يتطرق الدكتور خالد شيات في هذا المقال إلى الجدل الذي أثير أخيرا بخصوص تنصيب حكومة عبد الإله بنكيران، وهو نقاش يرتبط بمسار بدأته المعارضة منذ تنصيب الحكومة الأولى، أي بعد تكليف بن كيران بمشاورات تشكيل الحكومة بعد انتخابات تشريعية تصدر فيها حزبه نتائجها، حيث كانت المعارضة تدفع في اتجاه أن الحكومة لا يمكن أن تكون منصبة إلا بعد أن تحوز ثقة البرلمان". وأوضح أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بوجدة بأن "التنصيب الذي هو مخول للبرلمان إنما هو إجراء تابع للتعيين من زاويتين؛ الأول أن الملك هو الذي يعين رئيس الحكومة، وبالتالي يراعي في تعيينه المنظومة السياسية التي أفرزتها المشاورات التي عقبت تشكيل الحكومة، والثاني أن الحكومة تنفذ برنامجها ليس بمعزل عن التوجيهات التي يقدمها الملك، باعتباره أعلى من الحكومة والبرلمان". وفيما يلي نص مقال شيات كما توصلت به هسبريس: 1- في جدل الشكليات أثيرت مجموعة من الملاحظات الشكلية التي ترتبط بفكرة التنصيب الخاص بالحكومة من قبيل الاستقبال الجماعي لأعضاء الحكومة من قبل الملك أو لاعتبارات شكلية أخرى، والحقيقة أولا أن بناء مفاهيم دستورية عميقة على مجرد شكليات بعيدا عن روح النص الدستوري فيه كثير من التحريف (بالمعنى العلمي للكلمة)، ولا بد في هذا المقام من التذكير بأن النقاش الشكلي ينتفي بمجرد التذكير المعطيين التاليين: - انعقاد المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك يعد إجراء عمليا وردا مباشرا يعكس التأويل الذي تبنته المؤسسة الملكية في هذا الموضوع، ذلك أن الدستور في الفقرة الأولى من الفصل الثامن والأربعون (48) يحدد أن الملك هو الذي يرأس المجلس الوزاري وقد جاء النص حرفيا كالتالي: "يرأس الملك المجلس الوزاري، الذي يتألف من رئيس الحكومة والوزراء"، وإذا كنا نعلم أن الدستور قد حدد مهام المجلس الوزاري في الفصل الذي يليه أي الفصل (49) فإنه سيكون من العبث الحديث عن التنصيب بعدما تكون الحكومة قد قامت بالإجراءات التنفيذية المخولة طبقا للفصل السابق. - مسألة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان؛ حيث يستشف من الفصل الخامس والستون (65) الذي جاء فيه: "يعقد البرلمان جلساته أثناء دورتين في السنة، ويرأس الملك افتتاح الدورة الأولى، التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر، وتُفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل"، ومفاد ذلك أن البرلمان الذي يعقد دورتين في السنة ويرأس الملك دورته الخريفية ليس عملية ميكانيكية بل هو إطار في نسق سياسي عام، نعم الدورة محددة دستوريا ويجب أن تتم طبقا للمقررات الدستورية المحددة زمنيا، لكن الدورة التي تلي الانتخابات والتي من المفترض أن تفرز أغلبية حكومية هي بالضرورة الدورة الخريفية طبقا لمقررات الفصل الثاني والستون (62) الذي جاء في فقرته الأولى: "ينتخب أعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات، وتنتهي عضويتهم عند افتتاح دورة أكتوبر من السنة الخامسة التي تلي انتخاب المجلس"، والملاحظ من جهة أن الملك لا يكرس خطابه للحديث عن المدن وعن الإشكالات التي تعرفها كما فعل في حديثه عن مدينة الدارالبيضاء في افتتاح دورة تلي تنصيب حكومة جديدة حسب تصور هذا الاتجاه، بل يحدد المجالات الأساسية للتشريع وللبرنامج الحكومي بصفة عامة، وذلك على سبيل المقاربة الشكلية سيرا على نهج المطالبين بالتصريح الحكومي. ومن جهة أخرى أن البرلمان عندما ينصب الحكومة لا يستطيع سحب هذا التنصيب إلا بشرط أساسي هو أن تعاد العملية الانتخابية. 2- معيار التنصيب وممارسة المهام حسب منطوق الفصل السابع والأربعون (47) "يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها"، وهذا يعني أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الحاصل على أكثر المقاعد من جهة، وأن هذا التعيين يأتي بعد الانتخابات من جهة ثانية، ولو افترضنا أن الملك يعين رئيس الحكومة بدون تحديد شرط تصدره الانتخابات لكان آنذاك ممكنا الحديث عن إمكانية إعادة تنصيب الحكومة، فالمعيار هو تصدر الانتخابات، والدفع بكون السيد بن كيران قد أوجد حكومة جديدة فيه خلل على هذا المستوى من ناحيتين: - من جهة لم يكن هناك تكليف رسمي من الملك باعتبار أن الأمر لا يعدو أن يكون مشاورات مع رئيس الدولة باعتبار أنه هو الحكم بين المؤسسات؛ أي أن السيد بن كيران لما فقد الأغلبية داخل البرلمان كان سيصطدم بعدم سير مرافق الدولة نتيجة لذلك، وليس الأمر مرتبطا باستقالة الوزراء من الحكومة فقط بل أيضا سير المؤسسات الذي سيختل تبعا لذلك. - من جهة أخرى انعدام شرط الانتخابات الذي يفرضه الدستور صراحة بقوله: "الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب"، كما جاء في الفصل (47) السابق. والحكمة من التنصيب هي دليل آخر على عدم رجاحة معايير أنصار وجود حكومة جديدة؛ إذ أن الحكمة من ذلك هي ربط عملية التشريع ومراقبة عمل الحكومة بهذا الأمر مراعاة للدور المتجدد للبرلمان كما هو في النمط البرلماني. وتحضر في هذا المقام ملاحظتان: - الأولى أنه عدديا هناك حزب كان قد صوت لصالح البرنامج الحكومي الذي كان رئيس الحكومة قد تقدم به بعد تعيينه من طرف الملك بعد الانتخابات السابقة وهو حزب شارك في الحكومة وكان فاعلا فيها ومشاركا بوزرائه من خلالها، وهذا يعني أنه أخلاقيا لا يحق له أن يقوم بمعارضة ما سبق أن ساهم في وضعه وتدبيره. ومن جهة أخرى هناك حزب كان ضد البرنامج الحكومي وأصبح اليوم من مكونات الحكومة وبالتالي فلا يمكنه أن يطالب بتصريح حكومي جديد لهذا الاعتبار لأن ذلك يعني أنه فاوض رئيس الحكومة من منطلق المقاعد والمزايا وليس من منطلق البرامج والتصورات التي من المفترض أن تكون أساس التفاوض لدخول الحكومة. - الثانية أن الغاية كما قلت هو تأجيل اتخاذ التدابير التي من المفترض أن تقوم بها الحكومة إلى ما بعد التنصيب، وهو أمر غير مستقيم لعاملين على الأقل؛ + أن الحكومة تقوم فعلا بكل مهامها من جهة؛ + أن من يعترض من أحزاب المعارضة سبق وأن خرق القاعدة في حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي الأولى؛ ففي الجريدة الرسمية عدد 4571 بتاريخ 23 مارس 1998 نجد في الصفحة 1008 ظهير شريف رقم 37.98.1 صادر في 16 مارس 1998 بتعيين السيد عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول، وفي الصفحة 1010 نجد السيد عبد الرحمان اليوسفي بصفته السابقة يصدر المرسوم رقم 347.98.2 بتغيير مبلغ الرسم الجمركي المفروض على استيراد بعض المنتجات، فهو لم يكتف بإصدار مرسوم قبل عرض برنامجه على البرلمان والتصويت عليه من طرف مجلس النواب كما كان الفصل الستون (60) ينص على ذلك: "يتقدم الوزير الأول أمام كل من مجلسي البرلمان بعد تعيين الملك لأعضاء الحكومة ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه، ويجب أن يتضمن هذا البرنامج الخطوط الرئيسية للعمل الذي تنوي الحكومة القيام به في مختلف مجالات النشاط الوطني وبالأخص في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخارجية. يكون البرنامج المشار إليه أعلاه موضوع مناقشة أمام كلا المجلسين ويتلو مناقشته في مجلس النواب تصويت يجب أن يقع وفق الشروط المنصوص عليها في الفقرتين الثانية والثالثة من الفصل 75 ويترتب عليه الأثر المشار إليه في الفقرة الأخيرة منه "، بل تعداه إلى إصدار مرسوم يكلف مالية الخزينة. وقد ذهب في هذا الاتجاه الكثير من الفقه الدستوري المغربي من أمثال الأستاذ محمد أمين بنعبد الله (Med Amine BENABADALLAH, Sur un lapsus juridique :la constitutionnalité du décret du 16 mars 1998, Remald 23 avril- juin 1998, p. 09et s.) والأستاذ عمر بندورو (Omar BENDOUROU, Controverses sur le décret du 16 mars 1998, Remald23 avril- juin 1998, p. 19 et s.) والأستاذ يحيى حلوي (يحيى حلوي، القرار الإداري: من الأثر القانوني إلى التنفيذ المادي، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، السنة الجامعية 2002-2003، (تحت إشراف: د. جمال الدين زهير)، ص. 92 وما بعدها). ولعل هناك من يعترض قائلا أن الأمر مختلف في ضل دستور 2011 لكن الحكمة هي أن الحكومة مقيدة بممارسة مهامها الدستورية بالتنصيب ولا يمكن أن يكون التنصيب لاحقا عن ممارسة المهام كما كان الحال في حكومة السيد اليوسفي، والأمر يختلف جذريا في حكومة السيد بن كيران على اعتبار أن المهان التي تمارسها الحكومة إلى غاية تعديل الأغلبية كان في إطار الدستور. 3- الحكومة أم الأغلبية؟ من وجهة نظر خاصة وفقهية هناك فرق كبير بين الحكومة والأغلبية، بين رئيس الحكومة وبين الحكومة، فالأغلبية هي آلية سياسية والحكومة هي آلية دستورية، مثلا هناك أغلبية نسبية وأغلبية مطلقة وأغلبية عددية وغيرها مما تواتر عليه تقييم مفهوم التفوق العددي السياسي الذي يخول تمرير القوانين وممارسة المهام الموكولة للسلطة التنفيذية. أما الحكومة فهي إطار دستوري تلزمه شروط سياسية تتمثل في إجراء الانتخابات وتصدر نتائجها، ثم تعيين الملك باعتباره رئيس الدولة للمتصدر وأخيرا تنصيبها من طرف البرلمان، ولو افترضنا أن التنصيب وحده هو معيار وجود الحكومة من عدمه لكانت حكومة السيد بن كيران غير دستورية بمجرد خروج حليف سياسي منها. قد لا أتفق تماما مع بعض ما جاء في الفقه الدستوري، ولا سيما الأوربي منه لكن أحيانا يمكن أن يكون ذلك منارا لأفكار تقدس الديمقراطية وترى في العمليات التقنية آلية لإخراج الديمقراطية التمثيلية للوجود، يقول موريس دوفيرجي: "إننا نعيش في كنف مفهوم غير واقعي فيما يخص الديمقراطية تم وضعه من طرف فلاسفة القرن الثامن عشر "حكومة الشعب ومن الشعب" أو "حكم الأمة من طرف ممثليها"، تعابير رنانة تفتح شهية الاستماع لكنها لا تعني شيئا لأننا لم نر شعبا يحكم نفسه ولن نراه أبدا فكل الحكومات أوليغاركية تتضمن هيمنة لفئة صغيرة على فئات أكبر"، وكلام دوفيرجي هذا لتذكير السياسيين لأن ممارسة السياسة ليست هي فقط عندما تمارس مهام الحكومة أو مرتبطة بممارسة المعارضة الحقيقية فقط، بل لقبول لعبة التناوب المرتكز أساسا على القبول بالنموذج السياسي العام والنماذج الفرعية من أحزاب ونقابات ووسائط سياسية أخرى، لذلك لا يمكن فهم من ينادون بحل الأحزاب كوسيلة لتحقيق التناوب باعتبار أنها امتدادات فكرية لتنظيمات دولية. 4- عودة للدستور الذين تشبثوا بالمسألة الشكلية في استقبال أعضاء الحكومة الجدد باعتباره إشارة إلى وجود حكومة جديدة يمكن أن يبنوا على مقررات الفصل السابع والأربعون (47) الذي جاء فيه أن الملك يعين رئيس الحكومة كما سبق التحليل، و"ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها"، ونسقيا بعد التعيين يوجد التنصيب، لكن لاستقراء مقررات باقي الفقرات يمكن استنتاج العكس؛ ذلك أن الدستور يربط بين التنصيب وتشكيل الحكومة وليس تشكيل الأغلبية كما سبق، والحكومة مرتبطة وجودا وعدما برئيس الحكومة، وهذا ليس تضخيما لهذه المؤسسة لكنه ضمان لاستمراريتها واستقرارها، فقد جاء في الفقرة الخامسة من هذا الفصل: "يترتب عن استقالة رئيس الحكومة إعفاء الحكومة بكاملها من لدن الملك"، ولا يترتب عن إعفاء أي عضو آخر أو أكثر نفس النتيجة، بل إن الفقرة الموالية تشير صراحة إلى مفهوم "الحكومة المنتهية"، وهي الحالة التي يقدم فيها رئيس الحكومة استقالته، وهي التي تحدد طبعا وجود حكومة جديدة من عدمه، وقد جاءت كالتالي "تواصل الحكومة المنتهية مهامها بتصريف الأمور الجارية إلى غاية تشكيل الحكومة الجديدة". الفصل الثامن والأربعون (48) سبق أن حددنا أنه مؤشر على وجود الحكومة وتجاوزها مسألة التنصيب بحيث أنه لا يمكن تصور رئاسة الملك لهذا المجلس والحكومة غير منصبة. الفصل الثامن والثمانون (88) يحدد الجهة التي لها أن تقدم البرنامج الحكومي في رئيس الحكومة، وادعاء أن السيد بن كيران قام بتأليف حكومة جديدة يستوجب تعيينا شخصيا من طرف الملك وهو الأمر الذي لم يتحقق، ثم إن الصيغة التي يتحدث بها الدستور عن البرنامج هي "الذي يعتزم تطبيقه" أو "الذي تنوي الحكومة القيام به" والحقيقة أن برنامج الحكومة الحالية مطبق فعلا. الفصل تسعون (90) جاء فيه "يمارس رئيس الحكومة السلطة التنظيمية، ويمكن أن يفوض بعض سلطه إلى الوزراء"، فالسلطة التنظيمية هي في يد رئيس الحكومة وهي لم تنتقل إلى غيره حتى يمكن لنا أن نتحدث عن حكومة جديدة، ويؤكد ذلك مقتضيات الفصل الثالث والتسعون (93) الذي جاء فيه : "يقوم الوزراء بأداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة، ويطلعون مجلس الحكومة على ذلك". والحقيقة أن التأويل الديمقراطي للدستور يرتبط بتقوية مؤسسة رئيس الحكومة وليس بالحد من سلطاته. 5- حل دستوري أعتقد أن من بين الحلول الممكنة أمام رئيس الحكومة لتكريس البعد التواصلي مع المعارضة، ولتكريس أعراف متجددة مرتبطة بالقيم الديمقراطية إمكانية اللجوء إلى مقتضيات الفصل المائة وثلاثة (103) الذي جاء كما يلي: "يمكن لرئيس الحكومة أن يربط، لدى مجلس النواب، مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها بتصويت يمنح الثقة بشأن تصريح يدلي به في موضوع السياسة العامة، أو بشأن نص يطلب الموافقة عليه. لا يمكن سحب الثقة من الحكومة، أو رفض النص، إلا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب. لا يقع التصويت إلا بعد مضي ثلاثة أيام كاملة على تاريخ طرح مسألة الثقة. يؤدي سحب الثقة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية". أما المعارضة فأمامها حل مواز آخر وهو مقتضيات الفصل المائة وخمسة (105) الذي جاء كما يلي: "لمجلس النواب أن يعارض في مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها، بالتصويت على ملتمس للرقابة؛ ولا يقبل هذا الملتمس إلا إذا وقعه على الأقل خُمس الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس. لا تصح الموافقة على ملتمس الرقابة من قبل مجلس النواب، إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم. لا يقع التصويت إلا بعد مضي ثلاثة أيام كاملة على إيداع الملتمس؛ وتؤدي الموافقة على ملتمس الرقابة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية. إذا وقعت موافقة مجلس النواب على ملتمس الرقابة، فلا يقبل بعد ذلك تقديم أي ملتمس رقابة أمامه، طيلة سنة". في حين أرى أن اللجوء إلى المجلس الدستوري أمر لا طائل منه، وأعتقد أنه مدعو لإقرار عدم اختصاصه في البت في هذه النازلة.