المسيرة الخضراء، مسيرة شعبية دعا إليها الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله سنة 1975بهدف الضغط على إسبانيا للخروج من الصحراء المغربية، حيث استجاب المغاربة لهذا النداء بأعداد فاقت المتوقع. فما هو الوضع الداخلي الذي عاشه المغرب قبيل تنظيم المسيرة؟ وما العوامل التي ساهمت في نجاحها؟ وكيف تم تنظيمها وما النتائج المترتبة عنها؟ أولا: الوضع الداخلي بالمغرب من المعروف أن وصول الحسن الثاني إلى الحكم تزامن مع مرحلة حرجة عاشها المغرب وتمث ذلك في موجة من الاحتجاجات والاضطرابات في كل ربوع المملكة واعتمد الأخير في حل تلك المشاكل على العنف فكانت النتيجة خروج مظاهرات طلابية وعمالية في سنة 1965 في مجموعة من المدن المغربية تندد بهذا التوجه، فحل الملك حينئذ البرلمان وأعلن "حالة الطوارئ" التي استمرت حتى إقرار الدستور الجديد عام 1970. الذي لقي معارضة شرسة من طرف عامة الشعب المغربي واعتبروه" دستورا ممنوحا". كما تعرض الحسن الثاني خلال هذه المرحلة لمحاولتي اغتيال، الأولى في يوليوز عام 1971 عندما هاجم عدد من كبار الضباط حفل عيد ميلاده على شاطئ الصخيرات ويسمى تاريخيا "بانقلاب الصخيرات" والثانية كانت في غشت عام 1972، عندما حاولت طائرات من القوات الجوية إسقاط طائرته حينما كانت في طريق العودة من فرنسا. وشهدت هذه الفترة اشتداد شوكة أحزاب المعارضة، متمثلة في الكتلة الوطنية التي تأسست عام 1970، وهي اتحاد حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوى الشعبية. وكان الهدف الأساسي من تكوين هذه الكتلة هو الاحتجاج على الدستور الجديد، الذي اعتبروه فاقدا لأسس الديمقراطية، وعاش المغرب عقدا من الاضطرابات السياسية الداخلية، بين عامي 1965 و1975، ما بين ضغوط خارجية واحتجاجات داخلية لا مثيل لها. وفي خضم هذا المشهد السياسي الملتهب، كان الملك بحاجة إلى انتصار يعزز من قوته ويدعم مكانته ويزيد من شعبيته، فجاء الحل عبر تنظيم المسيرة الخضراء بعدما فطن إلى أن الحلول الدبلوماسية والعسكرية لن تجدي نفعا في هذا الملف. حيث استغل الحسن الثاني الوضع السياسي الاسباني واستشعر بأن الوجود الإسباني بالصحراء المغربية يعيش أيامه الأخيرة، خاصة في عهد الجنرال فرانكو بفعل الصراعات الداخلية، وانتقال الحكم من فرانكو إلى الملكية فجاءت فكرة المسيرة الخضراء لتعزيز الموقف التفاوضي للمغرب ضد إسبانيا. بخصوص الصحراء المغربية. ثانيا: الروابط التاريخية تاريخيا، اعتاد شيوخ القبائل تقديم البيعة "لسلاطين المغرب" وإعلان ولائهم له. بالإضافة إلى الروابط الجغرافية والتجارية بين القبائل الصحراوية وسلاطين المغرب. ففي سنة1973، بدأ الملك الحسن الثاني في التواصل مع زعماء القبائل بالصحراء وإعلان دعمه لحراك مقاومة القبائل الصحراوية للاحتلال الإسباني، والتنسيق مع الأطراف الموريتانية والمغربية. وبفعل هذا التواصل، نجح الملك في زيادة رصيد شعبيته لدى ساكنة الصحراء، التي اعتبرت أن أرض الصحراء جزءا لا يتجزأ من تراب المغرب. وفي خضم هذه التحركات الملكية أعلنت إسبانيا في غشت سنة 1974عن نيتها إجراء استفتاء بشأن حق تقرير المصير لسكان المنطقة، وحددت موعده في يوليوز1974 وهنا تقدم المغرب بطلب الحصول على رأي قانوني استشاري، ووافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 دجنبر عام 1974. ثالثا: تنظيم المسيرة في الخامس من نونبر1975، وجّه الحسن الثاني خطابا للمتطوعين للمسيرة قائلا "غدا إن شاء الله سنخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطؤون طرفا من أراضيكم وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى من وطنكم العزيز". نجح الملك إذن في ترتيبات المسيرة، تنظيميا محكما تميز بالسرية على مدى عدة أشهر قبل ساعة الصفر، واقتصرت معرفتها على بعض القيادات العسكرية البارزة حيث كشف السر يساوي الرقبة. انتظمت المسيرة في حشود على مستوى كل مدينة بمتطوعيها وقياداتها، وتمت تعبئة نحو 44 ألفا من الكوادر المختلفة، و470 طبيبا لمرافقة ورعاية المتطوعين الذين تجمعوا في مدينة طرفاية في انتظار إشارة الزحف. وقد كانت المسيرة مكونة من مواطنين عُزّل، لا يحملون سوى المصاحف وأعلام المغرب. وحرصا من جلالة المغفور له الحسن الثاني على تجنيب المنطقة حربا مدمرة اتخذ قراره الحكيم القاضي بتنظيم مسيرة خضراء والدعوة إلى نبذ العنف واللجوء إلى الحوار لتسوية النزاعات. رأى الكثير من المؤرخين والسياسيين في المسيرة الخضراء فعلا سياسيا وقانونيا متميزا. واعتبره الأستاذ عبد الله ساعف، بمثابة أوّل ارتعاشة قومية عاشها المغرب والمغاربة قاطبة بعد الاستقلال بينما اعتبر الصحفي استيتو المرافق للمسيرة آنذاك أن مجرد الاعلان عن المسيرة الخضراء كان بمثابة قنبلة إعلامية وسياسية. وفي الخامس من نونبر سنة 1975 خاطب الملك الحسن الثاني المغاربة الذين تطوعوا للمشاركة في هذه المسيرة قائلا "غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى من وطنكم العزيز". بلغ عدد المغاربة الذين شاركوا في المسيرة الخضراء 350,000 مواطن، منهم %10 من النساء، وهذا الرقم الإجمالي لم يكن عشوائيا وإنما يمثل عدد المواليد سنويا في المغرب خلال تلك الفترة. وحُددت نسبة المشاركين بناء على تعداد السكان في كل إقليم، فكان أكثرهم من الدارالبيضاء (35 ألف متطوع) وأكادير (33 ألف متطوع). في حين جاءت أقل الأعداد من بولمان وشفشاون والناظور وطنجة، بواقع 500 متطوع من كل منها. كما شاركت في المسيرة وفود من المملكة العربية السعودية، والأردن، وقطر، والإمارات، وسلطنة عمان، والسودان، والغابون والسنغال.
وقد كان سلاح المتطوعين في المسيرة هو القرآن الكريم، ولم يُحمل خلالها أي سلاح، تأكيداً على سلميتها، وانطلقت المسيرة بقدر كبير من الدقة والتنظيم، حيث عبرت المسيرة الخضراء حدود الصحراء، حينئذ طالبت اسبانيا بعقد اجتماع لمجلس الأمن لإيقافها، كما أعلنت من خلال مندوبها في مجلس الأمن، أن المسيرة الخضراء هي زحف عسكري مسلح، ولذلك فقد حركت أسطولها البحري إلى المياه الإقليمية المغربية، كما أعلنت أنها قامت بزرع الألغام على مناطق واسعة من الصحراء. لكن المسيرة لم تتوقف واستمر الزحف وتحقق الهدف. رابعا: نتائج المسيرة نجحت المسيرة الخضراء في فرض أمر الواقع سنة 1975خصوصا بعد تجاوز الأسلاك الشائكة التي كانت تحدد مجال النفوذ الإسباني، الشيء الذي زاد من الضغط على إسبانيا التي لم تكن مهيأة للدخول في مواجهة مع المغرب للأسباب التي ذكرناها سابقا. وفي التاسع من نونبر من سنة 1975،أي بعد أربعة أيام من المسيرة طلب الحسن الثاني من المشاركين العودة ليبدأ التفاوض الذي أسفر في 14 من الشهر نفسه عن توقيع اتفاقية مدريد التي تخلت بموجبها إسبانيا عن منطقة الصحراء لصالح المغرب وموريتانيا. على المستوى الداخلي، عززت الملكية شرعيتها من خلال التعبئة الوطنية حول قضية الصحراء، وبنت شبه إجماع حول الطرح المغربي للقضية، بما في ذلك لدى أحزاب المعارضة التي كسرت شوكتها. في كتاب "ذاكرة ملك" سال الحسن الثاني من طرف الصحفي الفرنسي إيريك لوران حول موقف الملك في حال فشل المسيرة الخضراء، فكان جوابه "لو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والعلم المغربي في اليد الأخرى، إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة". وبعد نجاح المسيرة الخضراء على المستوى الشعبي والإقليمي والعالمي، وتوغل المتطوعين المغاربة في الأراضي الصحراوية المغربية، اضطر الإسبان إلى العدول عن موقفهم المناوئ للمغرب والبحث عن حل لمشكلة الصحراء، فبدأت اتصالاتهم بالمغرب، مما دفع بالملك الحسن الثاني إلى إصدار أمره بعودة المتطوعين في المسيرة إلى طرفاية مؤقتاً، حتى يتم التوصل إلى حل سلمي للمشكلة، وقد ورد في كتاب "ذاكرة ملك"، أن الصحفي الفرنسي إريك لوران سأل الملك الحسن الثاني، في أي وقت بالضبط قررتم وقف المسيرة الخضراء؟ فأجاب جلالته: "في الوقت الذي أدركت فيه جميع الأطراف المعنية أنه يستحسن أن تحل الدبلوماسية محل الوجود العسكري بالصحراء". ومن نتائج حدث المسيرة الخضراء الذي أصبح من العلامات الفارقة في تاريخ المغرب الحديث، قبول إسبانيا إجراء المفاوضات والوصول إلى اتفاقية مدريد الموقعة يوم 14 نوفمبر 1975 بين الأطراف الثلاثة، وهي الاتفاقية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي بموجبها دخل المغرب إلى العيون سلميا، وانسحاب الإدارة الإسبانية من المنطقة يوم 26 فبراير سنة 1976. نجح المغرب في ضم الصحراء المغربية بعد هذه المسيرة، التي اعتُبرت أكبر مسيرة على الإطلاق في تاريخ إفريقيا. كما كانت انتصارا للملك الحسن الثاني، حيث ساهمت في توحيد صفوف القوى الوطنية، ونجح الحسن الثاني بعدها في لجم المعارضة الداخلية، لكن هذا الانتصار لم تستسغه بعض دول الجوار حيث عملت على خلق كيان وهمي لعرقلة جهود المغرب في التطور والازدهار.
* ميلود سوالمة: أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي وباحث في التاريخ المعاصر