بادئ الأمر، يجب أن نتفق أن السكن الاجتماعي (أو السكن الاقتصادي) في المغرب، ليس هو نفسه السكن الشعبي أو الحكومي كما يسمى في بعض الدول العربية، والذي يرتبط بفئة مأزومة من الفقراء. وليس هو "الإسكان الاجتماعي" الذي يعرف في بريطانيا كنمط يمول من موارد حكومية وعامة، يُرعى فيه المعايير الاجتماعية في التوزيع. هذا النمط - السكن الاجتماعي- ظهر نتيجة ظروف سوسيو-اقتصادية، وتتمثل غايته في إعادة تطوير التجمعات الحضرية في المغرب وتشجيع ذوي الدخل المتوسط للخروج من غياهب السكن الغير اللائق. وتهدف، حسب تصريحات رسمية، مثل هذه المشاريع إلى محاربة السكن العشوائي على الخصوص والقضاء على دور الصفيح (ما يقارب 60 مدينة يجب أن تعلن عن خلوها من هذه الظاهرة في أفق 2016). ويكمن جوهر الاختلاف فيه، في احتواءه فئات مجتمعية مختلفة كأساتذة وموظفين وعمال... تختلف درجة معيشتهم، مما يجعل منه نمطا جديدا يعرفه المغرب. لكن ما الذي يخفيه هذا النمط السكني الجديد؟ وكيف يستوجب التعامل داخله في علاقاته الميدانية؛ مثل الجنس والمجتمع المدني والدين؟ وكيف يؤثر توسعه السريع على الشخصية المغربية؟ سياسة الدولة نشأت هذه المشاريع - مجمعات السكن الاجتماعي - كحل مناسب لدوي الدخل المحدود، وأيضا في نطاق مشاريع الدولة لتوسيع المجال الحضري الذي اتسم مؤخرا بالتضخم السكاني وبالنمو الديمغرافي السريع... وإن كان هذا صحيحا ومقبولا فإن ذلك لم يكن نتيجة خطة مدروسة (سنوات دراسة المشاريع)، بل كان هدفا ذو جوانب سياسوية ربحية صرفة تحت غطاء متلوّن، لم تراعي فيها الدولة العجز الناجم عن اضطراب النظام في كل تنظيم اجتماعي جديد، وتأثير ذلك على المسارات الفردية. ويؤكد هذا غياب دراسة (علمية وعملية) عنه اجتماعيا. وبالتالي يبقى نمطا لا يجب الوقوف عند أرقامه الاقتصادية فقط، بل وجب تجاوزه كظاهرة تستلزم آليات البحث الميداني. يرفض الباحث المغربي إدريس الكراوي في كتابه "المغرب والمستقبل: تأملات في الاقتصاد والمجتمع"، أن يتم حصر كل الاختلالات والعجز التنموي في العوامل المالية. ويرجح النمو إلى "الدولة التي تضع استراتيجية تنموية يصبح فيها الإنسان مركز اهتمام الدولة والمجتمع.. والاهتمام بقيم العمل والمعرفة، وإخضاع السياسة الاقتصادية للمتطلبات الاجتماعية والثقافية". ويرى الباحث في كتابه أن التكامل الوظيفي بين الاقتصادي والاجتماعي يتطلب "الاحتكام إلى جيل جديد من النماذج التنموية مبني على القانون والمؤسسات.. والمبادرة الفردية والجماعية، والإبداع، والتدبير التشاركي للاقتصاد والمجتمع، وكذا على تحديد أدوار جديدة للدولة داخل اقتصاد منفتح وطنيا ودوليا." وأقتطف كلاما من بحث أنجز لنيل رسالة الدكتوراه حول السكن الشعبي-الاقتصادي في سوريا، أوْلت فيه الباحثة فاديا قندقجي الأهمية إلى "مراعاة نظم وسياسات الإسكان للأبعاد الإنسانية والاجتماعية مع التنويه إلى وجوب التعامل مع المستفيد كمبدع لراحته، ومن ثم منحه من الوسائل ما يتيح له التأثير المباشر في مسكنه و بيئته السكنية. ولتحقيق ذلك وجب العمل على تطبيق "مبدأ الجهود الذاتية" كاتجاه يجعل من المستفيد عنصراً نشطاً وفعالاً في الدورة السكنية. ويمكن لهذا التأثير أن يتحقق بدرجات متفاوتة بدءاً من مشاركة المستفيد في العملية التصميمية ووصولاً إلى إنجازه كامل مسكنه". ويمكن تسمية هذه الفكرة ب"الديمقراطية الاجتماعية". ولمعرفة ماهية المشاكل التي تؤثر على التطور البشري في كل بلد، يكفي النظر إلى عمل وخطة مؤسساته الرسمية في الأماكن الشعبية والمتوسطة. وهو ما يسميه متخصصو السياسة الاجتماعية ب"الرعاية الايجابية" مقابل خطة "الاستبعاد الاجتماعي". وبالحديث عن الرعاية الاجتماعية أو الثقافية، فالكلام يقترب من نماذج بعض الخصوصيات الاجتماعية لهذه المجمعات السكنية كخصوصية السكن المشترك الجماعي، باعتباره نمطا يعرف إقبالا متزايدا في المغرب، وتؤثر سماته "السكنية الجوهرية على الأفراد من سكانها مباشرة، في اتجاه تقليل الفرص أو زيادة التحديات،.. كما يمكن لهذه السمات المباشرة أن تمارس تأثيرها من خلال آثار التركيز البشري كالتغيرات في الاتجاهات، والسلوك، والتفاعلات مع الآخرين". (الاستبعاد الاجتماعي-روث لبتون)، ومن هنا يبرز التساؤل عن الفعل المشترك أو التدبير التشاركي. الفعل المشترك، والمجتمع المدني لحد علمي، لا أعرف دراسة علمية لهذا النمط (السكن الاجتماعي كما وضحنا أعلاه) لطبيعة العيش اجتماعيا وثقافيا! أصبحت هذه المجمعات لاتساع مساحتها تشكل أحياء مستقلة، إذ نجد بها مدارس وأسواق ومراكز أمنية وصحية ومساجد (قد تستقل بتوجهها الخاص).. ونعرف أيضا، أن أغلب سكانها جاؤوا من مناطق مختلفة (تربية وتعليما) وتجاوروا. ومنهم من مسكنه ومشغله ومأواه العائلي لا يتيح له الخروج من أجواء الحي إلا نادرا ! لكن كيف يدبرون أمورهم الاجتماعية في ما بينهم ؟ وما مدى تأثير هذا "الانعزال الجديد" على ما أسماه عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم ب "الضمير الجمعي" وإمكانية "التضامن العضوي"؟ وهل سنعرف في السنوات المقبلة محوا للخصوصيات الثقافية عند كل مجتمع ؟؟ الحديث هنا عن طرق تفكير وعمل لا عن تنظيرات. هذه التساؤلات العرضية يجب أن تشغل حيزا بين أوراق الباحثين وعلماء الاجتماع المغاربة. ولهذا أشار أحد رواد علم الاجتماع الأمريكي المعاصر"ألفن جولدنار"، إلى "أننا في علم الاجتماع، لسنا في حاجة إلى تنظيرات جديدة، وإنما في حاجة إلى مجتمعات جديدة، وفي حاجة إلى دراسة وتوكيد الظروف الاجتماعية المفضية إلى تصحيح الوعي الزائف بالإنسان واﻟﻤﺠتمع، والقضاء أيضا على كل ما يحول بين الباحث وبين إدراكه الحقيقي ﻟﻤﺠتمعه. وهذا يعني أن على نظرية علم الاجتماع نقد نفسها، وإعداد قضاياها، لكي تسهم في النقد الاجتماعي" (اتجاهات نظرية في علم الاجتماع). يكتفي سكان أغلب هذا النمط بإنشاء جمعيات تهم أغلبها السكن أو الاستهلاك، حيث تقوم مبادرات من بعض السكان بتفويض أمرهم إلى مندوب (سانديك) يمثل جل مشاكلهم السكنية (إنارة، طرق، مرافق عمومية،... مشاكل تقنية)، أو استهلاكية تهتم بجودة ومراقبة المواد المنتجة الضرورية للسكان ( جودة، مراقبة الأسعار، احتكار،...). وقد يعتبر هذا من صور الامتداد الرأسمالي لنظام الدولة لتدبير هذا الشكل حيث يغلب طابع الإنتاج والربح والحلول المباشرة. في مقابل ذلك، نجد غيابا شبه تام لجمعيات تعليمية أو تربوية وثقافية تساهم بأنشطتها في تأطير الجيل الناشئ على السلوك التشاركي وعلى المبادرة والإبداع. وعلى هذا المنوال، يمكن أن تصاغ أيضا أسئلة كثيرة تنتظر الباحث السوسيولوجي؛ حول أنماط التدين (متشدد أو معتدل)، السلوك الفردي والجماعي للجرائم، تغير مستوى التلاميذ الدراسي، الحالة الصحية، الانتحار، الأمان والأمن،... وأيضا نوع الخطاب الديني لمسجد الحي، الذي يجب أن يكون موازيا (إرشاديا) لحاجيات الفعل المشترك. الجنس والسكن تطرق الباحث المغربي في علم الاجتماع عبد الصمد الديالمي في كتابه "السكن، الجنس، الإسلام" إلى العلاقة التي تربط بين شروط طبيعية للوجود كالجنس وبين السكن (الاختياري منه والاضطراري)، وإلى العلاقة الشاملة بين المكتسبات الفكرية والأشكال الاجتماعية والثقافية كالتطرف الديني والظروف الاقتصادية. واعتبر الديالمي "طرق البناء المختلفة ليست مسألة جزافية، لأن كل أسلوب معماري يعبر عن اختيار وعن حساب. والمؤكد أن الإمكانيات التقنية تلعب دورا أساسيا في الاختيار، وكلما كانت -الإمكانيات- متوفرة كلما تحررت الجماعة من الضغوط الطبيعية وتحكمت فيها". ويُركز الديالمي أن النمط - الشكل السكني- يتيح للعائلة إمكانية الاستقلال والحرية لكل فرد فيها.. فغرفة النوم وبيت خاص وبيت للاستقبال قد يفتح أسئلة حول أشكال ترتيب وتنظيم الفضاء الذي تعيش فيه كل أسرة أو عائلة، في مستويات الجنس الثلاث (حسب ليفي ستراوس)؛ التسامي، الكبت، التناسل. وحسب الديالمي فإن هذه المستويات لا تشهد نفس الإيقاع في عملية التحديث التي يتعرض لها المجتمع المغربي. حيث نلاحظ أن المدينة الحديثة تمثل سوقا جنسيا بامتياز، وتخلق حاجات لا متوقفة إلى الاستهلاك الجنسي.. وبكون الإنسان المديني يخضع لإغراءات قوية ووهمية في نفس الآن، ولكون نسبة العزوبة ارتفعت لأسباب مادية نحَّت فكرة الزواج، فقد أصبحت البلدان العربية بتزايد ضغطها السكاني غير قادرة على توفير المتعة مقابل حاجات جنسية وعاطفية لا تتوقف بين فكرة الإقدام أو العزوف، خاصة بين الشباب. على عاتق السوسيولوجيا يمكن النظر إلى علم الاجتماع، أساسا (حسب ما يعرفه بعض المختصين) بأنه "تفاعل إنساني"، بما يشتمل عليه من علاقات بين الإنسان والإنسان، وبين اﻟﻤﺠتمع وغيره من اﻟﻤﺠتمعات. ومسعاه التغيير نحو الأفضل، ورفع المشكلات عن كاهل اﻟﻤﺠتمع وأعضائه. لكن هل حياتنا الاجتماعية يجب أن تحد من سبل التفكير والبحث الحر لدينا !؟ تساءل يوسف شلحت، عموما، في أربعينيات القرن الماضي عن إمكانية انتقال الفكر الاجتماعي العربي، من الأدب الخيالي إلى الكتابة الفكرية - العلمية. وقال أن "القارئ المتعطش إلى الثقافة التامة قد يجد في الإنتاج العربي الضخم؛ من الفلسفة قليلا، ومن العلم طرفا، ولكنه قد لا يفوز بشيء في الفلسفة الاجتماعية، وقد لا يظفر ببحث شامل في علم الاجتماع، فهما أنذر من الدينار في محفظة الأديب" (نحو نظرة جديدة في علم الاجتماع الديني). ويكفي أن تكون حياة الناس الواقعية، في نهاية الجولة، هي الاختبار الحقيقي لنظريات علم الاجتماع. لأن الغرض من هذه السطور، لم يكن معرفة علاقة الجنس أو الدين بالسكن ولا حتى معرفة النسب المئوية بشكل إحصائي أو حتى جردا للمشاكل المترتبة عن هذا النمط.. ولم يكن كلاما دعائيا لعلماء الاجتماع محضا، بل كان غرضها معرفة موقع الإنسان وهو محاط بهذه الظروف. وهي دعوة - مرجوة- لان نستهدف في أبحاثنا وتساؤلاتنا منطلقا ومنتهى واحدا، هو الإنسان. [email protected]