عندما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني إرسال آلاف المتطوعين المغاربة إلى الصحراء من أجل دحر المحتل الاسباني، بصدور عارية، وأكف لا تحمل سوى مصاحف وأعلام البلاد، قال كثيرون إنها عبقرية ملك، ومغامرة لا يُقْدم عليها سوى الحسن الثاني، فيما أكد آخرون أن الرجل لم يقم حينها سوى باستثمار الظروف الوطنية والدولية القائمة. وتعد المسيرة الخضراء أبرز حدث في المغرب الحديث بعد نيل الاستقلال، وكان حدثا من طراز خاص وفريد، فأن ينطلق 350 ألف متطوع في مسيرة سلمية لمواجهة جيش الجنرال فرانكو، ليس بالأمر الهين البتة. فهل كان القرار ينم عن عبقرية الملك الراحل، أو كانت مغامرة محسوبة العواقب. لا ينسى المغاربة عندما ألقى الملك الراحل، في الخامس من نونبر من سنة 1975، خطابا يعلن فيه الانطلاقة الرسمية للمسيرة الخضراء، وقال حينذاك: "غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطئون طرفا من أراضيكم، وستتلمسون رملا من رمالكم، وستُقبِّلون ثرى وطنكم العزيز". بالنسبة للخبير في الشأن الاستراتيجي والعسكري، سليم بلمزيان، فإن المسيرة الخضراء "جاءت في خضم ظروف وطنية ودولية حساسة ساعدت على نجاحها"، مشيرا إلى أن "انقلابي سنتي 71 و72 الفاشليْن زعزعا ثقة الملك في جيشه الذي كان يعول عليه لحماية العرش، حيث إن فتح جبهة في الجنوب كان وسيلة لجعل الجيش ينشغل في شيء آخر غير السلطة". ولفت بلمزيان إلى أن انقلابي 71 و72 كانا سببا دفع بالملك الراحل، الحسن الثاني، إلى تحريك الملف لدى محكمة العدل الدولية، التي قضت بوجود روابط بيعة بين قبائل الصحراء والدولة العلوية، وهو ما جعل الحسن الثاني يخبر الشعب بأن ذلك "انتصار للمغرب". واسترسل المتحدث أنه عندما أعلنت اسبانيا، سنة 1974، عن استفتاء لتقرير المصير في الصحراء في 1975، سارع الحسن الثاني إلى إفشال ذلك، خاصة أن لجنة من الأممالمتحدة انتقلت إلى الصحراء أواسط السنة نفسها، وأكدت أن غالبية السكان هم مع الاستقلال التام عن اسبانيا. الخبير تابع: "هذا ما دفع الحسن الثاني لإبداع فكرة المسيرة الخضراء، مخفيا وراءها خططا عسكرية بدأت بتحرك للجيش لضم مناطق شمال شرق الصحراء، قبل انطلاق المسيرة، لإفشال أي تحرك من طرف مليشيات البوليساريو، والاستعداد لعمليات تطهير للمناطق المسترجعة". وأوضح بلمزيان أنه من الظروف الدولية التي لعبت دورا في انبثاق المسيرة، "ضعفُ اسبانيا كقوة استعمارية لمنطقة الصحراء، خاصة مع مرض الجنرال فرانكو، وحالة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي للبلد، جعلها لا تحرك ساكنا أمام تحركات المغرب لاستعادة صحرائه". المحلل ذاته أشار إلى أن المغرب قام رغم ذلك بمناورات مكثفة بالقرب من الحدود الوهمية، استعدادا لأي رد فعل عدواني من طرف القوات الاسبانية ضد المغاربة، كما أن فرقا من الجيش، بقيادة الدليمي، استرجعت مناطق شمال شرق الصحراء للحيلولة دون تدخل من الجزائر أو مليشيات البوليساريو. وذهب بلمزيان إلى أنه باستثمار الوضع الذي كانت تعيشه اسبانيا، وتراجع قوتها العسكرية، نجح الملك الراحل الحسن الثاني في تحقيق نقاط عدة؛ "أهمها إنهاء الصراع حول السلطة، بتحقيق وحدة وطنية شاملة حول قضية عادلة، دفعت الطبقة السياسية إلى ترك النقاشات السياسية جانبا، والتوحد حول قضية واحدة". وأردف الخبير أن "الجيش أصبح منشغلا بحرب لا زالت قائمة، أدت إلى موت كل رغبة في الانقضاض على السلطة، وزعزعة استقرار العرش، ووحدة البلاد"، مضيفا أنه "عدا ذلك رسم الحسن الثاني صورة عن المغرب كبلد استرجع ما يعود له تاريخيا دون سلاح، في زمن كانت الحرب الباردة في أوجها بين المعسكرين الشرقي والغربي".