يرتبط التعليم وهندسته بالسياسة العامة للدولة، وتدبيره موكول للحكومات والهيئات والمنظمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يساهم كل من زاويته ومجال تخصصه واشتغاله، في اقتراح التصورات واستشراف آفاقه المستقبلية. ويبقى إقرارها وتبنيها من اختصاص المؤسسة التشريعية والحكومية، توخيا لتحقيق أعلى قدر من التنمية والرخاء الفردي والجماعي. فما ينتاب الجسم التربوي ومنظومته، هو حصيلة متراكمة للسياسة التعليمية، إنتاجا وتنفيذا أو تعطيلا، ضمن نسق سياسي أكثر اتساعا وشمولية. التعليم بين منزلتي التصور والتنزيل في المقاربة السياسية: إن المتتبع للخطاب التربوي الصادر عن الفاعل السياسي، سواء في سعيه وطموحه لامتلاك القرار السياسي والإداري، أو حين يتمكن من ذلك، وتوكل إليه مقصورة قيادة السفينة التربوية، لا يتردد في نعتها بأنها "خطابات متنافرة وملغومة، تستند على علم أو جهل، أو خطابات إيديولوجية متحيزة" (محمد السوالي). حيث نجد البون شاسعا بين ما يسطر على الصفحات، ويستهلك في المنتديات واللقاءات، وما يتم تنفيذه من قرارات وبين أسوار المؤسسات. تم هذا مع حكومات سابقة، وقد يتم مع الحكومة الحالية، استنادا إلى ما عرفته برامج الأغلبية الحكومية الانتخابية، وما تم تدوينه من إجراءات ضمن البرنامج الحكومي، وما خصصه قانون المالية للتعليم والتكوين. أيضا ما يستهلك إعلاميا ويبوح به من كانوا بالأمس معارضة، واليوم أغلبية ويتحملون المسؤولية. ويتم الإقرار علنا وعلى الشاشات، أن المسؤول ليس مناضلا حزبيا يحلو له أن يقول أو يفعل ما يقتنع به، بل الأمر في غاية التعقيد والخطورة، فالأمر أمر دولة وهيبتها واستقرارها في محيط إقليمي ودولي ملتهب. وما ينبغي تسجيله في بداية هذا المقال، هو إيمان جميع الفرقاء السياسيين بجدوى فعل التعليم وأهميته، ليس فقط في التثقيف المعرفي والحذق المهاري، بل لدوره الحيوي في الرفع من الإنتاجية الاقتصادية والتشجيع على الخلق والابتكار، ومحاربة الفقر والهشاشة، وتحديث القيم الثقافية والتشجيع على المشاركة في الحياة العامة، وتحسين الحياة الخاصة، "فالمعرفة والخبرة يرتبطان في المجتمعات البشرية بالتحكم في الثروات المادية وفي النشاط الاقتصادي" (كلود ليفي شتراوس). هذا الإيمان الحاصل لدى الفاعلين السياسيين بدور التربية والتعليم، إلى أي حد ترجم إلى إجراءات عملية وتدابير إدارية؟ وتجعل الاعتمادات المخصصة للتعليم، تعكس الإيمان بكونه استثمارا وليس استهلاكا. التعليم في البرامج الانتخابية لأحزاب الأغلبية الحكومية: يقدم البرنامج الانتخابي تصور الساعي للممارسة السلطة لمختلف جوانب الحياة للمواطن، وهو "عبارة عن الخطة أو برنامج العمل، الذي يضعه المرشح لمنصب ما ليوضح من خلاله الأهداف والمشاريع التي يسعى لإنجازها أثناء توليه المنصب" (عبد الله الناصر). ويبقى الجانب التربوي من القطاعات التي تحظى بالأولوية لدى مختلف الأحزاب السياسية، كما لدى المواطنين، كقطاع اجتماعي لا غنى للإنسان عن خدماته، لاستكمال مشروع أنسنته. وهو ما جعل الأحزاب جميعها تؤكد على أهمية توسيع التعليم الأولي، و"تكوين مربين متخصصين" لاحتضان الأطفال وهم في بداية المشوار، مع العمل على استمرار تعليمهم وتكوينهم، بتعميم المدارس والنقل المدرسي والمطاعم المدرسية، وخصوصا في المناطق القروية وشبيهاتها، مع عقد العزم على التصدي لمسببات الهدر المدرسي، "وإحداث نظام للدعم". وزاد حزب الاستقلال، "تعميم التكوين الرقمي ابتداء من التعليم الابتدائي». ولكي يستتب الإصلاح، ويسير التخطيط وفق ما أراده القائمون على الشأن التربوي، لا مناص من "تحسين حكامة منظومة التربية والتكوين"، الشيء الذي افتقدته الحكومة السابقة حين "عجزت عن تفعيل مخططها التنفيذي الخاص قطاع التربية الوطنية" (الأصالة والمعاصرة)، و"فضلت أن تلعب دور المتفرج على أن تكون فاعلا أساسيا" (حزب الاستقلال). وهنا نسجل خروجا لهذه الأحزاب عن مفهوم البرنامج، والجنوح إلى نقد وتجريح الخصم، الذي ليس محله البرنامج، لكن الممارسة السياسية المغربية عودتنا على ثقافة نقد الآخر، والتغاضي عن النقد الذاتي. فعوض الارتكان إلى طرح الأفكار والبدائل، وإقناع الناس بها لوجاهتها الذاتية. يتم اللجوء إلى أفكار الغير وممارسته، وإخضاعها للتشريح ومختلف عمليات الهمز واللمز، لبناء الأمجاد على أطلال تعداد أخطاء السلف، وإظهار الذات بمظهر المخلص والمنقذ، وإن كان الخطاب إنشائيا حماسيا، أكثر منه منطقي وإحصائي، قابل للتنفيذ في آجال محددة ووسائل معلومة، وتمويل مؤكد من تحصيله. التعليم في البرنامج الحكومي.. استمرار السياسة مع تغيير السياسيين: تعهد السيد رئيس الحكومة بتحسين المنظومة التربوية، والعمل على جعلها ضمن أحسن 60 دولة، عوض المراتب المتدنية الحالية. الشيء الذي يعني أن الحكومة، "ستخلق تغييرا جذريا في الأسلوب، وستصوغ مقترحات هادفة وقوية لتحسين جودة المنظومة التعليمية" (الحكومة). هذه الثورة التدبيرية المبشر بها، تعتمد على مدخلين حسب منطوق الحكومة هما: الرفع من مستوى تكوين الأستاذ والرفع من دخله عند بداية المسار المهني، مع التركيز على توسيع العرض المدرسي بالتعليم الأولي، وتوفير المربيات وتكوينهن، انسجاما ما تم تدوينه في البرنامج الانتخابي. وهما شعاران لم يخل برنامج حكومي من التبشير بهما، لكن النكوص يكون سيد الموقف تحت الإكراهات المالية والظرفية الاقتصادية غير المناسبة. التي كانت مشجبا يعلق عليه الفشل في التدبير، ومن قبل سوء التقدير. ومطرقة تدغدغ بها مقالات المطالبين بالوفاء بالعهود. فإن صح قول الشاعر: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، وبالقياس، فعلى قدر ما يعبأ من موارد مالية وحكامة تدبيرية، تتحقق الثورة التربوية، وحتى "تخلق الحكومة تغييرا جذريا في الأسلوب، وتصوغ مقترحات هادفة لتحسين جودة المنظومة التربوية" (الحكومة). فالأمر يحتاج لتعبئة ميزانية كفيلة بالوفاء بأعباء وتكاليف التكوين وتوفير عدته وعتاده. وبالمطالب المادية للموارد البشرية للمنظومة، التي تراكمت ملفاتها، وتباينت هيئاتها وفئاتها. وعند مقارنة ميزانية الوزارة لهذه الولاية الحكومية مع سابقاتها نجد: 77.4 ملايير درهم في 2022، 71.92 مليارا في 2021، و72 مليارا في 2020، و62.32 في 2019. نخلص إلى أن الفارق في وتيرة الزيادة من سنة لأخرى تبقى ثابته تقريبا. وإذن فلا يمكننا أن ننتظر تدابير استثنائية في ظل ميزانية غير استثنائية. أما على صعيد التعليم الأولي، فقد أشاد السيد شكيب بن موسى أمام لجنة الثقافة والتعليم والاتصال بمجلس النواب، بالإنجازات التي تحققت، كما حصل تقدم في تعميم التعليم وخصوصا بالعالم القروي. أما باقي الطموحات المصاغة إنشائيا، فهي مدبجة في الأدبيات والمشاريع التربوية الصادرة عن الهيئات الاستشارية والرسمية، منذ ما قبل الميثاق الوطني للتربية والتكوين والرؤية الاستراتيجية، التي تعد في نظر الكثير من الباحثين المدخل الأنسب لمعالجة معضلة التعليم بالبلد. لكن في غياب الإرادة والقرار السياسي، تبقى حبرا على ورق، وقد يسيل حبر آخر، وتكدس أوراق أخرى، ويبقى الضياع سمة المسلسل التنموي، ليس مع الحكومة السابقة فقط، كما صرحت وزيرة المالية، بل قد يمتد لسنوات أخرى ما لم نفكر في تدبير بطريقة أخرى، برجال ونساء آخرين. خاتمة: من المفيد في هذا المقام، والمقام تشكيك في الوعود الانتخابية، وعدم الاطمئنان للتدبير التربوي للفاعل السياسي، التذكير بالاعتقاد السائد لدى البعض، بضرورة النأي بالشأن التربوي عن المجال السياسي والفاعلين فيه، وإخضاع أمر تدبيره للخبراء من ذوي الاختصاص. حتى لا يخضع مستقبل الناشئة والوطن للتقلبات السياسية وإكراهات زمنها. ويعد المجلس الأعلى للتربية والتكوين، بتمثيليته لكل الطيف السياسي والنقابي والجمعوي والكفاءات الوطنية، وانسجاما مع روح الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي يشكل "أول مرجية صائبة وحكيمة في توجيه وتصويب المقاصد السليمة لأهم قطاع حيوي داخل أي مجتمع"، وما صدر عنه من تقارير وتوصيات في نظر الكثيرين، خارطة طريق، وخلية تفكير وتخطيط، قمينة بأن تخرج منظومتنا مما تتخبط فيه من إصلاح، وإصلاح الإصلاح.