ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العقل السياسي المغربي ورسائل تشكيل الحكومة الجديدة
نشر في هسبريس يوم 18 - 10 - 2021

الانتقال من حكومة العقل المالي إلى تعبيد الطريق لحكومة الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي
الحديث عن التشكيلة الحكومية يبقى مرتبطا بالظرفية السياسية التي جرت فيها الانتخابات وطبيعة الحملة الانتخابية ونوعية وطبيعة الظروف التي جرت فيه هذه الأخيرة، وكذلك طبيعة المواضيع التي فرضت نفسها إبان الحملة (والحملة الانتخابية في المغرب رسخت حضور مطلب تغيير السياسة وتغيير الأشخاص)، دون أن ننسى ضرورة القيام بالخلطة السياسية الممكنة.
الانتخابات الأخيرة تميزت كذلك بكونها تأتي في ظرفية عالمية مرتبطة بأزمة كوفيد، أزمة كوفيد أدخلتنا في عالم غير مسبوق حيث تغير كل شيء في حياتنا وكذلك تغيرت أشياء في عقولنا، وبالتالي تحضر الجملة السياسية "العالم القديم قد ولى"، مما يفرض علينا التأقلم مع العالم الجديد.
وكما يقول فريديرك حايك "كل تجديد للمجتمع يمر من خلال تغيير الأفكار التي يحملها"، لهذا انتظر الرأي العام الوطني والدولي باهتمام كبير نتائج ثنائية الزمنين بالمغرب (الزمن الانتخابي-الزمن الحكومي)، وخصوصا الزمن الحكومي، الاهتمام بالزمن الحكومي كان مرتبطا بطريقة وكيفية اختيار رئيس الحكومة والوزراء، وهل سيكون الاختيار وفق طرق وشروط ومسطرة جديدة أم أن الاختيار سيكون في إطار الاستمرارية، وما هو جواب المؤسسة الملكية والطبقة السياسية المغربية على الدخول في عالم ما بعد كوفيد وتأثير ذلك على كيفية وطريقة تعيين الحكومة الجديدة في المغرب.
هذا الانتظار كان محركه الأساسي هو أن الكل كان يراهن على ولادة حكومة قادرة على المساهمة في بناء المغرب الجديد، ولادة المغرب الجديد لا يمكن أن تتحقق من خلال رجال الماضي بل من خلال رجال المستقبل.
تقديم رجال المستقبل لا يمكن أن يكون إلا نابعا من عقل مركزي يفهم جيدا اللحظة السياسية الوطنية والدولية، وبالتالي متحرر من ضغوط مرحلة الاستقلال-وضغوط مرحلة الربيع العربي ومتوجه بإرادة وحرية نحو بناء الدولة القوية.
العقل المركزي للدولة والتركيز على اليوم الانتخابي بدل اليوم الحكومي
إذا كانت اللحظة الانتخابية تفرز لنا البرلمان والأغلبية والحزب المتصدر، وبالتالي تترسخ من خلالها المؤسسات والهيئات غير المشخصنة التي لا تملك وجها فعليا، فعلى عكس ذلك، فإن الديمقراطية التنفيذية ميزتها الأساسية أنها تقدم وتركز على الشخصنة والوجه والشخصية المادية بدل الشخصية المعنوية. العقل السياسي المغربي عمل على تشكيل الحكومة من خلال التركيز على الأشخاص، وخصوصا رئيس الحكومة والوزراء، وإعطاء الوقت لاختيار الأشخاص والكفاءات.
هذا التركيز لا يمكن فهمه إلا من خلال تشبث العقل المركزي للدولة بترسيخ الديمقراطية التنفيذية والاهتمام بشخصنة السلطة.
هذه الشخصنة تعتمد على الاهتمام بوضع صور شخصية للديمقراطية.
وإذا كانت الديمقراطية التمثيلية قد بنت تصوراتها على شعار "يسقط القادة تحيا الجموع"، فإنه وبخلاف ذلك عملت الديمقراطية التنفيذية على تبني الشعار المضاد "تسقط الجموع يحيا القادة".
تشكيل الحكومة وترسيخ شعار شخصنة السلطة أو ديمقراطية الوجه المكشوف
الاهتمام الكبير من طرف الرأي العام الوطني باليوم الحكومي والترقب الكبير للتغيير في السياسة والوجوه والسرعة، كان عنوانا للانتقال من توسيع اليوم الانتخابي (الانتخابات-حضور رجال الانتخابات في اليوم الحكومي-حضور اليوم الانتخابي من خلال مدة زمنية مهمة في نقاش البرنامج الحكومي قبل التصويت عليه وتنصيب الحكومة) إلى توسيع اليوم الحكومي (اليوم الانتخابي-اليوم الحكومي-تقليص مدة الحضور الانتخابي من خلال نقاش البرنامج الحكومي والتنصيب الذي لم يتجاوز ثلاثة أيام من أجل إفساح المجال أمام توسيع وتركيز الاهتمام على اليوم الحكومي)، الاهتمام باليوم الحكومي كان إشارة قوية إلى أنه تم الانتقال من ديمقراطية "الرأي-والرأي المضاد" إلى ديمقراطية "الفعل-والأثر الذي يتركه هذا الفعل على المواطن ودافع الضرائب والمرتفق".
أهمية اليوم الانتخابي تبرز كذلك من خلال إعادة خلق رأس للشعوب، وبالتالي إعادة التركيز على الأجهزة التنفيذية، من خلال إعادة الاهتمام وإعادة التركيز على مجال الفعل العمومي.
المؤسسات الجماعية كانت نتاجا للديمقراطية التمثيلية والفكر اليساري الذي كان كله مقتنعا بثقافة أن القادة هم عنوان للعصر السلطوي والديكتاتوري، وأن الفكر البديل عليه أن يتبنى الأفكار التي تمجد الجموع. الديمقراطية التمثيلية والمرتكزات التي تعتمد عليها من خلال تمجيد الجموع ومؤسسات الجموع -البرلمان-الأغلبية-الحكومة -الأقلية-المجالس ...
تمجيد الجموع لم يستمر طويلا؛ إذ سرعان ما رسخت ثقافة الجموع المسؤولية الجماعية والستاتيكو وغياب المسؤولية وغياب الشخصنة، كما أن الحروب العالمية نبهت الجميع إلى ضرورة القيام بمقاربة جديدة للسياسة من خلال مفهوم قيادة الشعوب، التي نقلت الاهتمام من الجموع إلى القادة.
ثقافة الجموع وثقافة "لا شخصنة العالم"، قابلها في الطرف الآخر حضور القادة والشخصنة والمسؤولية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
اهتمام العقل المركزي للدولة بثقافة القادة والشخصنة جعله يركز اهتمامه على اليوم الحكومي. إعادة تركيز الأضواء على اليوم والزمن الحكومي هو ترسيخ للانتقال من الاهتمام بالمؤسسات الجماعية (البرلمان-الحكومة) التي يصعب فيها نسب الخطأ إلى أحد معين، وبالتالي ترتيب العقاب، مما يرسخ ما أطلق عليه "حكمة القدرة على عدم الفعل" إلى الاهتمام بالوجوه والشخصيات المادية وترتيب المسؤوليات وإنزال العقاب، وبالتالي إلى أفراد من المفروض أن يملكوا "حكمة القدرة على الفعل".
إعادة الاهتمام بمسألة شخصنة السلطة تمثل إيجابية على اعتبار أنها تقدم جوابا على مطلب اجتماعي مرتبط بضرورة تحميل المسؤولية لشخص معين، خصوصا وأن الديمقراطية تم تفسيرها دائما بكونها ترسخ شعار "السلطة مسؤولة"، وبالتالي شخصنة السلطة تنقلنا من المسؤولية الجماعية للأيادي المصونة إلى المسؤولية الشخصية لليد المسؤولة.
شخصنة السلطة تعطي وجها وصورة للديمقراطية، خصوصا أمام الوجوه المتخفية للمؤسسات السياسية الجماعية والبيروقراطيات الإدارية. وفي الأخير، فإن شخصنة السلطة هي جواب على مطلب المقروئية الشاملة والواضحة لمؤسسات وميكانزمات اتخاذ القرار.
ديمقراطية شخصنة السلطة كما يؤكد على ذلك السوسيولوجي الفرنسي بيير روزنفلون، هي انتقال من الإرادة الشعبية إلى الإرادة الفرجة، وهي انتقال كذلك من شعار "العباقرة المجهولين للوطن" إلى "العباقرة المعروفين للوطن" كما سماهم الباحث كليلمو فيريرو في كتابه "العباقرة المجهولين للمدينة".
نجاح العقل المركزي للدولة في نقل اهتمام الرأي العام الوطني من اليوم الانتخابي إلى اليوم الحكومي بشخوصه وصوره وأسمائه ونوعية هذه الأسماء، والشواهد المحصل عليها من طرف هذه الأسماء وخبرتهم وتجربتهم والفعل العمومي الذي من الممكن أن يقوموا به منذ لحظة تنصيبهم، كان انتصاراً لديمقراطية الأفراد والأشخاص على ديمقراطية الجموع وغياب الشخصنة والمسؤولية الجماعية.
تشكيل الحكومة الجديدة وإعادة التناسق داخل المستوى التقريري
الاهتمام باليوم الانتخابي واليوم الحكومي بالمغرب يجد تفسيره في البحث عن تعزيز التناسق والتناغم والسرعة في الأداء داخل المستوى التقريري، وخصوصا رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة الحكومة.
تصدر حزب الأحرار لنتائج الانتخابات كان يعني أنه لأول مرة بعد دستور 2011 تتمكن القوى المولودة من رحم السلطة، التي تستمد مشروعيتها من مشروعية السلطة، من الفوز في الانتخابات، وبالتالي ولأول مرة ومنذ عقد من الزمن ينتقل المستوى السياسي المكون من الرأسين التنفيذين من الاشتغال تحت سقف الثنائية بدل الاشتغال تحت سقف غياب التناسق وغياب توحيد السرعة والشعبوية.
الانتقال من الاشتغال تحت سقف غياب التفاهم والتناسق وتوحيد السرعة إلى الاشتغال تحت سقف الثنائية، يعني ترسيخ جو الثقة والتفاهم وتبادل المعلومة وتوحيد الأهداف، لأن الكل ينهل من مشروعية واحدة، وبالتالي الانتقال من الاشتغال تحت سقف الرأسيين انطلاقا من الدستور المكتوب إلى الاشتغال تحت سقف الرأس التنفيذي الواحد فعليا وواقعيا.
في مقال للدستوري الفرنسي شارل ديباش حول "رئيس الجمهورية والوزير الأول في النظام السياسي للجمهورية الخامسة مبارزة أم ثنائية؟"، يؤكد الكاتب أن الجمهورية الخامسة تعيش تحت وقع زمن الثنائية أو زمن المبارزة.
ورغم أن الديمقراطية المغربية تشتغل تحت سقف الديمقراطية التنفيذية، إلا أنه يمكن القول إن الديمقراطية المغربية قبل الانتخابات الأخيرة اشتغلت تحت سقف عدم التوافق نظرا للشعبوية والعموميات وغياب الانسجام وغياب السرعة والفعالية عن المؤسسة الحكومية.
اختيار رجل أعمال لقيادة الحكومة مسألة ليست جديدة في التاريخ السياسي المغربي، ولكنها لم تحدث مند المصادقة على الدستور الجديد، ارتياح المؤسسة الملكية للعمل مع المقاولين ورجال الأعمال لا يعتبر سرا (كريم العمراني-ادريس جطو).
عصر رجال الأعمال هو عصر تؤطره كذلك نظريات التدبير الجديد، المعتمدة على النتائج والأثر الذي تتركه السياسات العمومية على أرض الواقع. الباحث فايول سيعتبر أنه ما بين الشركة والدولة يوجد اختلاف في التعقيد والحجم، ولكن ليس هناك اختلاف في الطبيعة. وبالتالي، فإن الدولة لا يمكن أن تدبر بقواعد مختلفة عن القواعد التي تدبر بها الشركات الكبرى.
المغرب لم يبق بعيدا عن علوم التدبير الحديثة، وعمل من خلال المصادقة على القانون التنظيمي للمالية على ترسيخ تدبير الدولة كما تدبر المقاولات الخاضعة للقانون الخاص، من خلال التنصيص في المادة الثالثة والثلاثين من دستوره المالي على أن القواعد المطبقة على المحاسبة العامة للدولة لا تختلف عن تلك المطبقة على المقاولات الخاضعة للقانون الخاص إلا باعتبار خصوصيات تدخل الدولة.
الإشارات التي بعثها اليوم الانتخابي واليوم الحكومي في المغرب سيكون لها وقع إيجابي على مناخ الأعمال والاستثمار، كما أن التناسق والثنائية ما بين المؤسسة الملكية ومؤسسة رئيس الحكومة، ظهرت ايجابياتها على مستوى العمل سويا (مؤسسة الاقتراح-مؤسسة التعيين) من أجل تقليص عدد الأحزاب المشكلة للأغلبية البرلمانية وكذلك من أجل التخسيس من حجم الحكومة (وهنا وجبت الإشارة إلى أن عدد الوزراء الفعليين داخل الحكومة هم عشرون وزيرا باحتساب رئيس الحكومة، وهو العدد نفسه الذي أوصى التقرير الشهير لجون بيك بألّا تتجاوزه المؤسسات الدستورية الفرنسية. وبالتالي، فإن الحكومة المغربية الجديدة من حيث العدد تقدم إشارات قوية على أنها تحترم التخسيس وتبقى متطابقة مع السقف الذي حددته بعض التقارير المهمة في الدول المجاورة).
وتجلت هذه الثنائية كذلك في الاتفاق على تعزيز مؤسسة رئيس الحكومة من خلال تعيين أربعة وزراء منتدبين لديه، مما يعني أن لا مشكلة على المستوى التقريري في المغرب من تقوية موقع وسلطة رئيس الحكومة، إذا كان ذلك يضمن الفعالية والسرعة والبحث عن إحداث الأثر على أرض الواقع وترسيخ التدبير من خلال النتائج، فالعقل المركزي للدولة مقتنع بأن قوة وفعالية الرأس التنفيذي الثاني تمنح قوة وفعالية إضافية للمستوى التقريري الأول في المغرب.
العقل السياسي المغربي والانتقال من الاعتماد على النخب السياسية الإدارية إلى الاعتماد على النخب القادمة من القطاع الخاص
منذ استقلال المغرب لعبت النخب السياسية الإدارية دورا كبيرا في قيادة البلد، وقد عمل العقل السياسي المغربي على فتح الباب على مصراعيه أمام هذه النخب من أجل اكتساح العمل السياسي والانتقال من الزمن الإداري إلى الزمن السياسي، بل وعمل على ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام عودة هذه النخب إلى الزمن الإداري متى فشلت في الاستمرار في الزمن السياسي.
النخب السياسية الإدارية هي نخب الروتين والبطء والريع والتدبير من خلال الوسائل، والمعروف عنها أنها قريبة من نخب التيتانيك، وبالتالي لم تكن قادرة على خدمة الاستراتيجية التنموية الجديدة بكل ما تتطلب من سرعة وحكامة وتدبير من خلال النتائج.
الانتقال من نخب القطاع العام إلى نخب القطاع الخاص في هندسة اليوم الحكومي هو محاولة من العقل الرسمي المغربي للبحث عن ترسيخ وتعبيد الطريق الخاصة بالانفتاح والاعتماد على نخب القطاع الخاص، وإشارة واضحة لنخب القطاع العام أن عصرها الذهبي قد ولى وأن مغرب المستقبل هو مغرب عنوانه الحركية والسرعة والعقد والنتائج والمغامرة وركوب التحدي، وبالتالي هو مستقبل يغازل نخب القطاع الخاص، بينما عالم نخب القطاع العام هو عالم القرن الماضي، عالم الترسيم والقرار والريع والوسائل والضمانات والتدبير الروتيني والتدبير على طريقة النخبة التي قادت سفينة التيتانيك، وبالتالي ليس هو عالم ما بعد كورونا.
العقل السياسي المغربي والتعامل مع صفة "وزير الدولة" و"وزير منتدب"
الانتقال من التركيز على الصفة السياسية للوزير إلى التركيز على المؤهلات والتخصص والتجربة التي يتوفر عليها، هو تركيز على أولوية المهام على الخبرة السياسية، وبالتالي كان هذا التوجه يؤسس لتأطير جديد في التعامل مع المناصب السياسة المرتبطة بالمهام السياسية، وخصوصا منها صفة وزير الدولة والوزير المنتدب.
الانتقال من الحكومة السياسية إلى الحكومة المقاولة يتطلب بالأساس نقل التركيز السياسي من اليوم الانتخابي الذي هو عمليا يوم السياسيين والشعبويين والعموميين إلى اليوم الحكومي، الذي هو يوم المقاولين والمختصين والخبراء وأصحاب الملفات، مما يعني الانتقال من تضخيم المهمة السياسية إلى تخفيف وتحجيم المهمة السياسية من خلال الانتقال من "وزير الدولة"-"الوزير الفعلي"-"الوزير المنتدب"-"كاتب الدولة"، الى الوجه الفعلي الواحد والصورة المهماتية الواحدة التي تتحمل المسؤولية عن النتائج "الوزير الفعلي"، وفي حالة الضرورة القصوى "الوزير الفعلي"-"كاتب الدولة".
التقليص من الشق السياسي هو انتقال كذلك من التراتبية الشكلية المرتكزة أساسا على "وزير الدولة"-"الوزير"-"الوزير المنتدب" إلى التراتبية الفعلية المرتبطة بالشخصية الفعلية للوزير وبدوره السياسي، وخصوصا دوره المهماتي والفعلي والعملي، وبالتقدير الذي يحظى به من طرف رئيس الدولة خصوصا، ورئيس الحكومة كذلك. وفي هذا السياق، يقول مشيل دوبري وجون لويس دوبري في كتابهما "السلطة السياسية" إن الحكومة تتكون من الوزراء الذين هم نظريا متساوون فيما بينهم ولكنهم في الواقع يخضعون لتراتبية مزدوجة.
التقليص من الشق السياسي لم يكن ليتم في الواقع دون تقليص لعدد الأحزاب المشاركة في الحكومة، وبالتالي فإن العقل السياسي المغربي الذي كان قد شرع في مرحلة رفع السرعة التدبيرية في مواجهة التحديات، وخصوصا التحديات المرتبطة بداء كوفيد، كان من المفروض عليه لمواصلة الطريق بالسرعة نفسها، التركيز على تقليص حجم السياسي والتركيز على الحجم التدبيري من خلال ثنائية "الوزير الفعلي"-"المسؤولين عن البرامج أو المقاولين الجدد".
شخصية وزراء الدولة كانت موجودة قبل القرن الثامن عشر، وبالتالي وزراء الدولة هم شخصيات من الماضي السياسي التي وإن ارتبطت بإرادة سياسية إلا أنها إرادة سياسية كانت مبنية على إيجاد حل لبعض الشخصيات السياسية الباحثة عن الاستوزار وعن تراتبية بروتوكولية أعلى داخل مؤسسة الحكومة (ميشيل دوبري وجون لوي دوبري في كتابهما "السلطة السياسية") وبالتالي، فإن صفة وزير الدولة هي صفة من الماضي، ولا علاقة لها إطلاقا بعصر السياسات العمومية ولا تتوافق مع حكومة المقاولين.
وبالتالي، فإن غياب أي وزير دولة عن الحكومة الحالية من المفروض أن يكون إشارة من العقل المركزي للدولة أننا انتقلنا من عصر حكومة التوافقات السياسية إلى عصر الفعل العمومي والسياسات العمومية والحكومة المقاولة.
قبل تشكيل الحكومة الجديدة، كان المتتبعون ينتظرون موقف العقل الرسمي من صفة "الوزير المنتدب"، حيث أن الفعالية والسرعة والقرب كانت تفرض على العقل المركزي للدولة التفريق بين وزير منتدب لدى رئيس الحكومة ووزير منتدب لدى وزير.
وإذا كانت صفة وزير منتدب لدى رئيس الحكومة مقبولة دستوريا وعمليا، خصوصا وأن الدستور في فصله التسعين ينص على "يمارس رئيس الحكومة السلطة التنظيمية، ويمكن أن يفوض بعض سلطه إلى الوزراء..."،
كما تعمل المادة العاشرة من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة على تأطير وضع الوزراء المنتدبين (القانون التنظيمي لتنظيم وتسيير أشغال الحكومة يحمل بصمة تأطير اليوم الانتخابي لليوم الحكومي-رغم أنها أطرت الوضعيتين، وضعية الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة والوزير المنتدب لدى الوزير-وبالتالي يمكن اعتباره في هذا السياق يفتح نافذة كبيرة على اليوم الانتخابي بينما يكتفي بفتح نافذة صغيرة على اليوم الحكومي)، كما أن ترسيخ صفة الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة هو إجراء يقوي من سلطة رئيس الحكومة ويرسخ شخصنة رئيس الحكومة ويعزز من قوته التوجيهية، كما يعمل على تقوية مؤسسة رئاسة الحكومة،
فإن توجه العقل المركزي للدولة في الحكومة الجديدة إلى تعيين أربعة وزراء منتدبين لدى رئاسة الحكومة، (الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإدارة الدفاع الوطني- الوزيرة المنتدبة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة-الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالاستثمار والالتقائية وتقييم السياسات العمومية -الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي للحكومة)، هو رسالة إلى أن التوجه القادم يساير الطريق نحو الفعالية ويعمل على تقوية مؤسسة رئاسة الحكومة في اتجاه الرفع من نجاعة الأداء الحكومي.
وبخلاف ذلك، فإن صفة وزير منتدب لدى وزير، هو وضع يخلق لنا وزيرا فعليا ووزيرا بالصفة للاشتغال يحتاج إلى تفويض للاختصاص أو تفويض للسلطة، كما أنه قد يخلق وضعا شاذا داخل الوزارة ويضخم من الصفة التقريرية السياسية ويخلق داخل الهيكل التنظيمي للوزارة رأسين سياسيين، وبالتالي تغيب الفعالية التقريرية وتتوزع المسؤولية السياسية ويصعب من تحميل المسؤولية السياسية (وفي هذا السياق يمكن التذكير بإحدى الدراسات المهمة التي قام بها مجلس الدولة الفرنسي حول الهيكلة الحكومية استنتج من خلالها أن احترام روح الدستور الفرنسي يقتضي ترسخ الوزير المنتدب لدى الوزير الأول فقط والتراجع عن صفة الوزير المنتدب لدى الوزير-الدراسة تعرض لها الإطار العالي بالإدارة الفرنسية جاك فورنيي في كتابه "العمل الحكومي").
تضخيم المسؤولية السياسية داخل القطاع الوزاري لا تتماشى والشخصنة التي يحاول العقل المركزي ترسيخها، فالشخصنة تتطلب وزيرا فعليا مسؤولا عن قطاع من خلال ظهير التعيين (وزير اليوم الحكومي) وليس وزيرا منتدبا معينا بظهير، ولكن لا يصير فعليا إلا من خلال قرار التفويض (وزير اليوم الحكومي ولكن فقط بعد قرار التفويض).
كما أن تضخيم الموقع السياسي يرفع من مستوى المهام السياسية (مثلا زمن للتنسيق على المهام الموحدة-تبليغ الوزير الفعلي للوزير المنتدب للمداولات التي تم إجراؤها في المجلس الوزاري والتي تهم القطاع المعني) داخل القطاع الوزاري هو رسالة سيئة للمستوى الإداري تجعله يتحصن هو كذلك وراء تعدد المستويات الإدارية (كاتب عام-مدير-رئيس قسم-رئيس مصلحة-مدير إقليمي في الجهة-رئيس مصلحة في الجهة)، بينما الفعالية والنتائج تتطلبان مستويين فقط، وبالتالي فإن اكتفاء العقل المركزي للدولة بوزير منتدب لدى وزير واحد (الوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية) هو رسالة في اتجاه ترسيخ اليوم الحكومي الفعلي، وكذلك رسالة تستهدف ترسيخ التحديث والفعالية والتبسيط، مع إمكانية العمل في المستقبل على الاكتفاء بالوزراء الفعليين.
الحكومة الجديدة والانتقال من عصر الفردانية الجامعة إلى عصر الفردانية الأحادية
جنوح العقل المركزي للدولة إلى الفصل بين الوزير والمهمة والتركيز على أولوية المهمة، كان من المفروض أن يؤثر بشكل كبير على حضور الديناصورات السياسيين داخل الحكومة (رئيس حزب الأحرار، رجل أعمال في ثوب سياسي في منصب رئيس الحكومة-رئيس حزب الاستقلال، رئيس حزب يتقاطع في شخصيته السياسي والتكنوقراطي مع الميل إلى دور التكنوقراطي-رئيس حزب الأصالة والمعاصرة، رئيس حزب سياسي يملك هوية محض سياسية ولكن بحقيبة تقيده سياسيا "العدل").
العقل السياسي المركزي بعمله على تفضيل المهمة على الوزير، يكون قد انتصر للفعالية على السياسة، وبالتالي عمل على تعيين الأشخاص الذين يتوافقون مع السياسة العمومية والتقنية والخبرة المطلوبة، كما أنه انتصر للخلطة المهماتية والتقنية والخبرات، على الأقدمية والموقع في الأحزاب المشكلة للحكومة.
العقل المركزي للدولة كان يحاول أن يستبدل وزراء الفردانية الجامعة (قادة التنظيم-السياسيين المحنكين-الشعبويين-العمومين-نخب التايتنيك) بوزراء الفردانية الأحادية (التقنيين والخبراء، أصحاب الشواهد-أصحاب الملفات -أصحاب المشاريع -نخب القطار السريع-أصحاب قوة ونوعية السير الذاتية والنخب المرتبطة بالعمل الميداني).
بيير روزنفلون يؤكد في العدد الأخير من مجلة "الفلسفة" لشهر أكتوبر 2021، أنه بتتبعنا لعصر الحداثة الأوروبية، فإننا نلاحظ أن كل إنسان هو حر عندما يكون يمثل وجها للجموع، فمثلا وحتى نهاية القرن العشرين الطبقة العاملة كان لها نمط حياة وثقافة وأحياء ولباس وأغان ونمط للكتابة، وبالتالي كان الانخراط في أحد الجموع يمثل مصدر غنى للفرد ومصدر افتخار، ولكن القرن الواحد والعشرين فتح صفحة جديدة في التاريخ، نقلنا من خلالها من الفردانية الجامعة إلى الفردانية الأحادية.
التطور نحو الفردانية الأحادية التي تعرفها المجتمعات الحديثة، يجعل كل واحد منا يشعر بأنه يمكن أن يكون مصدرا لبناء شخصيته المنفردة.
الشخصيات المعينة في الحكومة الجديدة هي في غالبيتها شخصيات تمثل نماذج للفردانية الأحادية، وبالتالي يتم العمل داخل الزمن الحكومي على الانتصار للفردانية الأحادية ضدا على الشخصيات التي تمثل الفردانية الجامعة والتي يتم في الغالب انتخابها في الزمن الانتخابي أو تكون تمثل الشخصيات الحزبية التي تتمتع بقاعدة حزبية قوية.
الانتصار لخيار الفردانية الأحادية لا يمكن فصله كذلك عن كون الأحزاب السياسية والنقابات لم تعد ترسخ تلك التفرقة الكلاسيكية (يمين-يسار) بثنائيتها المعروفة (المستغلين-المستغلين) (النظام-العدالة) (المصالح-القيم).
العصر الحاضر صار يتميز بالحركات الاجتماعية، وبالتالي لم تعد الأحزاب السياسية والنقابات تملك القدرة ولا الأيديولوجية الضرورية لتصريف قنوات الصراع، فالصراع داخل المجتمع اليوم كما يقول بيير روزنفلون يعتمد على القدرة على معرفة الملموس والأقرب للحياة الشخصية للناس، وبالتالي يبرز إلى السطح أهمية وميزة الاعتماد على الشخصيات المنفردة.
العقل الرسمي المغربي وثنائية "الوزير-المهمة"
يقول الأمريكي ادموند فيلبس، صاحب جائزة نوبل للاقتصاد في سنة 2006، إن سبب الإقلاع الكبير الذي عرفته الدول الأوربية وأمريكا ما بين سنوات 1820 و1860، مرده إلى القيم الحداثية المرتبطة بالاختراع-حب المعرفة-الرغبة في خلق الجديد-الجنوح نحو التحدي-البحث عن دخول عالم جديد.
عالم ما بعد كوفيد كان يتطلب من العقل المركزي العمل من داخل سقف القيم الحداثية في تعيين الحكومة، الرأي العام الوطني لم يكن ينتظر الكثير من الطبقة السياسية، وخصوصا أن نوعية النخب داخل الطبقة السياسية هي في غالبيتها نخب تبحث عن التموقع داخل المناصب الحكومية أو الإدارية. وفي هذا السياق، نتذكر قول مارغريت تاتشر: "في السابق كان الناس يجتهدون من أجل تحقيق شيء ما، أما الآن فإنهم لا يفكرون إلا في أن يصبحوا شخصا ما".
العقل الرسمي كان مقتنع بأن القيام بالتغيير المطلوب لا يتوقف عند نتائج اليوم الانتخابي، بل يعتمد بشكل كبير على الصور التي ستبثها شاشات التلفزة في اليوم الحكومي، وهل ستحمل هذه الصور أشخاصا من الماضي أم أشخاصا جدد، وهل ستحمل هذه الصور سيرا ذاتية لشخصيات متعودة على الخطوات الصغيرة والخطوات الروتينية إم أن اليوم الانتخابي سيحمل الجديد وأن مشاورات تشكيل الحكومة هي مشاورات نوعية تجتهد من أجل إخراج الجديد، وبالتالي ستفصح لنا عن شخصيات جديدة قادرة على القيام بالخطوات الكبرى والخطوات السريعة وقادرة على المساهمة في بناء المستقبل الذي ينشده الجميع.
هامش تحرك العقل الرسمي من داخل اليوم الحكومي كان محكوما بسقف الدستور (التعيين-الاقتراح من طرف رئيس الحكومة)، وبالتالي عمل العقل الرسمي على صنع هندسة حكومية بوجوه في غالبيتها جديدة، وهنا وجب التأكيد أن العقل المركزي المغربي عمل على إيقاف زحف اليوم الانتخابي الذي كان يحاول أن يفرض رجال السياسة ورجال التنظيم ورجال العموميات ورجال الماضي على اليوم الحكومي.
تقديم الجديد في اليوم الحكومي كان يتطلب من العقل الرسمي المغربي أن يرفع ورقة التخصص والمعرفة بالسياسات العمومية والبرامج الخاصة بالقطاعات المراد الاستوزار بها.
الطبقة السياسية كانت متعودة على تقديم الاقتراحات المتعلقة بالأشخاص المرشحين للاستوزار، من خلال الاعتماد على الرجال الذين قادوا الحملات الانتخابية من خلال خطاب العموميات ودغدغة المشاعر والشعبوية، لكن استراتيجيتها العتيقة اصطدمت بالسقف الذي حدده العقل المركزي للدولة لليوم الحكومي المعتمد على الوجوه الجديدة والتخصصات والخبرات النوعية والمنفتحة على المستقبل، وهكذا وفي مواجهة رجال اليوم الانتخابي رفع العقل المركزي شعار اليوم الحكومي المرتبط بالتخصص والتجربة والمعرفة بالتدبير العمومي الجديد والمعرفة بالملفات، وبالتالي انتصر العقل المركزي للدولة لثنائية (الوزير-المعرفة بالتخصص) مع أولوية المعرفة بالتخصص والسياسات العمومية والبرامج والمشاريع.
التأكيد على الانتظارات والمطالبة بالنتائج والأفعال كان يعني أن العقل المركزي سيعمل على تشكيل الحكومة تحت سقف المهام والأهداف، وبالتالي الانتقال من التركيز على الوزير كشخصية سياسية مرتبطة بالتفويض الشعبي والتعيين إلى الاهتمام بالوزير كمهمة وأهداف وحقل للاشتغال والتكوين والتجربة، وبالتالي كان ضربة للوجوه القديمة وانتصارا للسياسات العمومية.
الاشتغال على ثنائية "الوزير –المهام" هو محاولة للانتقال من سقف الديمقراطية التمثيلية حيث التركيز على التفويض القبلي والأشخاص الذين يتقنون دغدغة المشاعر (في مرحلة الحملات الانتخابية) والأشخاص الذين يتقنون تحريك الجموع، والأشخاص الذين يشتغلون تحت سقف العموميات، والأشخاص الشعبويين، أي الانتقال من سقف "تكنقراطي العموميات" إلى "تكنوقراطي الوقائع" المحددة والمهام الواضحة التي تتطلب التخصصات.
يقول بيل غيت في تصريح لمجلة "نيويورك تايمز": "نحن في حاجة إلى تكنوقراطيي الوقائع ليخبرونا بشكل دقيق أين يكمن الخلل وأين يوجد الحل".
تحريك شعار المهام والتخصصات هو محاولة لإيقاف نخب العموميات والشعبويين في مرحلة اليوم الانتخابي والاكتفاء بتمثيليتهما في البرلمان، وتخصيص اليوم الحكومي لنخب التخصصات والأفعال والنتائج.
من حكومة العقل المالي إلى حكومة الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي
في تقريره الشهير حول الدولة المنجز سنة 1994 في فرنسا، يقول الإطار بالمجلس الأعلى للحسابات بفرنسا جون بيك: "إن دولة منفتحة على العالم من المفروض أن تقرر ما هي المهام المطلوبة منها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهام من الممكن أن تتغير".
المهام من المفروض ألا تغلق الباب على الماضي، ولكنها من المفروض أن تركز على خدمة الحاضر دون أن تغفل فتح نافذة كبيرة-توازي انفتاح جغرافيتنا على الخارج-على المستقبل.
الانفتاح على المستقبل هو المهمة المرتبطة بمهام التوقع الذي من المفروض أن تقوم به الدولة، وهي المهمة التي أكد تقرير بيك أنها تراجعت في فرنسا.
من خلال إحداث وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، يحاول العقل المركزي للدولة أن يبعث بإشارات قوية حول التوجه إلى ترتيب جديد لمهام الدولة من خلال إعطاء أهمية كبيرة للمهام التي تحجز مكانة مهمة للمغرب في عالم ما بعد كورونا، وأن الثلاثية التي كانت سائدة سابقا "الكثير من الماضي-القليل من الحاضر-غياب المستقبل" هي في طريق التغيير والتحديث بحيث ستتحول إلى "الكثير من المستقبل-الحاضر-القليل من الماضي"، كما حاول العقل المركزي للدولة التركيز على أن المستقبل يبقى مرتبطا كذلك بالقوى التي يفرزها اليوم الانتخابي، هل هي قوى الماضي أم قوى الحاضر والمستقبل؟ وأن الرغبة التحديثية للدولة تتقوى وتتعزز من خلال تصدر القوى المنفتحة على المستقبل المشهد في اليوم الانتخابي.
من خلال تنصيصه على مهمة التحول الرقمي وتقييم السياسات العمومية، أراد العقل المركزي للدولة في المغرب أن يبعث بإشارات قوية مرتبطة ليس بالأشخاص الجدد بل بالمهمات المنفتحة على الحاضر والمستقبل.
العقل المركزي من خلال رسائل تحديث المهام والتركيز على المهام المرتبطة بالحاضر والمستقبل، كان يعمل على توجيه رسائل بأنه حاضر ومستعد لحجز وتحسين الموقع الذي يحتله المغرب بالنسبة للخارج.
بعد النووي واكتشاف الفضاء، يبرز الذكاء الاصطناعي كأفق استراتيجي جديد في سباق الصراع بين الدول، في كتاب صادر في سنة 2021 تحت عنوان "الجيوبلتيك والذكاء الاصطناعي"، يقول الباحث باسكال بونيفاس إن الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية سيغيران المجتمعات، خصوصا من خلال التأثير الكبير الذي تحدثه هذه الثورة على أنشطة الإنتاج وإشباع الحاجيات.
حضور الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية ضمن المهام الموكلة للحكومة الجديدة، يقرأ كذلك من خلال إسناد المهمة إلى وزير منتدب لدى رئيس الحكومة، وبالتالي تبرز الأهمية التي يكتسيها هذا الحضور.
من المعروف أن الحكومة، حسب الوثيقة الدستورية، تتكون من وزراء نظريا متساوين ولكن في الواقع الوزراء يرتبون انطلاقا من الثنائية المزدوجة، التي تعتمد على التراتبية الواقعية التي تعتمد على طبيعة شخصيتهم ودورهم السياسي وكذلك علاقتهم الشخصية برئيس مجلس الوزراء ورئيس الحكومة، أما التراتبية الثانية فتركز على التراتبية الشكلية المرتبطة بطبيعة المهمة المسندة إليهم (وزير الدولة-وزير-وزير منتدب لدى رئيس الحكومة-وزير منتدب لدى وزير) (من كتاب مشيل دوبري-جون لويس دوبري، "السلطة السياسية").
عند تشكيل الحكومة، اهتم المتتبعون بالرسالة المركزية التي أرادت السلطة التي عينتها والسلطة التي اقترحتها بعثها إلى الخارج؛ وهي أن الحكومة الجديدة هي حكومة بناء المستقبل، وبالتالي حكومة الثورة الرقمية والذكاء الصناعي. ولتأكيد ذلك، فإن طبيعة الإشارة السياسية تتمثل في نوعية وطبيعة الوزارة، هل هي "وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة" أم "وزارة منتدبة لدى وزير" أم "كتابة الدولة".
العقل المركزي للدولة من خلال خلق وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالتحول الرقمي (والذكاء الاصطناعي) كان يبعث رسالة مهمة بأن عصر السرعة يتطلب الاعتماد على نخب السرعة ونخب القطار السريع، وإذا كانت المرحلة التي سبقت أزمة كوفيد قد تطلبت منح الفرصة للعقل المالي لقيادة قافلة الحكومة، فإن عصر ما بعد أزمة كوفيد يتطلب الرفع من السرعة من خلال منح الأولوية في المرحلة المقبلة إلى نخب الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية.
الديمقراطية التنفيذية، التي تقود التحول من سقف الجموع إلى سقف القادة، تبرر اختيارها من خلال الاعتماد على الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي من خلال ما قاله الباحث الإسرائيلي "من خلال الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، لم تعد الدول في حاجة إلى جيش كبير العدد من أجل الدفاع، ولا لجيش من العمال، فالقوة اليوم لا تعتمد على الأرقام، فلم نعد في حاجة إلى السواعد من أجل الإنتاج والتوزيع، فالذكاء الصناعي صنع لنا الرجال الآليين وهم الذين يقومون بكل هذه الأعمال بشكل أكثر أمان وأسرع وبشكل أحسن وبأقل كلفة".
إحداث وزارة منتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، هو رسالة تستهدف بعث إشارات إضافية بأن شأن التحول الرقمي هو من الاهتمامات الأساسية الموكولة لرئيس الحكومة، مما يعني أن رئاسة الحكومة اليوم منخرطة في التحول الرقمي بقوة ظهير التعيين.
كما أن القطاع التقليدي الخاص بالوظيفة العمومية، بعد أن تم دمجه مع قطاع المالية سابقا من أجل الرفع من سرعته إلا أن أزمة كوفيد وما تطلبت من ضرورة القيام بالثورة الرقمية، وخصوصا بالإدارة، كان يستدعي من العقل المركزي للدولة القيام بربط قطاع الإدارة العمومية بالوزارة المنتدبة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالتحول الرقمي (وبالتالي الانتقال بقطاع الإدارة العمومية من القطار السريع إلى القطار فائق السرعة).
الخلاصة
الاهتمام باليوم الحكومي، خصوصا ما بعد كوفيد، لم يأت من فراغ، وخصوصا أن الرهانات العالمية كانت منشغلة بإصلاح اليوم الحكومي، ومن المعروف أن النشاط الحكومي يشمل نشاطا روتينيا يتكرر بشكل مستمر وكل سنة ويتضمن كذلك القدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية، ويشمل النشاط الحكومي كذلك نشاطا إراديا مرتبطا بالمشاكل التي ينوي إيجاد حلول لها والإصلاحات التي ينوي القيام بها والتوجهات الجديدة التي ينوي تنزيلها وتنفيذها (البرامج الانتخابية-البرنامج الحكومي-وبرنامج العمل الحكومي)، الحكومة في الغالب تركز عملها على النشاط الروتيني الاعتيادي، وبالتالي يغيب النشاط الإرادي، لهذا اهتم قادة الدول بتفعيل العمل الحكومي.
الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغن سيرفع الشعار المركزي "الحكومة ليست هي الحل، الحكومة هي المشكلة"، الرئيس بيل كلينتون ومباشرة بعد نجاحه في الانتخابات سيطالب نائبه بتقرير حول كيفية إعادة اكتشاف الحكومة، اليابان ستقرر إعادة تنظيم الحكومة على مدة خمس سنوات، بريطانيا والسويد ستنهجان الطريق نفسه، وبالتالي فإن الاهتمام الكبير باليوم الحكومي بالمغرب لا يمكن فصله إطلاقا عن التجارب التي حدثت في البلدان التي حققت الإقلاع (بعيدا عن التجربة الفرنسية).
كما أن الرسائل والإشارات الموجهة من العقل المركزي للدولة من خلال التشكيلة الحكومية الجديدة، كانت تستهدف كذلك فتح الجسور مع الرأي العام الوطني وإخباره بأن رسالة التغيير التي وجهها إبان اليوم الانتخابي الأخير قد التقطت وفهمت.
العقل المركزي كان يعي كذلك أن التغيير الذي عبر عنه الناخبون في اليوم الانتخابي من المفروض أن تتضح معالمه الأولية في اليوم والزمن الحكومي، كما أن هذا التغيير الهدف منه الأساسي هو أن تترك السياسات العمومية المراد تطبيقها أثرا على الأرض، أثرا يشعر به المواطن ودافع الضرائب والمرتفق.
العقل المركزي للدولة كان يريد أن يقول للطبقة السياسية إن الرأي العام الوطني لم يعد يثق في صياح الديك المستمر لأن هذا الصياح هو دون نتيجة، وأنه وكما قال الرئيس الأمريكي الأسبق ابراهام لنكولن، يميل إلى الدجاجة، ذلك الحيوان الهادئ والوديع الذي لا يصدر نقنقته الا بعد أن يضع بيضه، وبالتالي كان يوجه رسائل بالواضح إلى الطبقة السياسية بأن المطلوب اليوم هو النتائج والأثر على الأرض وليس سياسة الأقوال وكثرة الكلام.
باحث في العلوم السياسية والمالية العامة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.