا استطعنا تغيير جوهر الفصول الدراسية بقرارات حاسمة ومؤلمة أحيانا تضع مصلحة الطفل المغربي فوق كل اعتبار سنكون على وشك ربح حقيقي لمعركة إصلاح التعليم في زمن سيكون البقاء فيه لمن يحسن الاستثمار في طاقاته البشرية شبابا وشابات.. الأمر ليس مستحيلا، فقط على الإصلاح أن يتشجع ويقتحم أبواب الحجرات الدراسية بقرارات حاسمة تتماشى مع الرؤية الإستراتيجية والنموذج التنموي وتمس التلميذ مباشرة.