يرى الكاتب والناشط المغربِي، فِي ألمانيا، سامِي شرشيرة، في تقييمه لتعامل الديبلوماسية المغربيَّة مع مواطنيها في ألمانيا، تكريسًا ل"منهجية الانحياز" في التواصل والتفاعل مع المهاجرين المغاربة، بحيث لم تستطع الخروج مما كان يعرف ب"واقع الوداديات". شرشيرة الذِي عمل في عدد من المؤسسات الحكومية والخاصة بألمانيا، قبل أن يلتحق كمدير مشروع للاندماج يهم بالجالية المغاربية بمنطقة دوسلدورف، زيادة على انتخابه عضوًا مؤسساً لمنتدى الإسلام التابع للمركز الفيدرالي للتكوين السياسي، يتحدثُ في هذَا الحوار الذِي أجرته هسبريس معه في برلين، عن تجربة هجرته صغيرًا إلى ألمانيَا، وتقييمه لتعامل الدولة المغربيَّة مع أبنائها في الخارج. سيد سامِي، في أي سياق جاءت هجرتك إلى برلين؟ وفِي أية سنة؟ هاجرت من المغرب إلى ألمانيا و أنا طفل رفقة عائلتي، عام 1986 في إطار ما ييعرفُ ب "التجمع العائلي". كيف وجدت ألمانيا، بلدًا للاستقبال؟ وجدت ألمانيا عالما غريبا جدا، يختلف عن المجتمع الذي نشأت وترعرت فيه، عالم أجهله تماما، لكن لا يمكنني أن أقول إنه كان عالما مخيفا. بالعكس عدم التمكن من اللغة الألمانية خلال الشهور الأولى في ألمانيا، كان دافعا وراء بذل المزيد من الجهد للتعلم والتواصل مع الألمان الذين وظفوا جهدا كبيرا من طاقاتهم في مساعدتي على تعلم اللغة، و تسهيل اندماجي. وفي المقابل لا يمكنني إفغفال تجارب أخرى مع الألمان، كانت مميزة. مع أنها تبقى معزولة ولا تمثل قواعد المجتمع الألماني، حيث أسهمت بشكل كبير في تكوين شخصيتي، ووجهت مساري المهني فيما بعد. طيبْ، كيف انخرطت بعد تعلم اللغة، في الحياة المهنيَّة بأرض المهجر؟ عدم تمكني من اللغة الألمانية فرض علي الالتحاق بالمدرسة الرئيسية، أو ما يسمى ب "هاوبت شوله". لكنني سرعان ما تداركت النقص اللغوي، و تمكنت من الالتحاق بكلية التدريب المهني والحصول فيها على الشهادات اللازمة للالتحاق بجامعة العلوم التطبيقية، ودراسة علم البيداغوجيا الاجتماعية، فحصلت على دبلوم "بيداغوجي اجتماعي". بعد هذه المحطة انشغلت بالبحث العلمي في مجال تاريخ الهجرة المغربية في ألمانيا عند أكبر مؤسسة للبحث في تاريخ الهجرة في ألمانيا، كما عملت بعدها في عدد من المؤسسات الحكومية والخاصة قبل أن ألتحق كمدير مشروع للاندماج يهتم بالجالية المغاربية بمنطقة دوسلدورف في منظمة تختص في هذا المجال. بعد هذه التجربة المتميزة و الغنية انتخبت كعضو مؤسس لمنتدى الاسلام التابع للمركز الفيدرالي للتكوين السياسي، وعينت بعدها خبيرا في قضايا الهجرة لمجلس الاندماج في الهيئة السياسية لمدينة دوسلدورف. ما هيَ العراقيل التِي واجهت اندماجك فِي ألمانيا؟ شكلت المدرسة الرئيسية أو ما يسمى ب "هاوبت شوله" أكبر تحدٍّ لاندماجي في ألمانيا. وهي مدرسة بها عدد كبير من الأجانب، ما يجعل التحدث باللغة الألمانية نادرا، و تعلمها شيئا صعبا. وتعرفُ مدارس الأجانب تناميًا لظاهرة العنف، بصورة تعقد العملية التعليمية، فيصبحُ الولوج ناجمًا عن افتقار الجالية المغربية في ألمانيا إلى مراكز فعالة للارشادات، وصعوبة الحصول على المعلومات المفيدة، خاصة إذَا كان المهاجر لا يتحدث بالألمانية. بعدما قضيت ما يربُو على ثلاثة عقُود لألمانيا، كيف تجدُ الألمان من حيثُ تعاملهم مع المهاجرين الأجانب؟ الدولة الألمانية تتعامل مع ملف الهجرة عامة على مستويين؛ المستوى الأول ينبنى على دولة الحق و القانون والمساواة بغض النظر عن أصول المهاجرين.. المهاجر في ألمانيا له حقوق وواجبات تختلف قليلا عن الألمان الأصليين. أماالمستوى الثاني فيعتمد على المبادئ الانسانية وفلسفة ألأخلاق، و نجد هذا على الخصوص في التعامل مع المهاجرين الجدد أو اللاجئين من مناطق التوتر والصراعات في العالم، حيث توفر لهم الدولة الألمانية كل شروط العيش الكريم وتفتح لهم آفاق جديدة للتعليم و التأطير والتطور. وتبعا لذلك، تبقى السياسة الألمانية الخاصة بالهجرة، محصنة ومضمونة بسلطة القضاء و استقلاله، وفصل السلطات وحماية الحياة الخاصة للمواطنين بياناتهم. فكل لاجئء له الامكانية القانونية لرفع دعوة قضائية ضد الدولة الألمانية، ومصاريف و أتعاب الدعوى تظل على حساب الدولة نفسها . لكن، وبطبيعة الحال، المجتمع الألماني مثل كل المجتمعات، ليس خاليا من مظاهر العنصرية والاحتقار والإقصاء. مما يمكن القول معهُ إنَّ التعامل الألماني يظل مشرفا وإنْ كان غير كافٍ، والدولة الألمانية تحارب بشراسة كل الأحزاب والمؤسسات العنصرية، وخصصت لذلك قانونا خاصا لمحاربة العنصرية في البلاد. حدثنا قليلا، عن الأنشطة التي تقومون بها في ألمانيا، وكتاباتكم؟ نحن في منظمة الخدمات الاجتماعية والارشادات، نشتغل منذ أكثر من 25 سنة، على تأطير الجاليات الأجنبية، والمغربية منها على وجه الخصوص، وكذا القيام بخدمات اجتماعية تستفيد منها العائلات الأجنبية على جميع مستوياتها. فنقوم بأعمال الإرشاد الاجتماعي و الخدمات التربوية في عمق المدرسةالألمانية مثل "مشروع المدرسة المفتوحة"، وهو عبارة عن برنامج تربوي، ممول من طرف الحكومة الألمانية ويستهدف أكثر من 500 تلميذ وتلميذة في أكثر من ثلاث مدارس، إضافة إلى عائلات هؤلاء التلاميذ، و نحقق ذلك تحت إشراف حوالي 40 موظفاً. الهدف من هذا المشروع هو المواكبة البيداغوجية والسيكولوجية للتلاميذ رفقة عائلاتهم. كما نشتغل كذلك على نظام الخدمات الاجتماعية، الذِي يضم بالأساس برامج ثقافية ورياضية طيلة السنة، علاوة على برنامج شبابي آخر نشتغل عليه ويستهدف الحوار الديني، حيث نعلم أن الشباب الأجنبي هنا مستهدف من طرف العديد من التيارات الدينية التي يمكن أن تؤثر على هويته وعقيدته الدينية، فَنعمل على تقوية شبابنا من حيث روح الحوار والإقناع حتى لايكون عرضة لتيارات دينية أخرى جارفة. وأخيراً، لدينا مركزاً آخر للأطفال من 6 سنوات إلى 10 سنوات بدوسلدورف، تحث إشراف عدد من الموظفين هدفهم تقديم أنشطة تربوية وترفيهية وثقافية. كما نقوم في الوقت نفسه بمجهود سياسي محترم للدفاع عن مصالح المهاجرين بألمانيا و المشاركة في الصياغة القانونية للسياسة الهجرة على المستوى الحضري. قمنا هذه السنة أيضا باحتفالات ضخمة بالمناسبة التاريخية لخمسينية "الهجرة المغربية بألمانيا" لتكريم الجهود الجبارة، والانجازات المتعددة التي حققتها الجالية المغربية خلال نصف قرن. هذا الاحتفال الذي يعد أكبر احتفال منسق على الصعيد الألماني حمل شعارا مهما : "نظرة على الماضي، تقييم الحاضر وتطلعات للمستقبل" ، في ارتكازه إلى ثلاثة محاور، يكمنُ أولها في التعريف أكثر بالجالية، و رصد انجازاتها، بينما يروم المحور الثانِي، التعريف بالتحديات التي تواجه الجالية حاليافيما يتغيا المحور الثالث ابتكار أساليب جديدة، و التكيف مع التطورات المستقبلية للجالية، لمزيد من الندماج و التأطير والنهضة للجالية المغربية عامة. المبادرة تضمنتْ أكثر من 20 مشروعا علميا وثقافيا واجتماعيا وتعليميا وإرشاديا على مدارثلاثة أشهر. كما كانت لنا ندوات بالمغرب، مؤخراً في شهر فبراير الماضي، حيث التقينا بالعديد من المسؤولين المغاربة، وفي مقدمتهم مصطفى الخلفي، وزير الإتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، وكذا عبد اللطيف معزوز، وزير الجالية المغربية بالخارج، لتدارس العديد من القضايا التي تهم الجالية المغربية من حيث الدعم، المواكبة والانشغالات، ولازلنا ننتظر تفعيل العديد من الاقتراحات والوعود. ما تقييمك لتعامل الدولة المغربية مع الجالية؟ وأين تتجسد نواقصها في نظرك؟ الجالية المغربية بألمانيا قادرة على الاضطلاع بأدوار جد مهمة في رسم صورة المغرب، والمساهمة في سياسات متقدمة حول العديد من القضايا المصيرية للدولة المغربية والشعب المغربي. فعلى الرغم من محدوديَّة عدد المغاربة في ألمانيا بالمقارنة مع الجالية التركية مثلا، إلا أن دائرة انتمائهم لمراكز القرار تتسع شيئا فشيئا، و تفاعلها مع النخبة السياسية والمجتمعية والثقافية الأوربية في ازدياد ملحوظ. لكن واقع الجالية المغربية بألمانيا وحقائق تواصلها مع مؤسسات بلدها الأم خارج الوطن وداخله، يوضح خللا رئيسيا في التواصل لا يمكن تجاوزه، إلا بإرادة سياسية حقيقية وقطيعة نهائية مع لغة الماضي وأساليبه. بالنظر إلى تسبب الخلل في خسارات اجتماعية وسياسية واقتصادية و ثقافية كبيرة بالنسبة إلى المغرب، الذي لم يفته بعد أوان تداركها. في هذا السياق، على المؤسسات المغربية المكلفة بالمواطنين المغاربة بالخارج ترجمة الدينامية الاجتماعية والثقافية التي تبلورت في عهد الملك محمد السادس، إلى مشروع تواصلي حقيقي، وحديث مع الجاليات المغربية في الخارج يقطع مع حقبة الماضي، و يواكب المغرب الجديد. فالدبلوماسية المغربية قامت مع الأسف بتكريس "منهجية الانحياز" في التواصل والتفاعل مع المواطنين المغاربة في الخارج، ولم تستطع الخروج مما كان يعرف بواقع الوداديات و "الوداديات الجديدة"، ما يعيق تواصلها السياسي والثقافي مع الأغلبية الساحقة من الجالية المغربية، و هذا يسيء في نظري الى صورة المغرب في الخارج. لكن يجب الإشارة إلى أن هناك نقلة نوعية في تعامل المؤسسات الرسمية مع المهاجرين المغاربة. هناك جهد واضح في تمويل ودعم مشاريع المؤسسات والمنظمات المغربية في الخارج في إطار لون جديد، يطمح الى الموضوعية والاحترافية والشفافية، لكن تغيب الأسس وَالآليات الفاعلة والفعالة لتحقيق هذا الطموح. ومع أن هذا الجهد مبذول لفائدة الجالية المغربية بألمانيا ، هناك الكثير من التحفظات الكبيرة على أساليب إدارة صرف الأموال المغربية بالمهجر، التي تهدر بشكل غير عقلاني، ولا تعتمد إلا نادرا على مبادئ الشفافية و المسؤولية، كمَا لم تستطع المؤسسات المعنية إلى حد الساعة إحداث قطيعة بينها وبين أساليب إدارية مطبوعة بالزبونية، علاة على كونها متجاوزة . هذه الحقائق تخلفُ في رأيي المتواضع، اشمئزازا كبيرا لدى الجالية المغربية في ألمانيا، على نحوٍ يدفعها إلى التخلي عن البلد الأم و قضاياه. هناك مؤشرات كثيرة على هذا العزوف و على رأسها تراجع استثمارات مغاربة الخارج، وضعف العلاقة بين الجيل الثالث والجيل الرابع، مع المغرب، زيادة على عدم اهتمام العديد الكثير من المهاجرين المغاربة بالقضايا الوطنية للبلد الأم. لابد من تشكيل الدولة المغربية منهجية سياسية تعتمد على توحيد وتفعيل الأطر المغربية بلمانيا، و تقلص من انشقاقاتها المتوالية، لأن هذا يشوش على صورة المغرب سياسيا واقتصاديا. إذْ إننَا ننتظر أن يكون للمؤسسات المغربية المختصة بشؤون الجالية المغربية في الخارج سياسة جديدة و دورا يقطع مع الماضي.