تشغل مسألة الصعود الصيني أوساط الفكر الاستراتيجي الدولي، وذلك عطفا على ما حققته الصين من قفزات تنموية سريعة جعلتها تتبوأ المرتبة الثانية في العالم اقتصاديا، فضلا عما تعرفه من استقرار سياسي في ظل حكم الحزب الشيوعي الصيني، الذي صادف عام 2021 مرور مئة عام على تأسيسه. وتزداد أهمية هذا الموضوع مع المتغيرات الراهنة على الساحة الدولية، أو ما يطلق عليه البعض عصر "المربكات الكبرى". وقد نشرت وزارة الخارجية الصينية في بداية العام (2021) ورقة لوزير الخارجية الصيني بعنوان "مواجهة الصعوبات وخدمة الوطن والعمل على إطلاق مسيرة جديدة لدبلوماسية الدولة الكبيرة ذات الخصائص الصينية"، ولعل من بين ما أكدت عليه تلك الورقة "إبراز المهابة الخاصة لدبلوماسية الدولة الكبيرة ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد". ويمكن القول إن عبارة "دبلوماسية الدولة الكبيرة" ذات دلالة هامة، كونها تؤكد توجها واضحا سمته العمل من منطلق الدولة الكبيرة، حيث يرى مراقبون أن الصين مؤهلة ومرشحة للاضطلاع بدور عظيم في العالم مستقبلا، بل إن البعض اعتبر بأن القرن 21 سيكون قرنا آسيويا، وصينيا على وجه التحديد، بالنظر إلى تلك المعجزة التنموية التي حققتها الصين خلال 40 سنة فقط، والتي جعلتها تحتل الموقع الاقتصادي الثاني في العالم، ويتوقع أن تتبوأ الموقع الأول خلال سنوات معدودة، خاصة وأنها أصبحت الشريك التجاري الأكبر لدول عديدة. لقد أثبتت جائحة كورونا قدرة وفعالية الصين على التعامل مع هذه الجائحة على الصعيد الداخلي، وكذا تقديم الدعم والمساعدة للخارج بما في ذلك لدول كبرى، إجراءاتٌ مكنت الصين من ترسيخ أسس تعاطي الدولة الكبيرة مع الأزمة الخطيرة التي اجتاحت العالم، في الوقت الذي لا تزال قوى دولية أخرى تعاني من وطأة الجائحة. تبدو الدبلوماسية الصينية واعيةً بأن مواصلة دور الصين المتنامي على الصعيد الدولي مرهون باستمرار وتيرة الاستراتيجية التنموية للبلاد، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الصين قد حقق اقتصادها نموا إيجابيا في ظل الجائحة مقارنة بالدول الأخرى، حيث يشير تقرير المركز الوطني للإحصاء في الصين إلى أن النمو الاقتصادي في البلاد بلغ 2.3% عام 2020، كما تجاوز إنتاجها المحلي الإجمالي عتبة ال 100 تريليون يوان صيني (أي ما يعادل أكثر من 15.4 تريليون دولار). ويظل تعزيز النمط التنموي الصيني مرهونا بوجود بيئة خارجية مواتية، نظرا لارتباط الاقتصاد الصيني بالخارج منذ بدء تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، وذلك من خلال تكثيف الإنتاج الصناعي الموجه للتصدير، الأمر الذي مكّن من دفع التنمية في البلاد بشكل كبير. وفي هذا السياق يمكن فهم حرص الصين على الحفاظ على النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف، وكذلك طرحها لمبادرة الحزام والطريق ذات البعد العالمي، والتي ستظل لها الأولوية على الأرجح على أجندة الدبلوماسية الصينية، لا سيما وأن هذه المبادرة تشمل أيضا مجالات متنوعة وذات أهمية دولية كالتكنولوجيا والصحة والبيئة، وهو ما يعرف في الأدبيات الصينية بطريق الحرير الرقمي وطريق الحرير الصحي وطريق الحرير الأخضر. ولطالما نادت الصين بإصلاح نظام الحوكمة العالمية ليكون أكثر عدالةً وإنصافا، من خلال التأكيد على حق الدول النامية في مشاركة أكبر في صنع القرار الدولي، ومن اللافت للانتباه التأكيد على المشاركة النشطة في إصلاح الحوكمة العالمية من خلال التمسك بتعددية الأطراف والانفتاح والتعاون، وتفعيل الدور المحوري لمنظومة الأممالمتحدة في الشؤون الدولية، مما يشير إلى أهمية العمل الاستباقي وإطلاق مبادرات فاعلة بدلا من الاكتفاء بردود الأفعال، لا سيما في ما يتعلق بإصلاح الأممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة، ووضع قواعد الحوكمة الرقمية العالمية، والجدير بالذكر في هذا الإطار أن الصين أعلنت في شتنبر 2020 عن مبادرتها العالمية حول أمن البيانات والمعلومات. كما تعمل بكين على تعزيز شراكاتها الإقليمية والدولية وإقامة نمط جديد للعلاقات الدولية، فقد وقعت على سبيل المثال على أكبر اتفاقية للتجارة الحرة في العالم، وهي اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (RCEP) ضمن 15 دولة في آسيا والمحيط الهادي في نونبر 2020 (يذكر أن أمريكا والهند خارج هذه الاتفاقية)، كما أبرمت مع الاتحاد الأوروبي اتفاق الاستثمارات الشاملة المتبادلة (CAI) في دجنبر من العام ذاته، مما يسهم في تعزيز التعاون والثقة المتبادلة مع الدول الأوروبية. وقد أنشأت الصين كذلك أطر تعاون مختلفة مع الدول النامية سواء على الصعيد الثنائي أو الجماعي، بما في ذلك مع رابطة أسيان، ومع أمريكا اللاتينية، وكذا مع دول جزر الباسيفيك، فضلا عن منتديات التعاون التي أقامتها منذ بداية القرن الحالي مع كل من إفريقيا (منتدى التعاون الصيني الإفريقي عام 2000)، والعالم العربي (منتدى التعاون العربي الصيني عام 2004). وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن المغرب يعتبر عضوا فاعلا ونشطا في كلا هذين المنتديين، وتربطه علاقات تعاون وصداقة وثيقة مع الصين، كما وقع البلدان الإعلان المشترك للشراكة الاستراتيجية عام 2016، ومذكرة تفاهم في إطار مبادرة الحزام والطريق عام 2017. وفي ما يتعلق بعلاقتها مع القوتين العظميين الأخريين، تعمل الصين مع روسيا على تعميق التنسيق الاستراتيجي الشامل بين البلدين، والذي يشكل من وجهة نظرها حصنا لتعزيز السلام والأمن الدوليين والاستقرار الاستراتيجي في العالم، أما العلاقات الصينية-الأمريكية فترغب الصين في وضعها في إطار استراتيجي يمّكنها من التطور السليم والمستقر. كانت تلك من أبرز معالم الدبلوماسية الصينية المعلنة في عام 2021، والتي جاءت منسجمة مع الأفكار والرؤى الصينية حول مجالات التنمية، ومبادرة الحزام والطريق، وإقامة مجتمع المستقبل المشترك للبشرية، وإصلاح نظام الحوكمة العالمية، وإقامة نمط جديد للعلاقات الدولية. ويبقى السؤال المطروح: إلى أي حد سوف تنجح "دبلوماسية الدولة الكبيرة" الصينية في مواصلة العمل على تحقيق ذلك، خاصة في ظل التحديات القائمة والمنتظرة إقليميا ودوليا؟ وكيف سيؤثر ذلك على ميزان القوة الدولي في المرحلة المقبلة، لا سيما مع عودة التنافس بين القوى العظمى؟ باحث مغربي (المقال يعبر عن انطباعات وآراء الباحث الشخصية وليس لها صلة بانتمائه المهني).