مازالت معجزة نهوض التنين الصيني تسيل الكثيرَ من المداد، خصوصا أن هذا النهوض كان اقتصاديا بالدرجة الأولى، سلمياً، وهادئا. ومازالت المقارنة تتواصل بين الصين وبين القوة العظمى فعليّا، وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية، وسط حيرةٍ وجدلٍ حول ما إن كانت ستزيح هذه الأخيرة عن الصدارة أم أنها ستكتفي بدور "الوصيفة"، رغم كل القوة التي لديها. حول مقومات الاقتصاد الصيني، وقدراته العلمية والتقنية، ومدى إمكانية تحقيق حلم "القوة العظمى" من طرف القيادة السياسية، يكتب محمد بن الصديق، الدكتور في القانون الدولي. وهذا نص المقال: كما هو معلوم فقد بدأ الصعود السلمي للصين يتعزز منذ تطبيقها سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، وخلال أربعين سنة فقط، وهي فترة قصيرة جدا في أعمار الدول، استطاع التنين الصيني أن يحقق معجزة تنموية غير مسبوقة في حجمها وفي مداها الزمني، مكنت الاقتصاد الصيني من احتلال المرتبة الثانية عالمياَ خلف الولاياتالمتحدةالأمريكية، ما جعل عالم اليوم يهتز على وقع ما أسماه البعض "الهدير الصيني". وفي ضوء ذلك أصبح مستقبل الصين ودورها كقوة عظمى في النظام العالمي مثار جدل بين المحللين خلال السنوات الأخيرة، إذ يرى البعض أن الصين مازالت بعيدة عن الولاياتالمتحدة ولن تستطيع اللحاق بها في المدى المنظور؛ وذلك بالنظر إلى الفارق الكبيربين البلدين في حجم القوة العسكرية، وفي مستوى الابتكار والتقدم العلمي؛ فضلا عما تواجهه الصين –عكس أمريكا- من مشاكل على المستوى الداخلي وفي ما يتعلق بسعيها إلى استكمال وحدتها الوطنية وكذلك ما تشهده من توترات على حدودها وفي محيطها الإقليمي. وفي المقابل يرى البعض الآخر أن الصين تخطو خطوات ثابتة وقوية نحو تحقيق "الحلم الصيني"، وأن أزمة كورونا من شأنها أن تعجل بالصعود الصيني كقوة عظمى في النظام الدولي، عطفاً على النجاح الكبير الذي حققته بكين في الوقاية من وباء كورونا المستجد والسيطرة عليه داخليا، ولجهة قيادتها جهود التضامن الدولي في التصدي لهذه الجائحة، ودعمها واسع النطاق للدول المتضررة حول العالم. وانطلاقا من أن قوة الدول تقاس بتوافر مجموعة من العناصر العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعلمية والثقافية، بما في ذلك درجة تأهبها العسكري، وحجم اقتصادها وناتجها المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى قدراتها الصناعية وقاعدتها العلمية والتكنولوجية، وهي عناصر تعزز قدرة الدولة على التأثير على الآخرين في المجتمع الدولي، يمكن القول إن الصين ستواصل صعودها وسوف تزداد مكانتها على الساحة الدولية، لاسيما في ظل التداعيات الدولية لأزمة "كورونا". ويمكن أن يعزى ذلك – في تقديري- إلى ما تملكه الصين من مقومات أساسية من شأنها أن تعطي لهذا الدور وتلك المكانة مناعة قوية داخلياً وخارجياً، ومن بين هذه المقومات ما يلي: النموذج التنموي الصيني: شهدت الصين قفزة غير مسبوقة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحققت مستويات نمو مرتفعة على مدى ال40 سنة الماضية، إذ بلغ متوسط النمو السنوي 9 %، وفاق الناتج الإجمالي للبلاد 14 تريليون دولار عام 2019، وصار الاقتصاد الصيني يمثل 19% من الاقتصاد العالمي، وتمثل الصناعة في الصين 28.4% من القطاع الصناعي العالمي؛ معطياتٌ جعلت البلاد تتبوأ المرتبة الثانية كأكبر اقتصاد في العالم، بل إن بعض التوقعات ذهبت إلى أن الاقتصاد الصيني قد يحتل المرتبة الأولى بحلول عام 2027. وكشفت أزمة كورونا الأهمية الكبيرة التي تحظى بها الصين في عالم اليوم، وكيف أن أي تعثر لاقتصادها ينعكس تأثيره السلبي على الاقتصاد العالمي برمته، فهي باتت بالفعل مصنع العالم، ونقطة الأصل لسلاسل التوريد الصناعية العالمية، كما تشكل بعدد شعبها قوة عظمى في الطلب العالمي (نحو 11 % من الطلب العالمي)، وقد تمكنت خلال الفترة من 1979 إلى 1919 من انتشال أكثر من 700 مليون شخص من تحت خط الفقر. كما تضاعف دخل الفرد في الصين 16 مرة، من ألف دولار في بداية التسعينيات إلى 16 ألف دولار (بينما تضاعف متوسط دخل الفرد على مستوى العالم 3 مرات فقط). ليس من المبالغة القول إن النموذج الصيني في التنمية فريد ومعجزة قائمة بذاتها ونابعة من إرث الصين التاريخي والحضاري العريق، وقدرتها على الاستجابة لمتطلبات الواقع، وتملكها لمقومات النهضة؛ وقد حققت ذلك بفضل سياسة الإصلاح والانفتاح التي تعززت خلال السنوات الأخيرة بفضل مشروعها الإستراتيجي الكبير "الحزام والطريق"، الذي تستثمر فيه مبالغ بمليارات الدولارات.. ذلك المشروع الضخم للبنية التحتية الذي يروم إحياء طريق الحرير القديم ويمتد عبر أكثر من 60 دولة في آسيا وإفريقيا وأوروبا. غير أن أزمة فيروس كورونا ألقت بظلالها على هذه المبادرة، ما يطرح التساؤل حول التأثيرات السلبية المحتملة لهذه الجائحة على استكمال هذا المشروع ومدى قدرة الصين على احتوائها. في هذا الإطاريرى محللون أنه من المتوقع أن يركز هذا المشروع في مرحلة ما بعد كورونا على الاستثمارات الجديدة في التكنولوجيات الحديثة، وأن يشمل كذلك المجالات الطبية، في إطار ما يعرف ب "طريق الحرير الرقمي"، وكذلك "طريق الحرير الصحي"، وأن المشروع سيواصل تقدمه في ظل التشابك القائم بين الاقتصاد الصيني واقتصادات الدول المعنية، وجلها من الدول النامية. مستوى التقدم في مجال التكنولوجيا والبحث العلمي: تسعى الصين إلى تحقيق الاستقلالية والتميز في هذا المجال المهم، وفق الخطة الإستراتيجية: "صنع في الصين 2025"، التي تستهدف تحقيق 70% كمكون صيني للسلع الصناعية. ومن الصناعات المستهدفة في هذا الشأن: الذكاء الاصطناعي والربوتات والفضاء والطيران والسكك الحديدية والسيارات، وكذلك تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، إذ تعد شركة هواوي درة التاج للصناعة الصينية في هذا المجال، نظرا لما حققته من ميزة تنافسية معتبرة على مستوى العالم. وتجدر الإشارة إلى أن الصين تعد مركزا لصناعة 70% من الهواتف الذكية المباعة في العالم، كما أنها تستحوذ على 30% من الصادرات الإلكترونية العالمية، وهي معطيات مهمة جعلت النموذج الصيني يفرض نفسه على النماذج الأخرى، بالنظر إلى التقدم المذهل الذي تحققه البلاد في مجال التكنولوجيات الحديثة. وفي مجال البحث العلمي يرصد المراقبون زيادة جودة التعليم في الصين، كما أن الحكومة الصينية استحدثت برامج ضخمة لإرسال الطلبة للدراسة في الخارج، إذ بلغ عدد الطلبة الصينيين في الخارج أكثر من 660 ألف طالب عام 2018. ومن جهة أخرى تمكنت الصين من الصعود إلى المرتبة الأولى كأكبر ناشر للأبحاث في العالم في مجالي العلوم والهندسة، إذ بلغ عدد الأبحاث الصينية المنشورة في مجلات علمية حول العالم أكثر من 528 ألف بحث عام 2018، مقارنة ب422 ألف بحث أمريكي في العام نفسه. كما تجاوزت الصين لأول مرة الولاياتالمتحدة في عدد براءات الاختراع لتصبح في عام 2019 أكبر مصدر لطلبات البراءات الدولية المودعة لدى المنظمة العالمية للملكية الفكرية بإيداع ما يناهز 60 ألف طلب لدى المنظمة. هذا وتحتل الصين المرتبة الثانية عالمياً في الإنفاق على قطاع البحث العلمي والتطوير بما يناهز مبلغ 377 مليار دولار عام 2017. ويرى الخبراء أن جوهر المنافسة الاقتصادية بين الصينوالولاياتالمتحدة هو التكنولوجيا والابتكار، لاسيما الذكاء الاصطناعي. وربما تتفوق الصين على الولاياتالمتحدة في هذا المضمار بحلول سنة 2030. القيادة الصينية: وتتمثل في الحزب الشيوعي الصيني، وأمينه العام الرئيس شي جين بينغ؛ فهذا الحزب يعد أكبر حزب سياسي في العالم ويضم نحو 100 مليون عضو (بلغت قيمة تبرعاتهم لدعم مكافحة فيروس كورونا المستجد في الصين ما يفوق مليار دولار). ويمكن القول إن هذه القيادة لعبت دورا هاما في دعم وتطوير النظام الاشتراكي ذي الخصائص الصينية، واستطاعت أن تضمن للبلاد استقرارا سياسيا طويل المدى، لاسيما من خلال التعديلات التي أجرتها على الدستور الصيني، وهو أمر هام وأساسي لمواصلة التقدم الذي حققته التجربة التنموية الصينية، وتعزيز دور الصين على الصعيد الدولي. الشعب الصيني: يمكن القول إنه يعتبر حصن الصين المنيع، فقد أبان هذا الشعب خلال أزمة كورونا عن وعي وانضباط كبير، ما مكن السلطات من تنفيذ خطة الطوارئ الصحية بحزم وصرامة وتحقيق الأهداف المرسومة لاحتواء الحالة الوبائية في البلاد. كما كانت الاستجابة الشعبية جد إيجابية، إذ انخرط المواطنون والجمعيات الخيرية في حملة مكافحة الوباء في البلاد. وبلغت تبرعات هذه الجمعيات أكثر من 4 مليارات دولار. وقد أشاد الرئيس الصيني بتضحيات السكان وتفانيهم وجهودهم، ولولاها لما تحققت المكافحة الإيجابية للمرض. الأمن الصحي: وهو معطى جديد من المرجح أن يحظى بالأولوية في مرحلة ما بعد "كورونا"، بل إنه في ضوء القدرة الكبيرة التي أبانت عنها الصين في إدارة هذه الأزمة داخليا وخارجيا يمكن القول إن حماية الصحة العامة أصبحت قوة ناعمة جديدة وهائلة اكتسبتها من هذه الأزمة، وإن النموذج الصيني في التعاطي مع الوباء سوف يشكل قيمة مضافة هامة إلى رصيد البلاد من عناصر القوة الناعمة التي ستعمل بلا شك على استثمارها في علاقاتها الدولية، من خلال "طريق الحرير الصحي" الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه. لقد كشفت أزمة كورونا عن أهمية دور الدولة المركزية في حماية المجتمع وتعبئتها مختلف القطاعات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية للتصدي للأزمة. وكان نجاح الصين نموذجا يحتذى به في هذا الشأن، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم إمكانية الاستغناء عن دور الدولة في قطاعات أساسية لحياة الشعوب وتقدمها، كالصحة والتعليم، ما يحتم على بعض الحكومات ضرورة مراجعة سياساتها المتعلقة بخصخصة مثل تلك القطاعات الحيوية. ومن هنا، وفي مقابل ما شهده الغرب من انزواء ظاهر وازورار ملحوظ في قيادة الجهود الدولية للتصدي لجائحة كورونا، ومرد ذلك إلى عدة أسباب من بينها "النزعة الأحادية"، و"الرأسمالية المتوحشة"، إذ كشفت الجائحة فشل الغرب في السيطرة على الوباء، وكيف أنه لم يكن مستعداً لتهديد مفاجئ من هذا النوع وبهذا الحجم، (في مقابل ذلك) أدارت الصين الأزمة على الصعيد الداخلي بكفاءة واقتدار، وقادت جهود التضامن والاستجابة الدولية للجائحة على نطاق واسع، من خلال تقاسم خبراتها وإرسال إمداداتها للدول على اتساع قارات العالم، وهو ما من شأنه أن يترك أثراً إيجابياً على سمعة الصين الدولية ويعزز صعودها سريعا إلى مصاف القوى العظمى على الصعيد العالمي في مرحلة ما بعد "كورونا".