وسط إحدى دروب منطقة حسان الرباطيّة، وبالضبط بزنقة "تامصلوحت"، قد لا يعير المار من هناك اهتماما إلى مطعم متواضع الشكل وصغير الحجم، بالكاد تقرأ و أنت تبحث عن اسمه بخط ولونين باهتين "les artistes"، أو مطعم الفنانين، لا يتوقع الزائر لأول وهلة أن بساطة هذا الاستقبال الخارجي تخفي خلفها سحرا وفنا لا يقاومان.. وهذا هو الشعور الذي راود كريم، شاب في الثلاثينيات فقام بأول زيارة لهذا الفضاء قبل أن يعترف بأنه أصيب بالدهشة بمجرد تخطيه لعتبة الباب الخارجية نحو الداخل، ليصبح مترددا عليه في أغلب الأحيان بحثا عن الراحة والفن والموسيقى الهادئة. تستقبلك حوالي 10 طاولات مختلفة الحجم وموحدة اللون "الأسود"، تحيط بها كراسي في "البِييجْ" متراصة، جدران مغطاة بلوحات للفن التشكيلي للصغيرة هبة بعنوان "10سنوات من الرسم"، تزين كل زاوية من زوايا المطعم، وكل التفاصيل الدقيقة مضبوطة من ألوان متناغمة، الموسيقى الهادئة مختارة بعناية، والإنارة خافتة.. كل شيء يحيلك على قداسة فنية تحيط بالمكان، حتى الابتسامة المرسومة على وجه النادلات وهن يقمن بخدمة الزبناء تجعلهن في انسجام مع باقي العناصر الجمالية. اختيار الديكور أخذ من عبد الرفيع الخمليشي، صاحب المطعم، وقتا طويلا.. " لقد قمت باستفسار مجموعة من المتخصصين من أجل تجسيد ديكور فني يناسب ما تخيّلته، بل الأكثر أني كنت آخذ بكل الآراء، من البواب إلى مهندس الديكور، لأصل إلى هاته النتيجة"، ويضيف عبر الرفيع بتواضع جلي انتقل إلى نبرات صوته وهو يصرح لهسبريس: "الألوان وشكل الطاولات والكراسي، وطريقة وضعها النهائية، هي من اختياري". مطعم ومعرض.. عصفوران بحجر فكرة إخراج هذا المطعم الأدبي الفريد من نوعه إلى الوجود تبادرت إلى ذهن الأب الخمليشي بعد أن اكتشف موهبة ابنتيه هبة وغيثة، الثنائي الأصغر في تاريخ الفن التشكيلي، حيث فكر في جعل هذا الفضاء مكانا لضرب عدة عصافير بحجر واحد، فمن جهة يغدو الفضاء معرضا للوحات ابنتيه، ومن جهة أخرى مطعما أدبيا يلتقي به العديد من الأدباء والكتاب لأجل حفلات التوقيعات أو مناقشات تطال كتبهم. يقول الخمليشي: "الفكرة جد بسيطة رغم أنها أخذت مني حوالي 5 سنوات لأنفذها، فبعد أن منحني الله ابنتين موهوبتين في سن مبكرة، وبدأت لوحاتهما تعرض وتخرج إلى الجمهور، أصبح يتوافد على منزلي صحفيون ونقاد من داخل المغرب وخارجه، ففكرت في تخصيص فضاء خاص لعرض أعمالهما للجميع". وهي تبحث عن 100 درهم من صندوق المال وتمدّها مخبرة: "تْسَالَا الخُبْز"، يجيبها "عْجْنِي لِيهُم الرْغَايْفْ" بمزحة أتت من الخمليشي نحو ابنته التي ألفت منه جو المرح الذي يضفيه على داخل فضاء الاشتغال وديناميته المريحة. العمل داخل المطعم يتم بشكل جماعي شامل ل12 عاملا، من بينهم أفراد من عائلة الخمليشي المهندس والمشتغل في مجال " الكوتشينغ"، هم أفراد أقارب لم تمنعهم مكانتهم الاجتماعية ومستواهم الدراسي العالي من المشاركة في أعمال التسيير، حيث تتكلف زينب بالجانب الفني الذي يختار الموسيقى والفيديوهات، ثم الفنانة غيثة، وربان الطائرة أبو بكر وأخوه عثمان، الكل يساهم في إنجاح مشروع فني وأدبي قبل أن يكون تجاريا. "الفكرة اقترحها علي أحد الأصدقاء لأني في البداية كنت أفكر فقط في إقامة معرض للوحات ابنتي، فجاءت فكرة المطعم التي تهدف إلى توفير كل متطلبات الراحة بالنسبة للزوار، بتقديم الأكل والشرب والموسيقى" يورد الخمليشي الذي يضيف: "الربح هو آخر هدف لي من هذا المشروع، والدليل أن ثمن وجبة غذاء كاملة هو 49 درهما، وهو أمر مناسب للغاية تجاه كل الطبقات الاجتماعية، وغالبا ما نقوم بتخفيض الأثمنة إلى أقل من النصف". "الفنانين".. وجهة جديدة لمثقفي العاصمة المطعم لا تحتكره لوحات هبة وغيثة فقط، بل أصبح وجهة لكبار الكتاب المغاربة والأجانب من أجل حفلات توقيع كتبهم ومناقشتها، إضافة إلى الاستمتاع باحتساء فناجين القهوة وتبادل الأفكار والمشاريع الفكرية والأدبية في جو محاط بلوحات تشكيلية راقية وكذا خدمة مناسبة وجيدة. ويهدف الخمليشي، انطلاقا من فكرته، ليس فقط إلى التعريف بأعمال ابنتيه ونقلها إلى الجمهور مباشرة، بل هي التفاتة أيضا من أجل تحفيز أعمال الجيل الصاعد، سواء من المغاربة أو الأجانب الموهوبين في الرسم عبر تنظيم مسابقات لتتويج من لا تتاح لهم فرصة عرض أعمالهم، كما يهدف أيضا إلى أن يصبح المكان فضاءً أدبيا يحتضن لقاءات شهرية تسعى لأن تغدو منتظمة. لا يعتبر "مطعم الفنانين" أول مقهى أدبي في العاصمة الإدارية للمغرب، فقد اشتهر من قبله في هذا الشأن كل من مقاهي "لاكوميدي"باليما"، حيث جرى العرف التاريخي والثقافي بأن يتوجه إليهما منتمون لنخب المثقفين، لكن ما يميز "الفنانين" هو توفره على أجندة فنية ثقافية شهرية غنية بتنوع أنشطتها ومجالات الفن. الخمليشي لا يمل من الإشراف على تطبيق برمجة الأنشطة بمطعمه، فتجده منهمكا في اختيار 100 من أجمل الأغاني في السنوات العشر الأخيرة كي يعرضها على الضيوف بشكل مجاني، تماما كما يحرص على اختيار أجمل أغنيات الفنانات المغربيات بمناسبة احتفالية عيد المرأة، وكذا انتقاله للتصوير الفوتوغرافي لأجل تنظيم مسابقات لأحسن صورة فنية، ومع الإيقاعات الموسيقية يضرب الخمليشي لزواره وزبنائه مواعد حفلات تتنوع من فرق الكناوة إلى موسيقى الجاز، جاعلا من محله ملكية فنية مشتركة. هبة وغيثة الخمليشي.. "الأخوات ويليامز" هبة وغيثة الخمليشي، أصغر بنات الخمليشي من بين أبنائه الست، صاحبتا ال12 وال16 سنة على التوالي، بدأتا مسارهما الفني في الرسم التشكيلي وهما ضمن سن جد مبكرة، حيث كان يوفر لهما الأب أدوات الصباغة ليفاجأ بموهبتهما.. وقد شرعتا في عرض لوحاتهما على عدة نقاد مغاربة وأجانب وهؤلاء أبدوا استغرابهم من الأعمال التي توفرت فيها الدقة وتقنيات رسم جد فريدة لا تختلف من حيث المهنية عن لوحات ففنانين متمرسين كبار. لكل واحدة من الشابتين الخمليشي أسلوبها الخاص وتقنياتها الشخصية في التعامل مع الريشة والألوان.. تبدو لوحاتهما مختلفة ولا تتشابه فيها من حيث الموضوع وكذا طريقة الإنجاز، لكنهما تشتركان في رسم أكثر من 1000 لوحة في ظرف سنتين، ومنها أطول لوحة في تاريخ الفن التشكيلي بالمغرب لهبة، حيث يقدر طولها بعشرين مترا أنجزتها بحضور أزيد من 300 فنان في مجالات متعددة، إلى جانب وجوه معروفة في مجالات أخرى. تجاوزت شهرة هبة وغيثة حدود المغرب نحو عدد من الدول أجنبية أبرزها الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ورومانيا وبلجيكا.. وهي شهرة عالمية جعلت من دخول هبة لكتاب غينيس للأرقام القياسية، كأصفر فنانة تشكيلية متمرسة، شيئا جد منطقي.. كما أن الثنائي مثل المغرب في محافل وتظاهرات دولية، كالمهرجان الدولي للفنون بدكار، كما اختارتهما مؤسسة "سيتي آرتس" بنيويورك لتمثيل المغرب في معرض حول موضوع السلام ضمن حدث تستفيد من ريعه جمعيات تعتني بالأطفال مرضى السرطان. إضافة للرسم، تتوفر للشقيقتان الخمليشي على مواهب أخرى، حيث تعتبر غيثة أصغر طفلة في المغرب بمستوى السنة الأولى من باكلوريا الرياضيات، ولها قدرة محترمة على كتابة الشعر وقصص الأطفال، كما حازت على الرتبة الثالثة في المباراة الدولية للقصة الفرنكفونية للأطفال، أما هبة فتعشق العزف على مفاتيح آلة البيانو.