تجريم حديث بأبعاد جديدة للإثبات وسلطة القاضي الجنائي في تقديرها: القانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء – أنموذجا- سعى المجتمع الدولي؛ منذ بدايات ظهور جرائم الوسط الرقمي؛ إلى التدخل لمواجهتها بشتى الوسائل، سواء عن طريق الأممالمتحدة، أو الهيئات الدولية الأخرى؛ المتصلة بها. حيث تدخلت الأممالمتحدة في العديد من المرات؛ لمحاولة مكافحة ظاهرة الجرائم المعلوماتية المستفحلة في المجتمع الحديث، وكان ذلك عن طريق إصدار قرار "هافانا" بشأن الجرائم ذات الصلة بالكمبيوتر؛ و قرار "ريو ديجانيرو" بشأن جرائم الكمبيوتر؛ بالإضافة إلى القرارين السابقين؛ عملت الأممالمتحدة على البحث المستمر في جرائم الوسط الرقمي؛ من الجانب الفني، القانوني، الفقهي والإحصائي؛ عن طريق الأمانة العامة؛ التي قدمت عدة أعمال في مؤتمرات متعاقبة ، ومكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، الذي عن طريق فريق الخبراء المعني بالجريمة السيبرانية ؛ الذي قدم تقارير بمثابة إضافة معرفية يستعان بها في التشريع المتصل . فالوسط الرقمي أخذ يتطور بصورة ديناميكية رهيبة، قابلته نهضة تقنية وقصور تشريعي من حيث البطء في التجريم؛ فبعد ما أصبحت عناصره-الوسط الرقمي-في متناول أغلب أفراد المجتمع، بكل أطيافه؛ البالغ، القاصر؛ المتعلم، الجاهل؛ الذكي، الغبي؛ الطيب، المخادع؛ المحب للإجرام والمحب للحياة الهادئة، ظهرت فكرة إساءة استخدامها أو استعمالها في الاعتداء على الحقوق والحريات، والمصالح المحمية بموجب القوانين الجنائية التقليدية؛ لو اتصلت بالوسط المادي. الأمر الذي يفهم منه؛ أن الأسبقية في الظهور كانت للتجريم على حساب الوسط الرقمي، مما يقودنا للقول أن التجريم بكل أحكامه هو من ولج إلى الوسط الرقمي وليس هذا الأخير من ولج إليه. وتكمن أهمية الموضوع لحداثة المسألة التي يتناولها والتي فرضت نفسها على رجال القانون باعتبار العلاقة القائمة بين ما هو جريمة رقمية وبين الإثبات الذي خرج على نطاق التقليدي المعتمد في الإثبات إلى اعتماد وسائل حديثة يستند إليها القاضي الجنائي في تكوين قناعته الشخصية، وذلك من خلال سلطته التقديرية والتي تعد من الموضوعات التي لا غنى عنها في القانون عامة وفي القانون الجنائي على وجه الخصوص باعتبار القاضي الجنائي يسعى لإثبات وقائع مادية ونفسية للوصول إلى الحقيقة وكشف الجريمة. إن الموضوع محل الطرح تكتنفه العديد من الإشكالات خصوصا بعد إصدار المشرع المغربي للقانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء في شقة المتعلق بالتحرش الجنسي عبر الوسائط الإلكترونية و التي يمكن إثباتها بكل وسائل الإثبات المنظمة في المادة الجنائية المواد من 286 إلى 296 من مجموعة القانون الجنائي؛ و كذا القانون 09.08 المتعلق بحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي الذي يجبر استخدام كاميرات في الأماكن العامة بهدف تأمين ممتلكات الأشخاص و العمال في أماكن العمل ؛ على أنها تنطوي جلها تحت إطار إشكالية واحدة أساسية. فحداثة الوسط الرقمي ووجوده في الواقع المحسوس أمر أصبح لا مفر منه، وطبيعته إما المتصلة بالوسط المادي، وإما المنفصلة الموازية له؛ أمر حير العلماء والفقهاء؛ خاصة وأن الإنسان إذا ما أراد استغلاله والاستفادة من خدماته؛ يجب عليه أولا أن يلج إليه قادما من الوسط الحقيقي الملموس؛ مما يجعل الفعل المرتكب يكون ضمن إطاره وبواسطته، لكن النتيجة المشروعة أو غير المشروعة تكون عادة ملموسة في الوسط الحقيقي، و تقدير أدلة الإثبات الجنائية له تبقى خاضعة لمبدأ اقتناع القاضي الجنائي و كذا خصوصية الأدلة العلمية الحديثة. هذا الطرح ومضمونه الفكري القانوني؛ أوجب علينا التساؤل عن ما مدى تجريم المشرع المغربي للسلوكيات المتصلة بالوسط الرقمي؛ و إطار المشروعية في الإثبات وفق الحدود التي رسمها القانون؟ فمع ظهور التصوير الفوتوغرافي وما ينطوي عليه من إزعاج لراحة الإنسان وسكينته، وتعرض ملامح وجهه لعدسات التصوير دون إذن منه، ظهر في عالم القانون ما يعرف بالحق في الصورة، وذلك لحماية صورة الإنسان من كل الاعتداءات أو الانتهاكات التي يمكنها أن تمس شرفه واعتباره، كأن يتم استخدام الصورة لتشويه شخصية صاحبها أو يجري استغلالها للترويج لفكرة معينة أو منتج معين، مما أدى إلى ضرورة الاعتراف بوجود حق الإنسان في صورته يخوله منع الآخرين من تصويره أو نشر صورته دون موافقته. وعلى الرغم من أهمية الصورة بالنسبة لصاحبها، وما تجسد من كيانه المادي والمعنوي، فهي تعكس طبيعة انفعالاته، فقد بات من اللازم حماية صورة الشخص من الاعتداءات التي تستهدف صورته، فينبغي وضع القانون الجنائي جنبا إلى جنب مع القانون المدني قصد خلق الآليات القانونية لحماية الأشخاص ضد التقاط ونشر صورهم، كما نجد أن أغلب الدساتير العالمية ومنها الدستور المغربي لسنة 2011 أقر حماية جنائية بصفة عامة قصد تجريم وعقاب كل مساس بحرمة الحياة الخاصة ومنها حق الإنسان في صورته، ولا يغيب عن الذهن كذلك أن القضاء قد لعب دورا بارزا في بناء صرح متين للدفاع عن هذا الحق، وذلك من خلال تطبيق نصوص قانونية صريحة تعترف بحق الشخص في صورته وحمايتها من كل اعتداء عن طريق الالتقاط أو التسجيل أو النشر قصد المس بسمعته و شرفه. ونظرا لما تحظى به الصورة من أهمية ومكانة خاصة في مجال الإثبات الجنائي ، وما تتمتع به من قيمة علمية، فهي تكتسي قدرا من الحجية قد لا تتوافر في غيرها من وسائل الإثبات الأخرى سواء منها التقليدية أو تلك القائمة على أساس علمي، فهي تعد لسانا فصيحا ودليلا ناطقا على اقتراف الجريمة متى كانت خالية من التحريف والخداع، أو ما يطلق عليه عمليات المونتاج، خاصة إذا تم تعزيزها بوصف كتابي يوضح ما كان مبهما فيها ، فمشروعية الدليل المستمد من التصوير الخفي تختلف باختلاف الأماكن سواء أكانت عامة أو خاصة، ومع ذلك فإن للقاضي الجنائي سلطة تقديرية واسعة في تحديد القيمة القانونية لكل دليل، ليختار الدليل الأقوى الذي يستند عليه لتكوين قناعته الوجدانية لإصدار الحكم النهائي. فقد اتفقت جل التشريعات على أن تصوير الشخص في المكان الخاص جريمة يعاقب عليها القانون، متى تم ذلك بدون رضاء المجني عليه، وفي غير الأحوال التي نص عليها القانون، ولا ريب أن الدليل المستمد من التصوير في هذه الحالة يكون باطلا ويتعلق البطلان بالنظام باعتبار أن الحصول عليه تم بفعل جرمه القانون، وبالتالي لا يكتسب أي حجية في الإثبات أمام القضاء الجنائي، سواء تم ذلك من قبل أجهزة الربط أو من قبل آحاد الناس. ويثار التساؤل بخصوص مدى إمكانية قيام الأشخاص العاديين بالتصوير خفية في مكان خاص قصد إثبات الجريمة. أما التشريع المغربي، فنجد المواد التي تنظم مسطرة تسجيل الأحاديت الشخصية والتقاط الصور خفية بالأماكن الخاصة ضمن مشروع قانون المسطرة الجنائية المغربي المادة 1 – 116 إلى المادة 10 – 116 ، وما يبرر مشروعيتها كدليل في ميدان الإثبات الجنائي، هو ما أكدته المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على حرية الإثبات وبناء الوقائع والأحداث وتحصيل الدليل بما يطرح على القاضي من وسائل مختلفة بشأن قضية معينة ، وبالتالي فإن أمر التقاط الصور خفية في مكان خاص قصد البحث والتحقيق عن الدليل من شأنه أن ينتهك حق الشخص في خصوصيته، فضلا عن الاعتداء على حقه في الصورة، و لما كان الأصل هو تمتع كل إنسان بهذين الحقين، فإن القواعد الإجرائية المقيدة لأولهما تكون استثناءا من هذا الأصل. وعليه، فإن الحماية الإجرائية التي نص عليها مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية ، فإنه يحمي حق الإنسان في صورته الذي يقع في مكان خاص، ويمكن أن يكون بالمقابل تقييد للحق في الصورة بالنسبة للشخص بهدف المنع من الجريمة، ومنه لا ينبغي إجراء تسجيل أو تصوير بدون موافقة المعني بالأمر، حسب منطوق الفصل 1-447 من قانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء إذ يتم بغير الأحوال الحصول على تسجيل غير مشروع مما قد يجعل السلطة العامة تستغل نفوذها قصد التجسس على الغير، أو أن يتم الاعتراف عن طريق الغش أو الخديعة لإدانة المتهم وإثبات التهمة عليه، وبالتالي ستدين المحكمة المتهم على ذلك التسجيل رغم براءته ويكون بذلك ضربا لأهم حق مكرس دستوريا وهي قرينة البراءة. ولكي يتم تحقيق التوازن بين المصلحة العامة وحقوق الأفراد، فقد وضح المشرع المغربي الحدود التي تتطلبها المصلحة العامة للمساس بالحرية، إذا كانت الغاية منها إثبات جناية أو جنحة، مع ضرورة توفير كل الضمانات القانونية والفنية أثناء التصوير خفية في مكان خاص بهدف الكشف عن الحقيقة، وبذلك فاستخدام الكاميرات الخفية ينبغي أن يكون في متناول أجهزة الضبط الذين ينحصر بهم استعمالها، و لا يجوز لغيرهم استخدامها وإلا تعرض للعقاب.. وأما فيما يتعلق بالتصوير في المكان العام هو ذلك المكان الذي يأوي إليه الجمهور بغير تمييز، وقد ذهب الفقه المقارن على أن التقاط الصورة المتحركة أو الثابتة لشخص وهو في مكان عام لا يشكل أي انتهاك لخصوصيته، لأن وجوده بهذا المكان يزيل عن تصرفاته صفة الحياة الخاصة، لكونه عرضة لأنظار الناس جميعا وتتم رؤيته بالعين المجردة أو أن تتم بالوسائل التقنية كالمناظر المقربة والتلسكوبات والكاميرات. ونجد أن المشرع الفرنسي نظم المراقبة بواسطة الفيديو في الأماكن العامة بواسطة قانون 21يناير 1995 و ذلك بموجب المادة العاشرة منه، والتي حددت الأغراض المخصصة لها التسجيلات الناتجة عن استعمال المراقبة بالفيديو، كما فرض القانون العقوبة بالحبس لمدة 3 سنوات والغرامة 45.000 أورو على كل من أنشأ نظاما للمراقبة التلفزيونية دون إذن، أو قام بالتسجيل دون إذن، أو لم يقم بإتلاف التسجيلات خلال المدة القانونية دون المساس بنص المادة 1 – 226 من القانون الجنائي الفرنسي، وقد اعتبر بعص الفقهاء أن المادة العاشرة من القانون أعلاه لم تكن الغاية منها لإثبات الجرائم، وإنما الاتجاه العام لدى واضعي هذا النص هو اتجاه وقائي. وفيما يتعلق باستخدام العدسات التلفزيونية في الإثبات الجنائي وكشف الجناة، يرى جانب من الفقه أن هذه الأساليب لا تثير أي اعتراضات، مبررا بذلك أن الصفة غير الاجتماعية للأفعال التي يقترفها المجرمون لا يمكن أن تجعل المتهم يندهش حينما يكتشف أمره، وقد ذهب رأي إلى القول أن استخدام أجهزة المراقبة لا يتعرض للحق في الحياة الخاصة، إلا أنه من الأفضل الإعلان عن استعمال تلك الأجهزة قبل البدء باستعمالها و الذي قد يؤدي إلى عدم ارتكاب الجرائم فيسري مفعول التحذير بدرجة أكبر من مفعول القمع. وذهب رأي إلى القول أن إغفال الإخطار من شأنه أن يفضي إلى بطلان الإجراء، ومن تم بطلان الدليل المستمد منه، لأنه يكون حينئذ بمثابة ذلك المستمد من الحيلة والخداع ، وبالتالي فالقاضي الذي يخادع الظنين فهو يخادع الحقيقة، فتجتمع بذلك العدالة والخدعة والمكر في اتجاه مشبوه. ويرى الاتجاه المعارض لاستخدام وسائل التصوير خفية، أن العدالة لا ينبغي أن تكون بهذا الإسم طالما لم تتوافر فيها الضمانات القانونية دون أن يتعرض الشخص للانتهاك أو تعد على شخصيته ولو لم تكن على درجة كبيرة من الخطورة، ولذلك فإنه ينبغي عند إظهار الحقيقة القضائية توظيف تلك الأجهزة لأداء دورها على أتم شكل في الإثبات الجنائي. وانطلاقا مما سبق، فإن الاعتبارات التي أوردتها التشريعات المقارنة من قبيل التصوير الخفي في مكان عام، هي تقريبا نفسها الواردة في قانون المسطرة الجنائية المغربي (المواد 1 – 116 إلى 10 – 116 ) التي تمت الإشارة إليها سابقا، وعلى الرغم من أن القرارات القضائية المغربية لم تتناول (أو بالأحرى شبه منعدمة) قضايا التصوير بالفيديو الخفي في مجال الإثبات الجنائي، إلا أنه نقترح على المشرع المغربي سن تشريع خاص يتعلق بالأدلة الجنائية ودورها في الإثبات الجنائي، على أن يكون من ضمن ذلك أدلة التصوير الخفي لأن له دورا كبيرا و أهمية بالغة في إثبات الجرائم، كما يجب أن يتناول ذلك مفهوم التصوير الخفي في المكان العام والمكان الخاص مع توضيح مدى مشروعية كل منهما في الإثبات الجنائي، وبذلك فبالنسبة للتسجيلات للوقائع التي تدور في الأماكن العامة، فإن الدليل المستمد منها هو أمر مشروع، لأنه لا ينتهك حق الإنسان في صورته، أما التصوير الخفي في الأماكن الخاصة فإنه يقع مخالفا لأحكام القانون، وبالتالي يكون الدليل المستمد منه غير مشروع، لأنه يعتدي على الحياة الخاصة للأفراد، اللهم إن كان الغرض من ذلك تحقيق المصلحة العامة قصد إثبات جناية أو جنحة وأن يتم التصوير بطريقة مشروعة بإذن من السلطة القضائية قبل البدء في التصوير، بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون معلنا عنها مسبقا وأن لا يتم ذلك خلسة، كما يتعين تنبيه الناس بأمر هذا الاستخدام عن طريق وضع علامات إرشادية أو بيانات دالة على وجود تلك الأجهزة و المعدات دون أن تكون في نفس الوقت ظاهرة للعيان، و بالتالي يبقى للقاضي الجنائي تكوين قناعته من أي دليل يراه مناسبا لحسم الدعوى المعروضة أمامه، وتتحدد القيمة الإقناعية لوسائل الإثبات المختلفة المقدمة أمام القضاء الجنائي بحسب الطرق أو نظم الإثبات التي يلزم هذا الأخير بإتباعها لتكوين قناعته في القضايا الجنائية ، ولاسيما إذا لم يكن هناك نص قانوني يتناول الموضوع المطروح أمام القاضي، أو أن المشرع نص على الموضوع المطروح أمامه إلا أن تفسير النص يحتمل أكثر من معنى. إن الدليل المستمد من الأجهزة الحديثة والمتمثل بالصورة يعد من قبيل الأدلة العلمية التي نتجت عن التكنولوجيا الحديثة في علم التصوير، وإن كان للقاضي الجنائي سلطة تقديرية واسعة، فإن هذا المبدأ يرتكز على وقائع إجرامية مادية وليس على تصرفات قانونية تستلزم نوعا معينا من الأدلة، لذلك وجب السماح بإثباتها بجميع الوسائل الإثباتية، كالخبير مثلا، وفي هذه الحالة يتعين على القاضي الجنائي الاستعانة بالخبير المختص في هذا المجال للتأكد من صحتها، و بما أن القاعدة العامة أن القاضي غير ملزم برأي الخبير، إلا أنه في رأينا نرى أن رأي الخبير في هذه الحالة ملزم للقاضي إذا تعلق الأمر بالدليل العلمي الناتج عن التصوير، لأنه هو أهل الاختصاص (أي الخبير) خاصة و أنه قد يتم التلاعب أو تحريف هذا الدليل وإجراء المونتاج عليه، إلا أنه مع ذلك يبقى للقاضي الجنائي حرية الأخذ بالدليل العلمي أو جزء منه أو عدم الأخذ به واستنادا للقناعة الوجدانية للقاضي الجنائي، لا يتقيد القاضي بأسلوب معين أو بطريق معين من طرق الإثبات، فله قبول أو استبعاد أي دليل لا يطمئن إليه، ومن جهة أخرى فإن الحرية في الإقناع هي ليست تحكمية، وذلك للحفاظ على حقوق و حريات الأفراد