تقديم عرف العالم في العقود الأخيرة، تطورا هائلا في المجال التكنولوجي والرقمي والمنابر الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي، لكن على الرغم من ذلك ما زال في حاجة إلى تدبير ديمقراطي وتواصلي أكثر نجاعة، لشؤونه ومشاكله المتفاقمة على جميع المستويات، بما في ذلك جائحة كورونا. لقد أصبحنا نعيش في عالم ينقصه الفعل التواصلي الذي يفترض اعتماده من طرف الأفراد والمجتمعات والدول، لتدبير شؤونها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بكل شفافية ومصداقية، للتفاعل مع المواطن في المجتمع ومعالجة المشاكل المختلفة. والتواصل ينبني على الإنصات والفهم والحوار والنقاش، باعتماد الأسلوب الحجاجي قصد الإقناع، مع احترام الرأي والرأي الآخر على الرغم من الاختلاف في المقاربات والتصورات. إن الوحدة والاختلاف والإنصاف والتواصل هو ما يجعل العيش المشترك داخل المجتمع ممكنا وقابلا للتطور والتقدم. إذن ما هي طبيعة الجدلية القائمة بين الاختلاف والتواصل؟ وكيف يساهم التواصل الديمقراطي في بناء العيش المشترك بين الأفراد والمجتمعات؟ 1- العيش المشترك بين الاختلاف والتواصل يشكل الاختلاف في الأفكار والمواقف ظاهرة صحية داخل المجتمع للترافع والتنافس وبناء الوعي الجمعي المساهم في خدمة مصلحة الدولة والمجتمع، وخصوصا عندما يتم اعتماد آلية الحوار والنقاش الديمقراطي الهادئ، للتداول في قضايا الشأن العام. كما تنبني الثقافة التواصلية على البرامج والأفكار واقتراح الحلول التي تتنافس في ما بينها لإقناع المواطنين باعتماد التواصل والتفاعل في الفضاء العمومي الواقعي والرقمي. والثقافة التواصلية تعكس مستوى الأداء والتفاعل للدولة والمجتمع في سيرورتهما، ومدى نضج التدبير العمومي للتعبير عن إرادة المجتمع ومطالبه واحتياجاته الجوهرية، في عالم تعد فيه الديمقراطية رافعة أساسية لتحقيق التنمية والنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطن. وإذا كانت السياسة هي فن الممكن فهي أيضا أداة لتدبير الشأن العام من أجل تحسين شروط عيش المواطنين في عالم يتميز بهيمنة الليبرالية الجديدة التي تمارس استغلالا مضاعفا للإنسان المعاصر في مختلف جوانب الحياة. في هذا السياق، تتطلب الثقافة التواصلية مجتمعا مبنيا على الإنصاف والاعتراف، للمساهمة في تسيير الشأن العام بكفاءة ونزاهة وشفافية وبثقافة ديمقراطية، خدمة للشأن العام المحلي والوطني، لترسيخ العيش المشترك بالعدل والتضامن المجتمعي. كما يصبح للفعل التواصلي مصداقيته في تحقيق التنمية وبناء مجتمع أفضل. 2- التواصل والعيش المشترك لقد أبانت أزمة كورونا عن أن الفعل السياسي والتواصلي بمختلف أطيافه مطالب بإعطاء الأولوية للقطاع العام الذي يوجد في قلب معادلة الدولة الاجتماعية، وما يفترض ذلك من دول العالم من مراجعة السياسات التي أدت إلى تهميش هذا القطاع، باعتباره الأساس الذي تنبني عليه الدولة الحديثة. وأيضا، المحك الحقيقي لمصداقية العقد الاجتماعي الذي يجعل المواطن في قلب اهتمام الدولة. وتراهن عليه، لتحقيق التنمية وبناء مجتمع متقدم. وكل تقصير في دعم وتأهيل المرافق العمومية والاجتماعية يؤدي إلى تعميق الأزمة والتوتر والمس بمرتكزات العيش المشترك. في هذا السياق، نلاحظ أن التباين والاختلاف الحاصل في المواقف من التلقيح والجواز، يجعل الدول ونخبها في العالم، سواء في أمريكا أو أوروبا، أمام نقاش دستوري وقانوني وحقوقي. يتطلب كثيرا من الحكمة وحسن التدبير في تنزيل القرارات التي تفترض الوقت الكافي للتواصل والمرافعة، بهدف الإنصات والإقناع لتدبير الشأن العام بحكامة وكفاءة. كما أن الأزمة الوبائية تتطلب مقاربة تواصلية مستمرة مع المواطن لشرح وتبسيط المعطيات والمستجدات العلمية والصحية لضمان انخراطه الفعلي لمواجهة كورونا وحماية نفسه من هذا الوباء الفتاك. هذا بالإضافة إلى تنزيل الحماية الاجتماعية وتوفير شروط العيش الكريم لضمان انخراط الجميع وبشكل تضامني لبناء العيش المشترك في المجتمع. يضمن مناعة جماعية ضد كورونا وضد الفقر والتهميش، حتى يستطيع المواطن مسايرة متطلبات العصر ماديا ومعنويا ويتجاوب بشكل مستمر مع قرارات الدولة متى كانت عادلة ومنصفة وغير متسرعة. 3- المقاربة التواصلية مع الرأي العام النقدي يعد التواصل مع الرأي العام النقدي في الفضاء العمومي الواقعي والرقمي أمرا أساسيا في معادلة تدبير الشأن العام، الذي يهتم بالقضايا المشتركة للمواطنين عبر طرح الأفكار والآراء والبرامج بهدف الإقناع، لخلق رأي عام يساهم في تطوير الثقافة الديمقراطية والتواصلية حتى في الظروف الاستثنائية. وذلك ببناء وتصحيح الممارسة الديمقراطية بمشاركة المواطن الواعي بحقوقه وواجباته. لذلك، فإن ظروف الجائحة تفترض من الدول، التفكير في مقاربة تواصلية ديمقراطية في بعدها الوطني والجهوي والمحلي مع الرأي العام، لأن ظروف الجائحة تحتم الدراسة والتقييم والتواصل المستمر مع المواطن، لوضعه في الصورة كاملة بكل شفافية ومسؤولية، لضمان انخراط الجميع في خلق وعي صحي لمواجهة الوباء حتى لا يسقط في الأخبار التضليلية التي تزيد في حالة الغموض وفقدان الثقة عند المواطن. إن التواصل الفعال والبناء يكون ناجحا عندما ينفتح الفاعل السياسي في المجتمع المعاصر على المواطن في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي، حيث يتم الإنصات إلى انشغالاته وتساؤلاته ومطالبه لضمان التعبئة الجماعية والمتضامنة لإيجاد الحلول لمختلف التحديات والمشاكل، وكذلك التصدي لفيروس كورونا وانعكاساته المدمرة في مختلف المجالات. كما يتطلب الإنصات إلى مطالب المواطن ومرافعاته في الظروف العادية والاستثنائية لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بشكل متضامن وعدم اللجوء إلى القرارات المتسرعة والأحادية، على الرغم من الاختلاف في المقاربات والتصورات. وذلك من أجل بناء مجتمع قوي يرتكز على الديمقراطية والتواصل الفعال بمشاركة المواطنين في بلورة الحلول والبدائل والقرارات محليا وجهويا ووطنيا تجسيدا للمواطنة المسؤولة وتفعيلا للديمقراطية التشاركية لتحقيق التنمية وترسيخ ثقافة العيش المشترك. خاتمة إن الاختلاف في الأفكار والمواقف حول قضايا الشأن العام في المجتمع المعاصر يتطلب مقاربة تواصلية، تعتمد على النقاش العمومي والتواصل مع المواطنين داخل المجتمع، لتجويد القرارات المتخذة حتى تكون ذات مصداقية في التنفيذ، وضمان انخراط المواطن وتفاعله الإيجابي مع هذه القضايا بكل مسؤولية وروح تضامنية، تؤسس لفعل ديمقراطي وتواصلي ممكن. وذلك من أجل ترجمة الإرادة الفعلية للدولة والمجتمع إلى واقع ملموس. يعكس تدبير قضايا الشأن العام بمصداقية وشفافية. يلتزم فيه الفاعل السياسي بوعوده الانتخابية التي قدمها للمواطن، باعتماد الحكامة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم استغلال ظروف الجائحة لتمرير قرارات مجحفة وغير إنسانية، في عالم يعرف تراجعا ديمقراطيا يعصف بمكتسبات وإنجازات حققها المجتمع عبر سيرورة طويلة من العمل والبناء المستمر. لذلك على الفاعل السياسي أن يتقن المقاربة التواصلية في الفضاء العمومي للوصول إلى الحلول والبدائل المقنعة. ترضي الجميع وتعطي الأمل في العيش الكريم لكل الفئات الاجتماعية بدون استثناء في عالم ممكن بالوحدة والتضامن والاعتراف والإنصاف.