لا شك أن قضية الصحراء تتجاوز بالنسبة للمغاربة ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وتتخطى ما هو قانوني ودبلوماسي لتأخذ بمبدأ أعمق في الوجدان والضمير المشترك حيث ترتبط بالأهل والعرض والكرامة وتلبس رداء المعتقد والمقدس وتشكل في موروثنا الجماعي قضية الوطن الأولى. ولأنها كذلك وربما أكثر، فقد أعلنها صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله بكلمات صريحة واضحة وقع صداها في القلوب مباشرة، حيث أكد في خطابه السامي أمام ممثلي الأمة يوم 11 أكتوبر الماضي " إن قضية الصحراء ليست فقط مسؤولية ملك البلاد وإنما هي أيضا قضية الجميع : مؤسسات الدولة والبرلمان والمجالس المنتخبة وكافة الفعاليات السياسية والنقابية والاقتصادية وهيئات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وجميع المواطنين ". إنها رسالة أكدت على معطى أساسي وهو أن النوايا الطيبة لوحدها لا تكفي للتعبير عن الحب وأن الارتباط يقتضي الالتزام والمبادرة، وهو ما قام به القضاة الرواد الأوائل، حيث ترك لنا التاريخ العديد من الحفريات والوثائق والدلائل التي تشهد بدورهم النضالي الكبير في أحلك الظروف، من خلال محافظتهم على استقلالهم وعلى قدسية مهامهم، بل ووهبوا حياتهم حفاظا على وحدة هذا الوطن، وها هي أرض معركة النملان ما تزال تفخر بدمائهم. تلك الملحمة الجهادية التي وثقها أحد المشاركين فيها وهو قاضي حمراء مراكش محمد المدني بن مبارك الغرفي بتاريخ 6 رمضان 1906 كما لا يمكننا أن ننسى الحملة الوطنية التي قادها أحد القضاة الأفاضل الفقيه أحمد بن محمد بن عبد الله الزدوتي إثر توصله برسالة وجهها له الشيخ ماء العينين أحمد الهبة بن الشيخ ماء العينين بتاريخ 12 أبريل 1914، طالبا منه توطيد العزم في نفوس الفقهاء والعلماء والشرفاء والمرابطين في قبائل الرحالة وسجتانة وسمكة ومنابهة وجزولة لمحاربة المستعمر الفرنسي. كما استطاع قضاتنا محاربة " أسبنة " الأحكام بالمناطق الجنوبية. رغم محاولات السلطات الاستعمارية الاسبانية بث التفرقة وعوامل التقهقر، حيث رفض القضاء أن تصدر الأحكام بنفس الاسم الذي تصدر عليه الأحكام الاسبانية، كما رفضوا أن يتعايش القضاءان العصري والشرعي حيث بقي هذا الأخير مترسخا متغلغلا في النفوس يلجأ إليه لفض المنازعات واستلهام الحلول والفتاوى. ولعله بعد كل هذا لن يكون غريبا أن نجد وثيقة تحديد البيعة التاريخية التي تقدمت بها قبائل واد الذهب سنة 1979 أمام المغفور له الملك الحسن الثاني، هي بقلم القاضي البلدي أحمد حبيب الله برابوه. إذن نحن أمام تراث كبير ومدرسة للعبر مطالبون بالمحافظة عليها أولا والتعريف بها للأجيال القادمة لمن لم يعيشوا أجواء المسيرة وقوافلها المباركة ولم يرددوا مع جيل الرواد قسما خالدا صادقا انبثق عن قلوب آمنت بعدالة القضية وقانونيتها حتى قبل أن تصدر محكمة العدل الدولية حكمها الذي جاء فيه: " كانت بين الصحراء والمملكة المغربية روابط قانونية وروابط ولاء" إن مسؤوليتنا كقضاة سواء على المستوى الفردي أو من خلال تأطيراتنا الجمعوية أصبحت أكثر إلحاحية أمام دقة المرحلة، لأننا أمام معركة تحمل جوانب قانونية حقيقية يتعين موجهتها بسلاح الحجة والوثيقة والدليل وهو ما لا يعوزنا أو ينقصنا إذ يكفي التنقيب عنها والتعريف بها وطنيا ودوليا واستخدام كافة آليات التواصل الاجتماعي واستثمار كل الفرص المتاحة من لقاءات ومؤتمرات وندوات وزيارات لحشد التأييد ومواجهة الطروحات المتهافتة لخصوم وحدتنا الترابية، وأعتقد أنه سبق لنا كجمعيات مهنية أن قدمنا الدليل على قدرتنا على المبادرة الإيجابية عندما أصدرنا بيانا مشتركا بتاريخ 20/04/2013 بخصوص مشروع توسعة مهام بعثة المينورسو ليشمل مراقبة حقوق الإنسان حيث اعتبرناه انتهاكا للدستور وخطا أحمرا لا يمكن السماح بالتطاول عليه من قبل أي جهة وتحت أي غطاء أو تبرير كما تقتضي الأمانة أن أنوه بالمجهود العلمي القيم الذي قامت به محكمة النقض في هذا السياق من خلال تنظيمها لندوة وطنية كبرى حول موضوع: " وحدة المملكة من خلال القضاء" شارك فيها عدد هام من أعلام القضاء والفقه والتاريخ والدبلوماسية الذين أكدوا من وجهات نظر مختلفة على وحدة هذا الوطن وعراقته. هذا العمل الهام تم توثيقه من خلال مؤلف قيم ونشر بأكمله على الموقع الالكتروني للمحكمة ليطلع عليه العموم ويمكن أن يشكل أرضية بحث هامة للدارسين والسياسيين وكل الفاعلين مباشرة في قضية وحدتنا الترابية خاصة ونحن نعلم ضعف عملية التوثيق بصفة عامة للذاكرة المغربية وهذا ما يجعلني أطالب بضرورة إنشاء مرصد وطني يعمل على إنشاء قاعدة بيانات ومعطيات تهم الوثائق والصور على اختلاف دعاماتها وإنجاز دلائل ودراسات ذات الصلة بقضيتنا والكل في إطار خطة مضبوطة بأهداف محددة ورؤية واضحة بعيدا عن الفكر المناسباتي وردود الأفعال المتأخرة. إننا أمام تراث قضائي مغربي حرسته الصحراء ذاكرة عن ذاكرة وجيلا بعد جيل وأحاطته بالعناية حفظا وتلقينا حيث لم يتراجع أمام زحف الغزاة والمستعمرين ومكر المتآمرين. ونحن أيضا أمام مشاعر قوية بسعادة الانتماء لهذه الأرض العظيمة الواحدة الموحدة التي أنبتت في صحراءها كما في بقية ربوع المملكة نخبة من القضاة والفقهاء والعلماء مشكلة بذلك خزانا عظيما من الطاقات الوطنية الخلاقة التي يجب عليها الآن أن تبر بقسم المسيرة الخالد: " أقسم بالله العلي العظيم أن أبقى وفيا لروح المسيرة الخضراء مكافحا عن وحدة وطني من البوغاز إلى الصحراء، أقسم بالله العلي العظيم أن ألقن هذا القسم لأسرتي وعشيرتي في سري وعلانيتي والله سبحانه هو الرقيب على طويتي وصدق نيتي ". إنه نداء الأمانة الوطنية والضمير المسؤول. *رئيس قسم التوثيق والدراسات والبحث