ملاحم تراب عدة وأوراش نماء بشري ورهان مستقبل أفضل، هو ما كان عليه مغرب الاستقلال بعد استرجاعه لسيادته قبل خمس وستين سنة. ولعل ما طبع البلاد من نداءات وانشغالات وأشغال وأوراش ترابية هنا وهناك، وكذا تحديات وعلاقات دبلوماسية طيلة هذه الفترة من زمنها الراهن، نجد نداء وطن ووطنية ارتبط بأول ملحمة ترابية همت طريق وحدةٍ صيف سنة 1957، سنة فقط بعد الاستقلال، اسم أطلقه السلطان محمد بن يوسف رحمه الله على مسلك جبلي وعر فاصل بين تاونات وكتامة، لكونها أنهت حدودا وهمية كانت قائمة بين منطقتي احتلال فرنسي وإسباني زمن الحماية. وغير خاف على مؤرخين وباحثين مهتمين أن هذا الطريق الذاكرة تم شقه ضمن نداء وطني، من قِبل شباب مغربي متطوع في جو تعبئة وفرح وحماس غداة الاستقلال، إثر خطاب ملكي حول إنجاز هذا الورش الرمزي في منتصف يونيو من نفس السنة. وملحمة طريق الوحدة هذه استهدفت إنهاء واقع إرث استعماري من جهة، وإعداد مشاركين متطوعين وفق ما ينبغي من تعارف وتبادل لوجهات النظر حول شؤون البلاد، وكذا تلقي مبادئ مواطنة ووطنية ليكونوا بمثابة طاقات واعدة إصلاحية من جهة ثانية. ولعل بقدر ما محا طريق الوحدة معالم حدود عن الزمن الاستعماري وتوحيد شمال البلاد بجنوبها، بقدر ما تخرج منه كورش ميداني على امتداد ثلاثة أشهر شباب متشبع بمعاني الوطن. هكذا كان هذا الطريق أول نداء وأول مسيرة من مسيرات بناء مغرب الاستقلال، تلك التي أشرف عليها السلطان محمد بن يوسف وسار على منوالها الراحل الملك الحسن الثاني، بتنظيمه مسيرة خضراء تم على إثرها استرجاع أقاليم البلاد الصحراوية الجنوبية، ونفسه كان نهج الملك محمد السادس في مسيرة تنمية بشرية منذ عقدين من الزمن. وأما عن نداء الوطن الثاني في مغرب الاستقلال، فذلك الذي ارتبط باستكمال وحدة البلاد الترابية من خلال دبلوماسية مغربية هادئة، حرصت على طرح قضية استرجاع ما ضاع من تراب البلاد خلال فترة الاستعمار. وإذا كان أول سفير إسباني قدم أوراق اعتماده للسلطان محمد بن يوسف في يوليوز من عام 1956، فإن هذا التاريخ كان بداية المفاوضات بين البلدين حول ملفات عدة، منها قضية الصحراء المغربية، حيث قام الراحل الحسن الثاني بزيارة لإسبانيا التقى فيها بفرانكو صيف سنة 1967، وتم الحديث عن مستقبل أقاليم البلاد الصحراوية الجنوبية، في إطار ما يجمع البلدين من مودة وتعاون وحسن جوار. تطورات وغيرها انتهت بمطالبة المغرب رسميا باسترجاع ربوعه الترابية في المحافل الدولية عبر نشاط دبلوماسي كثيف، تكلل بإقدامه على مبادرة وطنية حكيمة كانت بصدى دولي كبير، تلك التي تجلت في تنظيم مسيرة خضراء سلمية إلى الصحراء اخترق متطوعوها الحدود الوهمية للاستعمار الإسباني في سادس نونبر 1975. وقد تبين من خلالها للعالم عزم المغرب استرجاع أراضيه، ومن ثمة لإسبانيا التي قبلت بمفاوضات انتهت باتفاقية نونبر من نفس السنة، حيث تم جلاؤها عن المنطقة تحت الضغط بتسليمها للسيادة المغربية. وعليه، كان حدث المسيرة الخضراء التاريخية ونداء الوطن هذا من أعظم ملاحم مغرب الاستقلال وفترة سبعينيات القرن الماضي. ويسجل أن من أوراش مغرب الاستقلال أيضا ما ارتبط ببداية الألفية الثالثة بمناسبة الذكرى الخمسينية لهذا الحدث، حيث تقرير خمسين سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025. تقرير بقدر ما استهدف وضع حجر الأساس لمشروع تشاركي وفق ما يجب من رأي ومقترح وتأمل ودراسة ونقاش، بقدر ما استهدف تقويماً استرجاعياً لمسار تنمية بشرية منذ استقلال البلاد، مع استشراف آفاق هذا الورش. ولعل هذا التقرير كان حصيلة عمل باحثين وخبراء وسياسيين وأكاديميين لتشخيص ما هناك من صعاب وتحديات وسلبيات تخص صناعة القرار، وكذا مصداقية العلاقة بين السلطة والمواطن. وكان هذا التقرير قد توجه بالعناية لتجاوز ما هناك من اختلالات تخص مجالات عدة، من قبيل رهان دمقرطة البلاد، وما يتعلق بنموها الاقتصادي وتنميتها البشرية من تعليم وصحة وفقر وبيئة وقضايا الهجرة والجالية بالخارج وغيرها. وكان تقرير خمسينية الاستقلال قد تزامن مع تقرير لجنة الإنصاف والمصالحة، الذي استهدف مسح أخطاء ماض تمثلت في انتهاكات حقوق الإنسان، منها تلك التي تعلقت بسنوات الرصاص وأحداث ماي 2003 وما شابها من خروقات، ويسجل أن ما طبع تقرير الخمسينية هذا كونه بلور مشروعا ديمقراطيا حداثيا، انبنى على مفهوم جديد للسلطة وعلى تشارك في صناعة القرار، عبر آلية لامركزية وسياسة القرب، مع إطلاق سلسلة مشاريع ذات طبيعة إنمائية. وقد اقتضى هذا الرهان مؤسسات تم إحداثها في هذا الإطار، من قبيل ديوان المظالم والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري والمجلس الأعلى للحسابات والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وغيرها. دون نسيان أن هذا التقرير الاستراتيجي، الذي طبع العهد الجديد من زمن الاستقلال، استحضر مفهوم الإمكان البشري باعتباره محركا أساسيا للتنمية البشرية بما هو عليه من ديمغرافيا وإرث ثقافي مجتمعي، مع أهمية الإشارة إلى أنه رغم ما يسجل عليه من نواقص يبقى في تقدير الكثير وثيقة بقدر كبير من الأهمية في مغرب متصافح مع ذاته وماضيه من أجل مستقبل أفضل. ومن نداءات وملاحم مغرب الاستقلال أيضا نجد ما هو دستوري، ذلك أن البلاد شهدت منذ استقلالها عدة مراجعات دستورية تكريسا لِما عرفته من تحولات. ولعل آخر مراجعة تلك التي ارتبطت بحراك مغربي كان محفزا لإطلاق دينامية مجتمعية جديدة، تفاعلا مع منسوب وعي اجتماعي شعبي بقضايا الشأن العام. وعليه، شكل الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011 أرضية لتعديل دستوري شكلا ومضمونا. وكان ما شهده المغرب إثر هذه البادرة السياسية محط عناية مراقبين، باعتباره حالة استثناء بالمنطقة العربية والمغاربية كتجربة جديرة بالدراسة والتحليل. ورغم تعدد تعديلات المغرب الدستورية منذ الاستفتاء على أول دستور عام 1962، يبقى دستور 2011 الأكثر سعة وعمقا. ذلك أنه اعتبر بشمولية ارتكزت على مكونات أساسية في إطار الثوابت، منها تكريسه لتعدد هوية البلاد الوطنية وترسيخه لدولة الحق والقانون والمؤسسات والحريات الفردية والجماعية، وكذا ارتقاؤه بالقضاء إلى سلطة مستقلة، مع توطيد مبدأ فصل السلط وتعزيز آليات تأطير المواطنين من خلال دور الأحزاب ومكانة المعارضة وفعل المجتمع المدني، فضلاً عن تقوية آليات تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة ودسترة هيئات الحكامة الجيدة وحقوق الإنسان وحماية الحريات. ولا شك أن دستور 2011، رغم ما أحيط به من قراءات، يشكل نقلة ذات أهمية لِما جاء به من مقتضيات، مع ما شكله أيضا من لبنة في مسار الانتقال الديمقراطي. فقط ما ينبغي من تسريع لوتيرة اشتغال وترافع لتفعيلها، عبر إشراك فاعلين كل من موقعه لبلورة السياسات العمومية وكسب رهان دولة الحق والقانون وتطوير الديمقراطية التشاركية، مع ما يمكن أن يسهم به في هذا الإطار فعل مجتمع مدني شريك. بعض فقط مما طبع مغرب الاستقلال من ملاحم ونداءات بمناسبة احتفاء الشعب المغربي بذكرى عيد الاستقلال، الذي يعود إحياؤه إلى سنة 1955 تاريخ عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه. حدث تاريخي يعني نهاية كفاح مرير منذ فرض الحماية على البلاد مطلع القرن الماضي، بعد معارك وطنية ومقاومة مسلحة بجميع جهات البلاد تكللت بانطلاق عمليات جيش التحرير التي عجلت باستقلال البلاد. (*) عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث