بين "الإخوة كرامازوف" و"تريكة البطاش" دوستويفسكي يضيع خيوط الحكاية "" العبث، عبثين بل عبث متعدد الزوايا والأبعاد: عبث برواية هي تحفة فنية من تراث الإنسانية الكبير. عبث بواقع مغربي أخضعناه لمتطلبات الرواية، بغرض استنبات أحداثها في تربته، ولم نوفق. عبث بالمسرح في هجومه على جسم الدراما التلفزيونية. عبث بنجوم التمثيل المغاربة، الذين حشدوا لانجاز هذا العمل. عبث بميزانية لا نعرف رقمها الحقيقي بعيدا عن التصريحات الرسمية، يبقى أن أهل مكة أدرى بشعابها، المصدر معلوم وأوجه الصرف مجهولة. عبث بذوق وذكاء ووقت المشاهدين واستبلادهم. وعين العبث عدم احترام التخصصات، واحتكار كل المسؤوليات، جملة كاننا بصدد " هوتة ديال الخردة". ينتهي عرض المسلسل المغربي تريكة البطاش الذي قيل لنا انه دراما اجتماعية، ورأينا منه كل عجيب وغريب، خلال ثلاثين حلقة امتدت على مدى هذا الشهر الكريم، تراوحت مابين مقدمة درامية عن العنف والحب ، ثم تحولت إلى مونولوج بأفواه متعددة، ثم روبورطاجات تبرز كوميسارياتنا ببناياتها الفسيحة والشرطة في حالة راحة وعطالة بحكم أنها فارغة، وانعدام المرضى في مستشفياتنا الواسعة والنظيفة الفارغة بطبيعة الحال الأطباء أيضا هناك في حالة عطالة. تصورات لا علاقة لها سواء بالواقع أو بالرواية، بعد كل ذلك يتحول سياق الأحداث إلى سلسلة بوليسية " ستارسكي وهوتش" وعلى حين غفلة يجد المشاهد نفسه مع ثلة من المراهقين يبحث عن الجرو المدعو "طارزا" الذي ضاع من "ولد السارجان"، الدين الفلسفة السوقية والاشتراكية مفردات ومفاهيم تلقى على عواهنها، شخوص يختفون دون مبرر أو أثر، وآخرون يظهرون فجأة، دون موقع أو دور في الحكاية، ناهيك عن التمطيط والتطويل والتكرار المتعمد للوصول إلى الحلقة الثلاثين،التي كانت بالغة الرداءة أكثر مما كانت توحي به نقطة انطلاق هذا العمل، أو صيرورة أحداثه المبعثرة، ليتم الاستنجاد ببرنامج "مداولة" ليجمع خيوط السرد الدرامي التي توزعت في كل الاتجاهات، ولم يعد يربطها رابط، حتى الفنان محمد حراكة (الراوي) الذي تمتع على ما اعتقد كثيرا بممارسة الخطابة وتكرار سرد أحداث الرواية، أمام عين الكاميرا، لان كاتب السيناريو حمله مسؤولية هذيانه و اختاره المخرج ليلعب دور الرقاص الذي يوحد العناصر، دون جدوى. حلقة طبق الأصل من "برنامج مداولة" ، وجلسة حكم سريالية لا تمت للواقع بأي صلة، بقدر ما تمت إلى مسرح العبث، ربما قد تقترب من محاكمة كافكا، من يدري، إنها محكمة غريبة حقا. عزام البطاش يقتحم المحكمة في حالة هذيان ويعربد في قاعة الجلسات، دون أن يعترضه احد أو يتدخل أحد لإسكاته، لقد شاهدنا قاعة هي أشبه بأي مجال يخطر على البال إلا قاعة جلسات، حتى إذا كان صدر المحكمة يتسع فان الإجراءات التنظيمية الصارمة، لا تسمح أو تتسع لكل هذا العبث ، عندما أشهر عزام في وجه المحكمة والحضور كمشة من الأوراق الزرقاء ، من فئة ( 200 درهم) شديدة النقاء وخارجة رأسا من إحدى الخزنات، وهو عنصر دال وأساسي في قضية مقتل عبد السلام البطاش، فان هيأة المحكمة لم تتحفظ عليه أو تحجزه أو تصادره حماية لشخص حاملة من الخطر، بل عوض ذلك تم إخراج عزام وهو قابض على أوراقه فوق صدره لتحمله سيارة الإسعاف على هذا الحال فلوسه على صدره في حالة وهذيان، وبينما كان شرطيا امن القاعة برفقته في الشارع ينتظرون الإسعاف، بقيت قاعة الجلسات دون حراسة، منتهى العبث، يبدو أن السيد السحيمي يتبنى طريقة هي للمسرح أقرب منها إلى الدراما التلفزيونية، ومشهد الهذيان داخل قاعة المحكمة كنا سنصفق له وبحرارة لو كان يدور فوق خشبة مسرح. هذه مجرد هفوة من ما يمكن اعتباره سلسلة متلاحقة من الهفوات، ضرب فيها المسلسل رقما قياسيا. طبيعي أن يكون أي مشاهد مغربي وبالضرورة إلى جانب الإنتاج الفني والثقافي الوطني، ولا تشذ الصحافة عن القاعدة، ولكننا الآن بصدد مناقشة عمل لم يوفر ابسط المواصفات المطلوبة، تاركا مجالا واسعا للتساؤل، لماذا خرج تريكة البطاش من جلابة صيف بلعمان الذي عرضت أربع حلقات منه خلال رمضان الماضي، لماذا رسب شفيق السحيمي في هذه المحطة؟ وكان لديه الوقت الكافي لكي يشتغل على اقل من مهل، ولماذا اختار أن يضع نفسه في كل هذا الحرج ويتحمل كل المسؤوليات، كممثل وككاتب سيناريو وكمخرج ؟