مقدمة احتلت الوحدة الترابية حيزا مهما من انشغالات الملك الراحل الحسن الثاني، فقد ظل حريصا على صيانتها والدود عن حدود البلاد ومقدساتها منذ كان وليا للعهد في الخمسينيات من القرن الماضي فناضل وهو الشاب اليافع، حينئذ، إلى جانب والده السلطان محمد بن يوسف، وتحمل معه مسؤولية صيانة السيادة الوطنية بحكمة وتبصر، مجسدا ذلك الذرع الأيمن لوالده زمن الحماية الفرنسية، وهو ما أهله من الاحتكاك والتمرس منذ الصبى على مواجهة التحديات المتمثلة في تسلط الاحتلال، ولا غرو، فقد طالبه بالرحيل في أكثر من مناسبة، لعل أبرزها مناسبة خطاب طنجة في أبريل من سنة 1947م. وبعد حصول المغرب على الاستقلال، وتوليه العرش سنة 1961م، أضاف المرحوم الحسن الثاني إلى مكسب الاستقلال، مكاسب أخرى إضافية بصمت تاريخ المغرب المعاصر، ومنها استرجاع الأقاليم الجنوبية للمملكة عن طريق تنظيم المسيرة الخضراء المظفرة التي صار نجاحها مضرب الامثال لدى القاصي والداني، حيث برهنت في مشهد فريد عن استجابة الشعب لقائده، وعن ذلك الترابط الأبدي بين المغاربة والعرش العلوي المجيد. وفي هذا المقال سنلقي الضوء على أهم ملامح شخصية مهندس المسيرة الخضراء الملك الحسن الثاني، وما جسده التراب الوطني في فكره من حب وقدسية، ثم الجهود التي قام بها لصيانة سيادة الوطن واستكمال وحدته الترابية وجهود تسوية الحدود مع الجزائر، وذلك اعتمادا على أهم ما أنتجه فكره من مؤلفات، ونقصد بذلك كتاب "ذاكرة ملك" وكتاب "التحدي". أهم ملامح شخصية الحسن الثاني: لقد كان للتربية التي خصصها محمد الخامس لولي عهده، أثر كبير في بلورة شخصية الملك الحسن الثاني الذي صار يشعر بجسامة المسؤولية التي تنتظره منذ صباه، ذلك أن معاينته "للوسط العائلي والتشريفات المضنية أحيانا، والأسوار العالية للقصور، والشعور بالعزلة أحيانا" أخرى، كل ذلك جعله يشعر بشخصيته المتميزة مكتشفا أنه يهيأ لدور ما. تميز الملك الحسن الثاني بنبوغه في دراسته، وهو ما كان للوالد فيه دور كبير، فقد فكان خير محفز له على التميز أخلاقا ودراسة، ويذكر الملك الحسن الثاني نفسه في الحوار الذي أجراه معه الفرنسي إيريك لوران، أن والده استدعاه لغرفته ذات صبيحة، حين أخفق في إتقان عمله الدراسي، لينبهه بسؤال مفاده أن عليه ألا يستسيغ مسألة تفوق شخص آخر عليه مما بث في شخصيته حب التفوق والنبوغ، وعمره لا يتجاوز آنذاك الثمانية أعوام. وبالفعل، فقد اجتاز الملك الحسن الثاني دراسته بنجاح وتفوق، فأصبح ملما بعدة لغات ومنها الفرنسية التي وقف ليلقي أول خطاب بها أمام والده والجنرال نوكيس المقيم العام، ومديري التعليم وجمهور من الدبلوماسيين، وذلك بمناسبة تأسيس وافتتاح المدرسة الثانوية الملكية في 20 يناير من سنة 1942، كما حصل على الباكلوريا في وقت كانت فيه المؤسسات الثانوية معدودة على رؤوس الأصابع خلال أوائل الأربعينيات، ثم حصل على الليسانس النهائية في الحقوق الفرنسية، وهو ما ابتهج له والده، فبشر محمد الخامس شعبه بذلك في مناسبة خطاب العرش في 18 نونبر1952م، بقوله: "ومما أدخل سرورا عظيما علينا وعلى أفراد أمتنا الوفية خلال هذه السنة، هو نجاح نجلنا البار ولي عهد مملكتنا مولاي الحسن أصلحه الله في شهادة الليسانس النهائية للحقوق الفرنسية". عرف الملك الحسن الثاني بذكائه وإدراكه للتحديات الكبرى التي تنتظره منذ طفولته، فقاوم، إلى جانب والده، وبطريقته الخاصة سلطات الحماية، فعندما كان يلتقي بالمسيو دوفيل، أحد ضباط سلطات الحماية، كان يؤثر أن يسمعه حكاية الذئب والحمل التي كتبها لافونتين، وهو بذلك كان يسخر الحكاية لخدمة القضية الوطنية، فهو يقصد بالذئب الفرنسيين الذين تخلوا عن فرنسيتهم وعاملوا المغاربة معاملة ظالمة، فاستعار صفة الذئب للتعبير عن وحشية أولئك الذين سماهم في ذاكرته فرنسيين من الدرجة الثانية. ومن مظاهر مقاومة الملك الطفل للاحتلال الفرنسي، حضوره الدائم إلى جانب والده، لا سيما في اللقاءات الدبلوماسية الحاسمة، ومنها لقاء أنفا 22 بتاريخ يناير 1943 حيث حضر محادثاته وعمره لا يتجاوز الرابعة عشر سنة، وهو المؤتمر الذي حمل أولى بشائر استقلال المغرب، حين انتزع محمد بن يوسف وعودا باستقلاله، و يذكر الحسن الثاني، أنه بعد "عشاء أنفا والوعود التي قطعت لوالدي، وضع والدي بحزم الشعب المغربي على طريق الاستقلال". كان ولي العهد مدركا للمسؤوليات الجسيمة التي تنتظره، فتلقى تكوينا عسكريا حين اشتغل كضابط بحرية على الطراد جان دارك سنة 1949مرتديا الزي العسكري متأثرا بعالم الحرب والتقنيات العسكرية الجديدة التي كان يعاينها. ارتبطت شخصية الملك الحسن بالتحدي والأنفة والشجاعة في تعامله مع سلطات الحماية، وتلك سمة خاصة طبعت مقاومة الحسن الثاني ونضاله، حتى أنه عرض نفسه للمخاطر أحيانا، فقد ذكر في حوار له مع إريك لوران، أنه حمل ذات مساء من يوم 25 فبراير 1951 مسدسه قاصدا قتل الجنرال والمقيم العام جوان، على إثر إنذار وجهه هذا الأخير إلى والده، فلم يكن ليتحمل الإهانة، فكاد أن يعرض نفسه للقتل لولا تدخل المستشار محمد عواد الذي أنقذ حياة الأمير بعد أن أقنعه بضرورة استشارة محمد الخامس، وفي القصر أخبر عواد الملك بنية الأمير، مما جعله يأخذ منه السلاح ويثنيه على الفعل. كان الملك الحسن بشخصيته الفذة والقوية، سندا لوالده في النضال، وقد حصل ذات مرة أيام قليلة قبل النفي، أن صرح المغفور له محمد الخامس لولي عهده بالعبارة التالية" ليس عندي ما أطرحه في المعركة، الحماية تحرم علي أن يكون لدي جيش ولا أتوفر حتى على شرطة، والمالية والسلط الحيوية للبلد ليست طوع يدي، كل ما بقي لي في هذه المواجهة هو شخصي وأنتم"، وكان يقصد أبناءه خاصة ولي العهد الذي ظل يطمئنه دوما بالقول: "سيدي ما كان ثقل عليكم حمله سيكون خفيفا علي". تميزت شخصية الملك الحسن الثاني بالصمود في وجه مضايقات الإقامة العامة، وهو ما برهن عنه في قيادة عمليات التنسيق بين الملك وأعضاء الحركة الوطنية، فعندما كان يأتي الى القصر بعض الشخصيات للاتصال بالملك سرا، كان ولي العهد من يتولى نقلهم بسيارته ليلا إلى الغابة بعيدا عن عيون سلطات الحماية. وقد ظل ولي العهد آنذاك الأمين على العرش والمكلف بالمهام الجسيمة في غيبة والده، بل ظل مستشاره الخاص، وفي ذلك يقول الحسن الثاني:" في رسالة تنصيبي وليا للعهد، نوه بي أحسن ما يكون التنويه(...) وكان يستشيرني في شؤون حياته الأسرية وبيته وحتى في همومه الشخصية"، ويضيف" أنا وحدي الذي كنت الحفيظ على أسراره". جهود الحسن الثاني في الدفاع عن حوزة الوطن و سيادته: اتضحت جهود الحسن الثاني في الدفاع عن حوزة الوطن وصيانة أمنه واستقراره، منذ أن كان وليا للعهد، وتميزت جهوده بالحزم والجدية لطرد المستعمر وربط الاتصال بالوطنيين المغاربة في زمن المنفى، وهو ما أثار غضب سلطات الحماية، فلفقت له جملة من التهم، كانت أبرزها تهمة المتاجرة في شاي الصين خدمة لمصالح الشيوعية، وتحميله مسؤولية أحداث وجدة سنة 1954 التي "راح ضحيتها 18 قتيلا بينهم 11 فرنسيا". ولعل من أبرز مظاهر دفاع ولي العهد مولاي الحسن عن وحدة الوطن وسيادته، إخماده لثورة عامل قصر السوق في تافيلالت "عدي وابيهي" حين أعلن عصيانه المسلح، مستغلا سفر محمد الخامس إلى إيطاليا في يناير 1957م، و فيما وجد الثائر دعما من قبل السلطات الفرنسية التي أمدته بالأسلحة والذخائر، زحفت الوحدات المصفحة والمنقولة بأمر من ولي العهد مولاي الحسن، فما كان أمام الثائر عدي وبيهي، إلا أن يستسلم ويطلب الأمان لنفسه وأسرته. وفي سنة 1958م، كانت طرفاية (راس جوبي) قد أعيدت إلى حضيرة الوطن، غير أن السلطات الإسبانية حاصرت المغاربة الذين توجهوا صوب طرفاية لاستلام المدينة، حينها عزم ولي العهد، على التوجه شخصيا إلى طرفاية، دون علم والده، فانطلق من أجدير على رأس ألفين من رجال الجيش عبر كلميم وطانطان، واستغرقت الرحلة أسبوعا توجت بالوصول إلى طرفاية التي وجدت مدمرة من طرف الإسبان. وفي سنة 1959م، وعلى إثر زيارة الرئيس الأمريكي إيزنهاور للمغرب، تقرر جلاء القوات الأمريكية عن قواعدها بالمغرب، واجتهد ولي العهد آنذاك، في أكتوبر 1960م، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدفاع عن البلدان الحديثة العهد بالاستقلال، بل شارك في المباحثات التي جرت بين محمد الخامس ورئيس المجلس الأعلى السوفياتي بريجنيف بعد زيارته للمغرب، وخلالها أوضح ولي العهد، الى جانب والده، وجهة نظر المغاربة، كل احتمال لسوء الفهم. ومنذ فجر الاستقلال، سارع ولي العهد الى بناء علاقات دبلوماسية متميزة مع قادة ورؤساء القوى الاستعمارية الكبرى خاصة فرنسا وانجلترا والولايات المتحدةالامريكية، وذلك بغية صيانة استقلال البلاد وتحديث هياكل الدولة واستكمال وحدة المغرب الترابية. جهود الحسن الثاني في استكمال الوحدة الترابية: منذ أن توليه العرش سنة 1960، والملك الشاب يلح على الفرنسيين بأبعاد القواعد العسكرية، متمسكا بالسيادة الوطنية الكاملة، فوقع اتفاقا مع الجنرال دوكول يقضي بجلاء كل القواعد الفرنسية قبل نهاية 1961م. وهو الاتفاق الذي سارت عليه إسبانيا أيضا، وإن بدى الأمر متأخرا ذلك أن طرفاية استرجعت في ظروف لم تكن بالسهلة، بينما لم تسترجع سيدي ايفني إلا بعد 30 يونيو 1969م وذلك بعد مفاوضات وتوصية من الأممالمتحدة. في ظل تعنت اسباني ومساومات من فرانكو بتوسيع النفود الاستعماري بسبتة مقابل استرجاع سيدي ايفني. اهتم الملك باستكمال السيادة الوطنية على جميع الأراضي المغربية، فتم جلاء القوات الفرنسية والاسبانية والأمريكية عن التراب المغربي، ففي نهاية 1961، غادرت القوات الفرنسية المغرب وأعقبتها القوات الاسبانية. ولم تبق فوق التراب المغربي إلا القوات الاسبانية التي تحتل سبتة ومليلية والجزر الجعفرية في الشمال والصحراء المغربية في الجنوب. وفي سنة 1963، تم جلاء القوات الأمريكية عن كل القواعد التي كانت ترابط بها بالمغرب، مثل القنيطرة وسيدي يحيى الغرب وسيدي سليمان والنواصر... ومنذ الاستقلال، بذل المغرب مساعي كبيرة من أجل استكمال الوحدة الترابية للمملكة، واسترجاع الأقاليم الصحراوية، ففتح محادثات مع اسبانيا () التي ظلت مواقفها متصلبة، ومتشبثة باحتلال الساقية الحمراء ووادي الذهب زاعمة أنهما جزءا من التراب الاسباني. وهكذا لجأ المغرب إلى طرح القضية على هيئة الأممالمتحدة، فعالجتها "لجنة تصفية الاستعمار" سنة 1966 وأوصت بإجراء استفتاء في الصحراء تحت إشراف الأممالمتحدة، كما طرق المغرب باب محكمة العدل الدولية، فعرض على أنظار المحكمة القضية الوطنية سنة 1974، لتؤكد سيادة المغرب على الجنوب الصحراوي. وبالرغم من توصيات الأممالمتحدة الصادرة في 25 دجنبر 1964 والقاضية بإخلاء القوات الاسبانية لأراضي الساقية الحمراء ووادي الذهب الواقعتين جنوب طرفاية، ونداءات الملك الحسن الى السلام والمصالحة، فإن إسبانيا ظلت في تعنت متمسكة بمواقفها الاستعمارية، إلى أن استرجعت الصحراء المغربية بفضل المسيرة الخضراء المظفرة سنة 1975م. الملك الحسن الثاني وجهود تسوية الحدود مع الجزائر: معلوم أن الحدود المغربية الجزائرية، لم تكن محددة بدقة قبل الاستعمار، فقد ظلت مرسومة على مسافة قصيرة بين البلدين، من مصب وادي كيس إلى ثنية الساسي، في حين ظلت باقي الحدود بالجنوب غير مرسومة، مما شجع الفرنسيين على قضم أراضي مغربية بالجنوب الغربي لمستعمرتها. ووفاء لروح الأخوة والتضامن، ظل المغرب يرفض كل تسوية للحدود بينه وبين الشقيقة الجزائر بتدخل من السلطات الفرنسية، معتبرا أن ذلك شأنا يهم البلدين الشقيقين فقط. وقد كان واضحا أن الجزائر الجديدة، لن تقبل أن يغبن المغرب في صحرائه، أو يقبل بحدود فرضها الاستعمار فرضا، فوقع اتفاق في شأن تسوية الحدود بين البلدين في يوليوز 1961 بالرباط من طرف الحسن الثاني والرئيس بن بلة بموافقة فرحات عباس. وفي مارس سنة 1963، جرت مباحثات وصفت بالودية والاخوية بين الحسن الثاني والرئيس بن بلة، صرح خلالها الطرفان وتعهدا أن مسألة تسوية الحدود بين البلدين هي مسألة وقت فقط، متعهدا أن الامر "سيتم فور إقامة المؤسسات الجديدة بالجزائر المستقلة في شتنبر أو أكتوبر القادم، مؤكدا أن الجزائر لن تكون وريثة فرنسا فيما يتعلق بالحدود الجزائرية". لكن لم يحصل ما تم الاتفاق بشأنه، ويذكر الحسن الثاني قائلا: "أخطأت في تصديقي له(ابن بلة)"، لأنه ما جاء شهر أكتوبر من عام 1963، حتى كانت حاميات عسكرية مغربية في حاسي البيضاء وحاسي تينجوب قد هوجمت وأبيدت، مما اضطر المغرب إلى صد هجوم قوات جزائرية كبيرة في ايش وفكيك، والتراجع بنحو كيلومتر واحد، في وقت رفض فيه الملك الحسن الثاني اقتراح أحد رجاله في الجيش وهو الجنرال الكتاني، باكتساح التراب المغربي بالشرق والذي ألحقته فرنسا بالتراب الجزائري. وفي 15 أكتوبر 1963م، اجتمعت في وجدة لجنة مختلطة مغربية – جزائرية، وادعت البعثة الجزائرية أن الحدود الجديدة بين البلدين لابد أن تستند الى خرائط الجيش الفرنسي الذي ألحق أراضي مغربية محتلة في اطار "حق المتابعة" بالأراضي الجزائرية، ليجد المغرب نفسه مضطرا للتخلي عن أراضي مغربية احتلتها فرنسا والحقتها بمستعمرتها الجزائر منذ الثلاثينات من القرن التاسع عشر، خاصة وأن الفرنسيين كانوا يعتقدون أن الجزائر ستظل مقاطعة فرنسية. ولما كان المغرب يدعو إلى السلم والسلام، فقد فضل الرد على العدوان، بالدعوة إلى السلم، وهو قرار من ملك حكيم جنب المنطقة برمتها أخطار حرب مدمرة. وبعد الانقلاب الذي أطاح بالرئيس بن بلة سنة 1965م، عاد المغرب من جديد ليفتح ملف تسوية الحدود، وهو ما حصل في 27 مايو 1970، حين اجتمع الحسن الثاني من جديد بالرئيس الجزائري آنذاك الهواري بومدين، حينها تم إقرار لجنة مختلطة لتسوية مشاكل الحدود، ثم كان اللقاء مجددا بعد أربعة أشهر من اجتماع تلمسان، في نواذيبو بمشاركة الرئيس الموريطاني ابن داداه. بيد أن عقلية المستعمر قد ترسخت في فكر رجالات الجيش الجزائري بعد الاستقلال، ومنهم الرئيس بومدين الذي اختار سياسة الهروب الى الامام بذل ترسيم الحدود ووضع حد لمشكل بسيط تولدت عنه معضلات كبرى. الحسن الثاني وعبقرية تنظيم المسيرة الخضراء: اعترفت محكمة العدل الدولية في لاهاي في أكتوبر 1975م، بأن الأراضي الصحراوية التي تحتلها اسبانيا لم تكن عند استعمارها أرضا خلاء، مؤكدة الروابط القانونية، وروابط الولاء التي تجمع بين المملكة والصحراء منذ فترات تاريخية موغلة في القدم، وقد برهن المغرب على ذلك بوثائق دامغة ووثائق تاريخية ثابتة تثبت مغربية الصحراء، وهو ما جعل محكمة العدل الدولية تناصر المغرب وتعترف بالروابط التاريخية بين المغرب وصحرائه. بعد هذه الخطوة، قرر الملك الحسن الثاني تنظيم المسيرة الخضراء فانطلق في تنفيذ الفكرة بشكل سري، وبعد مشاورات بين الملك و ثلاثة جنرالات وهم الجنرال أشهبار والجنرال بناني والكولونيل ماجور الزياتي، تم تنظيم المسيرة الخضراء المظفرة التي شارك فيها ثلاثمائة وخمسون ألف متطوع، شدوا الرحال الى الصحراء في جو حماسي مفعم بالوطنية الصادقة ومعبر عن ترابط متين بين الملك والشعب. لم يترك الحسن الثاني شيئا للصدفة، وإنما خطط للمسيرة بعناية فائقة، ويذكر أنه كابد خلال إثنا عشر يوما، حين كانت القطارات تنقل المتطوعين من مختلف مناطق المغرب في اتجاه مراكش، ومنها إلى أكادير عبر الشاحنات ثم إلى طرفاية. و في هذا الاطار يمكن رصد بعض الاحصائيات الخاصة بالأطر والمتطوعة والتجهيزات التي وظفت لإنجاح المسيرة الخضراء، منها 350.000 من المتطوعين، يشكل النساء 10 في المائة منهم، بينما بلغ عدد القطارات 10، وعدد الشاحنات 7813، وعدد الاطباء والممرضين 470، وعدد المواد الغذائية المنقولة 17000 طن. لقد وجه الملك الحسن الثاني المسيرة قبل الانطلاق في خطابه التاريخي الشهير قائلا "شعبي العزيز غذا إن شاء الله ستخترق الحدود، غذا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غذا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم(...)". كما زود المتطوعين بمجموعة من النصائح منها التحلي باليقظة والنظام والتسامح، قائلا إذا ما لقيت اسبانيا "فصافحه وعانقه واقتسم معه مأكلك ومشربك وادخله مخيمك، فليس بيننا وبين الإسبان غل ولا حقد". وفي 05 نونبر من سنة 1975، انطلقت المسيرة الخضراء، ووقف الملك الحسن الثاني شخصيا على دقائق الأمور وهو بأكادير، وذكر أن حماس المشاركين كان ملتهبا خاصة أؤلئك القريبين من الصحراء كأهل أكادير وتيزنيت وطرفاية. وما أن طلع فجر يوم 17 نونبر 1975 حتى خاطب الملك المتطوعين، معلنا تباشير النجاح، قائلا" اليوم شعبي العزيز، أراني قادرا على أن أقول: صحراؤنا ردت إلينا". وعلى الرغم من الحماس والاندفاع المفعم بالوطنية ومشاعر الحب بين العرش والشعب، فإن الملك ما أن أمر المتطوعين بالعودة حتى امتثل الجميع للنداء حالا، ويذكر الحسن الثاني رواية طريفة رواها له الملك الاسباني خوان كارلوس، مفادها أن صحفيا إسبانيا اكترى سيارة أجرة من آكادير للالتحاق بالمسيرة الخضراء في طرفاية، وعلى بعد 200كلم، توقف السائق بعد سماع خطاب الملك وهو يطلب من المتطوعين العودة، فسأل الصحفي السائق باندهاش "ماذا دهاك؟ فأجابه السائق: لقد أمر ملكنا بالعودة وعلي أن أمتتل لأمر سيدنا". وبعد المسيرة الخضراء المظفرة، افتتحت المفاوضات في مدريد بين المغرب وموريطانيا واسبانيا، وتم الاتفاق على انسحاب اسبانيا من الصحراء قبل 28 فبراير 1978م، وصادق "الكورتيس" الاسباني على بنود الاتفاق في نونبر 1975م. كما كان مقررا بناء على هذا الاتفاق، أن تحتفظ موريطانيا بالأطراف الجنوبية من الصحراء، غير أنها تخلت عنها اختياريا ليبادر المغرب باسترجاع كل صحرائه بعد إقامة جسر جوي سنة 1979 فعاد إقليم وادي الذهب إلى المغرب واسترجعت بذلك كل الصحراء. هكذا وضعت المسيرة الخضراء، حدا لحوالي ثلاثة أرباع قرن من الاستعمار والاحتلال الإسباني للصحراء المغربية، ومكنت المغرب من حسم قضيته الأولى واستكمال وحدته الترابية. خاتمة وصفوة القول، أن المرحوم الحسن الثاني، قد برهن عن عبقرية فذة، وذكاء منقطع النظير، في تعامله مع القضايا الوطنية سواء تعلق الأمر بمهام تدبير شؤون الشعب، أو بتحديات الحفاظ على السيادة واستكمال الوحدة الترابية للمملكة، وقد حظيت مشكلة الحدود مع الأشقاء الجزائر، باهتمامه البالغ، فبذل قصارى جهده لتسويتها حبيا، حيث كان رحمه الله يميز دائما بين الحدود الترابية والحدود الأخلاقية، مؤكدا أن الدفاع وتوسيع الحدود الأخلاقية، هو ما سيساعد في الحفاظ على الحدود الترابية، ونفس النهج سار عليه وارث سره الملك محمد السادس الذي ما فتيء يولي كل عنايته للدفاع عن المقدسات ودفاعه عن مبادئ حسن الجوار، وسياسة اليد الممدودة من أجل التعاون مع الجيران الجزائريين وكل الشعوب المغاربية التي تجمعها روابط القرابة والدين واللغة والمصير المشترك.