نكتب الشعر لتكثيف كمال إنسانيتنا ونقرأه لنرى العالم يحلم في دواخلنا بحلمنا حين نكتب الشعر نروم أن نبرز كمال إنسانيتنا مكثفا باللغة والخيال، وحين نقرأه نسعى إلى أن نحس بالمتعةِ التي تُشبهُ ذوبانَ الذاتِ في بحرِ النِّرفانا، بل نقرأه لنرى العالمَ في دواخلنا يَحلُم بما نحلمُ به، ويرقص له وكأنه يصلي صلاةَ عِشقٍ لا نهائي. وفِعلُ (رأى) هنا يقطع الحبل السري الذي يربطه بالمعجم، ويلتصق بحبل سُري آخر ممتدٍّ من سُرة الرؤيا المستدرِجة لرؤى كل الرائين، مرورا بالرائي الأول جلجامش إلى آخر راءٍ في التوِّ اللحظة، حيث عوالمُ الحلم، وعوالم المجهول تشفُّ وتكشف عن جزءٍ من ماهيتها في النص الشعري، وتضفي عليه ظلالا تفوق ما يعتبرهُ النقد ظلالَ المعنى. إن الشعر حقا هو الذي يحقق لنا هذه الرؤية.. رؤية العالم في دواخلنا يحلم بحلمنا، وحلمُنا ما هو إلا امرأة عاشقةٌ صاعقةُ الجمال، تقتبس منها الطبيعة فتنتَها، وتتوحد معها، فإذا العالم حلمٌ تحلم به كل أنثى، كما يحلم به كل شاعر افترست الرؤية عينيه. فالذات المبدعة حرفٌ، والحرف أمَّةٌ من الأمم لا تموت، لأن الكلمات طين لازبٌ في المعاجم، والشاعر يأخذ من هذا الطين اللازب ما يتفق وزمنه الداخلي فينفخ فيه روحا، بحيث يصبح أمَّةً من الأُمَمِ لا تموت؛ لها سياقها الخاص المخالف لسياق المعاجم، وسياق الخطابات الأخرى. يقول ابن عربي: إِنَّ الْوُجُودَ لَحَرْفٌ أَنْتَ مَعْنَاهُ وَلَيْسَ لِي أَمَلٌ فِي الْكَوْنِ إِلَّاهُ الْحَرْفُ مَعْنًى، وَمَعْنَى الْحَرْفِ سَاكِنُهُ وَمَا تُشَاهِدُ عَيْنٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ فهي تتشكَّلُ وفق دينامية الخيال، وقوةِ مخزوناتها واستشرافاتها، وتطلُّعاتها الفكرية والإنسانية. لا تتقيد بشكل كتابي قارٍّ، وإنما تسافر في مجرَّات الأشكال بوعي إبيستيمولوجيٍّ، وحدسٍ جماليٍّ، تنداح الأضواء في جوَّانيتها لتقول ضوءَها الخاص. وفي القصيدة تملك الكلمات عيونا، تسلطها على العالم في استدارات داخلية بطيئة، وخارجية سريعة، تُحول الفكر والوجدان إلى ظل تتقطر منه الحياة.. الحياة كما نشتهي أن نراها، لا كما هي في الواقع. والشعر هو ماهية الخيال، ولغة اللغات التي كلم الله بها العالم، ولذلك سنَّ له العرب القدامَى سجدة سموها ب"سجدة الشعر". فهم كلما سمعوا شعرا أخذ بمجامع قلوبهم خرُّوا سُجَّدا. ومن هنا كانت الحاجة إليه، فهو الذي يحرر الإنسان من الزمن المستبد، ومن الأقنعة الماسخة التي تسحق وجوده، وتشل فيه رعشة المستحيل المتوهجة في البعيد الأبعد، ووردة اللانهائي الفواحة بألوان الطيف. وإننا لنرى القصيدة وجودا للوجود، ومشتركا إنسانيا تتلاقى فيه الوجدانات لتنسج الحياة المَحْلُومَ به عن طريق اللغة والمِخْيَالِ.