الاقتراع الأخير بالمغرب يريد العقل المركزي للدولة من خلاله أن يوجه عدة رسائل للخارج والداخل، الرسالة الأولى تتمثل في قدرة هذا العقل على صياغة وثيقة دستورية أثبتت قدرتها على الصمود أمام تقلبات الزمن السياسي وظروفه الطارئة وغير المتوقعة (خصوصا أمام عجز العقل الدستوري التونسي عن منح الشعب التونسي وثيقة دستورية قادرة على الصمود أمام التقلبات السياسية وعلى تأطير لحظات التقلبات السياسية، بدل أن تحكم لحظات التقلبات السياسية الوثيقة الدستورية وتعطلها)، وبالتالي يحجز المغرب موقعه كديمقراطية رائدة في المنطقة. نجاح العقل الدستوري المغربي في منح المغاربة وثيقة دستورية قابلة للحياة مرده كذلك إلى أن العقل الدستوري المغربي وبخلاف باقي الدساتير التي جاءت ما بعد الربيع العربي أو نتيجة له، لم تحكمه اللحظة السياسية المرتبطة بالربيع العربي، وتجعله بالتالي مضطرا لصياغة الوثيقة الدستورية تحت سقف الديمقراطية التمثيلية، بل إن العقل الرسمي المغربي يحسب له أنه تحرر من اللحظة السياسية المرتبطة بالربيع العربي وعمل بالتالي على صياغة الوثيقة الدستورية تحت سقف الديمقراطية التنفيذية وديمقراطية المخارج وديمقراطية النتائج، وبالتالي عمل على صياغة دستور تحت يافطة الخصوصية المغربية. تفوق العقل الدستوري يترسخ كذلك من خلال قدرة الوثيقة الدستورية على إنجاح تطبيع العلاقة بين العقل الرسمي المغربي والاقتراع، المواعيد الانتخابية ما قبل دستور 2011 كانت مصدر توتر بين المغرب الرسمي والمغرب المعارض، هذا التوتر كان له وقع سلبي على الأوضاع الداخلية للبلد وعلى صورة المغرب في الخارج، وكان له كذلك انعكاس سلبي على الوضعية الاقتصادية والتنموية. الدساتير تحت سقف الديمقراطية التمثيلية وسقف المشروعية الشعبية (هي دساتير القرن الثامن عشر حيث سيادة العموميات-القاعدة العامة-المصلحة العامة-العالم المتشابه والوضعيات المتشابهة، وبالتالي سيادة القاعدة العامة والتشريع وممثلي الأمة وسلطة الأغلبية)، تفتح الطريق أمام البلوكاج المؤسساتي وصراع المشروعيات المؤسساتية، المشروعية الانتخابية لرئيس الدولة-المشروعية الانتخابية للبرلمان والأغلبية البرلمانية (حسب كريستيان كوود في كتابه التعايش، فإن الديمقراطية التمثيلية قد تنتج لنا رئيسا للدولة وأغلبية برلمانية بتوجهات متناقضة أو مختلفة، مما ينتج عنه التعايش وبالتالي وضعية الستاتيكو أو وضعية الصراع، وبالتالي الأزمة المؤسساتية والاصطدام بالحائط). المعروف عن الديمقراطية التمثيلية أنها تفتح الطريق نحو الصراع المؤسساتي وتفتح الطريق كذلك أمام الصراع حول ديمقراطية المداخل، بينما استراتيجية المشروعية التنفيذية مكنت من الانتقال بأريحية من ثنائية: الاقتراع -الأزمة إلى ثنائية: الاقتراع-الفرصة. الوثيقة الدستورية لم تمكن العقل الرسمي من المصالحة مع الاقتراع فقط، بل منحت للمغرب والمغاربة نظاما سياسيا قابلا للحياة على الأقل في المستقبل القريب، فالعشر سنوات التي مرت على تطبيق الدستور مكنت العقل الرسمي من التفاهم مع الطبقة السياسية حول العقد الدستورية الأساسية في نظرنا، وهي السلطة التقديرية الواسعة لرئيس الدولة في تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر، الحرية لرئيس الدولة من خلال التنسيق مع رئيس الحكومة المعين لاختيار الأغلبية والبرنامج الحكومي الذي يكمل وينفذ الأجندة الملكية. النظام السياسي القابل للحياة والهندسة المؤسساتية المتناسقة والمتوافقة تحت سلطة رئاسية واحدة هو الذي مكن المغرب من الرفع من السرعة التدبيرية في السنين الأخيرة، ومكن العقل الرسمي المغربي من تدبير مرحلة كوفيد بأريحية وحنكة تحسب له. وبالتالي، يشعر العقل الرسمي المغربي بأنه ليس هناك ألغام دستورية ولا قواعد دستورية غامضة ومبهمة قد تخلق صعوبات في تدبير نتائج الاقتراع الأخير، بل إن الطبقة السياسية المغربية بالكامل تعرف المسطرة والقواعد الدستورية المتبعة، لهذا يشعر العقل الرسمي المغربي بأن الاقتراع الأخير يمثل فرصة أساسية لترسيخ التفوق الإقليمي والدولي وتحسين الموقع الجيو-استراتيجي للمغرب. العقل الرسمي المغربي والحياد أمام اليوم الانتخابي واللحظة الانتخابية الوثيقة الدستورية مكنت العقل الرسمي المغربي من التصالح مع اليوم الانتخابي، من خلال التزام العقل الرسمي المغربي باحترام ديمقراطية المداخل، الحديث عن ديمقراطية المداخل يقودنا إلى ما قاله الباحث في جامعة اوكسفورد فريتز شاربف، في بحثه الصادر سنة 1999، الذي حاول من خلاله التفريق بين المشروعيات، من خلال التنظير للمشروعية من خلال المداخل والمشروعية من خلال المخارج. الانتظارات الشعبية والاحتجاج على الأثر الذي تتركه السياسات العمومية على المجتمع ومحاولة فتح قنوات الاتصال بين المنتخب والمجتمع ما بعد الانتخابات، ستنقل الاهتمام من المشروعية من خلال المداخل إلى المشروعية من خلال المخارج، وبالخصوص إلى المشروعية من خلال النتائج. الاقتراع كان دائما يحمل وجهين مرتبطين، وجه مرتبط بالانتخاب باعتباره تعبير عن المساواة بين المواطنين، ووجه آخر للانتخاب مرتبط بكونه الوسيلة التي تمكن من اختيار الحاكمين، وبالتالي فإن الانتخاب كان يحمل وظيفتين أساسيتين: التصويت-الحق، والتصويت-المهمة. العقل الرسمي المغربي عمل على احترام التصويت-الحق، وبالتالي عدم التدخل في اليوم الانتخابي واللحظة الانتخابية. التجارب الديمقراطية الدولية تعرف تعاقب المرحلتين الديمقراطيتين، الزمن الانتخابي والزمن الحكومي. العقل الرسمي المغربي سابقا كان يعمل على التركيز على التحكم في الزمن الانتخابي، هذا التحكم كان يجعل سقف اشتغاله محكوما بثنائية الاقتراع-الأزمة. أدرك العقل الرسمي المغربي أن التركيز على اليوم الانتخابي والاشتغال من خلال ثنائية الاقتراع-الأزمة، هو خيار مكلف بالنسبة له وللمغرب، وبالتالي نقل العقل الرسمي المغربي اهتمامه وتركيزه من الزمن الانتخابي إلى الزمن الحكومي، خصوصا بعد دستور 2011. هذا التغيير مكن العقل الرسمي المغربي من تجريب الاشتغال تحت سقف الاقتراع-الفرصة، بدل ثنائية الاقتراع-الأزمة، ووجب التوضيح هنا أن هذا التغيير كان اقتناعا من العقل الرسمي المغربي كذلك بأن العالم يتغير وبأن عصر الديمقراطيات التمثيلية يترك مكانه لعصر الديمقراطيات التنفيذية وزمن ديمقراطية التأسيس يترك مكانه لزمن ديمقراطية المخارج، أو ما يطلق عليه بديمقراطية النتائج. اهتمام العقل الرسمي المغربي بديمقراطية النتائج سيدفعه إلى الاهتمام والتركيز بشكل أكبر على التصويت-المهمة، بدل الاهتمام بمرحلة التصويت-الحق. الاهتمام بمرحلة التصويت-المهمة هو في حقيقة الأمر محاولة من العقل الرسمي المغربي للتركيز على الأهم والأساسي من خلال مساهمة الاقتراع الأخير في تحديد الحزب المتصدر، وبالتالي ملامح شخصية رئيس الحكومة باعتباره الشخصية التنفيذية الثانية في هرم الدولة، وأحد المتغيرات الأساسية في منظومة المستوى التقريري للبلد. كما أن الاهتمام بالزمن الحكومي ومرحلة الانتخاب-المهمة هو تركيز على مرحلة العمل ومرحلة السياسات العمومية والفعل العمومي والمنجز على الأرض والأثر الذي تتركه السياسات العمومية على المواطن والمرتفق ودافع الضرائب، هذا الانتقال ساهم بشكل كبير في الانتقال من التعامل مع الاقتراع تحت سقف الاقتراع-الأزمة إلى مرحلة التعامل مع الاقتراع تحت سقف الاقتراع-الفرصة. العقل الرسمي المغربي والتركيز على اليوم الموالي للانتخاب أو اللحظة الحكومية أحد أصدقاء إنجلز (صديق ماركس) قال إن الانتخابات من المفروض أن تؤمن لنا الخبز والسكن والشغل، وبالتالي فان الهدف من الانتخابات هو النتائج على الأرض في اليوم الموالي للانتخاب، أي الاهتمام والتركيز على اللحظة الحكومية بدل اللحظة الانتخابية. تركيز العقل الدستوري المغربي عند صياغته الدستور على خلق الديمقراطية التنفيذية أو ديمقراطية المخارج، كان يعني نقل اهتمام الدستور من اللحظة الانتخابية إلى اللحظة الحكومية. أثبتت التجارب الديمقراطية في العالم أن الانتخاب باعتباره فعلا يتم من خلاله اختيار القادة بشكل مباشر من صناديق الاقتراع، يفتح الباب على مصراعيه أمام انتخاب القادة العاديين أو القادة الشعبويين أو القادة المغامرين أو القادة عامة الناس، مما يعني إمكانية فتح الباب بعد الانتخابات على المجهول. لم يغب عن بال منظري الديمقراطيات الحديثة أن الاقتراع أو التصويت قد ينتج عنه كوارث، ومن أجل إصلاح ذلك عملوا على تصور أن كوارث الاقتراع الأول تصلح من خلال الاقتراع الثاني، وعملوا كذلك على محاولة إصلاح كوارث الاقتراع من خلال إنشاء الإدارة ونخبها، وعملوا على اختيار نخب الإدارة (لمساعدة القادة المنتخبين العاديين على التدبير والقيادة) من خلال المباراة والامتحانات، ابتكار نخب الإدارة ووضعهم تحت تصرف الأغلبية الحكومية هو في حقيقة الأمر تصحيح إرادي لأخطاء العملية الانتخابية. ولكن ارتفاع الاحتجاجات الشعبية أثناء المرحلة الحكومية دفع الكثيرين إلى التفكير في إصلاح الكوارث التي قد تنتج عن الاقتراع من خلال عدم الربط الاوتوماتيكي ما بين الاقتراع وضرورة انتخاب القادة. وبالتالي بدأت الأبحاث والدراسات الحديثة تبرز مزايا التعيين والمباراة (وهنا وجب التأكيد أن التجربة التنموية الصينية تعتمد على نخب التعيين ونخب الاختيار ونخب المباراة، ولا تعتمد بالتالي على النخب المنتخبة). أمام عشوائية الانتخاب، حاولت الديمقراطيات التنفيذية أن تمزج بين الانتخاب والتعيين من خلال وصفة تمزج بين الثنائيتين مع أولوية التعيين، وهنا وجب التأكيد أن وصفة العقل الدستوري المغربي من خلال الحديث عن الحزب المتصدر وعبارة "الاختيار من الحزب المتصدر"، كانت تستهدف منح سلطة تقديرية مفتوحة أمام سلطة التعيين وسلطة مقيدة محدودة من خلال الاختيار من الحزب المتصدر. إذا كان العقل المركزي المغربي قد اختار التعامل بذكاء مع مرحلة الولاية التشريعية الأولى ما بعد دستور 2011، (2012-2016) التي يمكن وصفها بمرحلة التعايش بين المؤسسة الملكية ونتائج انتخابات 2012، من خلال إعطاء الأولوية لديمقراطية التأسيس واليوم واللحظة الانتخابية على حساب اللحظة الحكومية وديمقراطية المخارج والنتائج، فإن هذه الولاية كان عنوانها الرئيسي هو الصمود أمام رياح وعواصف الربيع العربي، وبالتالي تم تدبير مرحلة الولاية التشريعية الأولى ما بعد دستور 2011 تحت عنوان وضعية الستاتيكو وترتيب الأوراق للمستقبل. لكن مرحلة الولاية التشريعية الثانية (2016-2021) كانت مرحلة الانتقال من وضعية الستاتيكو إلى مرحلة ترسيخ الدور الكبير للمؤسسة الملكية في ضمان استمرارية الدولة وحسن سير المؤسسات الدستورية، زمن الولاية الثانية خصصته المؤسسة الملكية لترسيخ سلطتها في التعامل مع القواعد الدستورية، من خلال تأطير اللحظة الحكومية والتعامل مع القواعد الدستورية المرنة التي صاغها العقل الدستوري المغربي. في مرحلة الولاية الثانية، لم يكن من الممكن البقاء تحت سقف مرحلة الستاتيكو، وكان من الضروري أن تنطلق عربة مستوى المؤسسات السياسية في البلد للعمل والرفع من السرعة التدبيرية من خلال خلق التجانس والتنسيق بين المؤسسات الدستورية، وبالتالي وجدت المؤسسة الملكية نفسها مضطرة للانتقال إلى استراتيجية تدبير اللحظة والزمن الحكومي من خلال حرية اختيار رئيس الحكومة من الحزب المتصدر وإذا لم ينجح في مشاوراته من أجل تشكيل الحكومة، فإن صاحب القرار يمكن أن يقرر من جديد ويعمل على تعيين شخصية جديدة من الحزب المتصدر. العقل الرسمي المغربي وتحديد الأغلبية الحكومية في سنة 1994، قال فرانسوا ميتران: "لا أتفق مع مجموعة من الإجراءات الحكومية ولكنني لا يمكن أن أمضي وقتي في الصراع مع الحكومة وأغلبيتها". دستور 2011 وتنزيله على أرض الواقع كان من المفروض أن يعمل على تجنيب المستوى التقريري داخل هرم السلطة بالمغرب عملية تضييع الوقت السياسي والتدبيري من خلال البلوكاج والصراع، ما بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وبالتالي يحسب للعقل الدستوري المغربي أنه عمل على صياغة وثيقة دستورية تفتح الطريق للتوافق داخل الهرم التقريري وكذلك داخل الهرم التنفيذي، وبالتالي يفتح الطريق ويعبده أمام ثنائية القرار-التنفيذ. العقل الدستوري المغربي عمل على عدم تضمين الدستور ما يطلق عليها بالألغام الدستورية، وبالتالي استعمل بذكاء عبارة الحزب المتصدر، ولم يستعمل عبارة الحزب الحائز على أغلبية الأصوات. استعمال عبارة الحزب المتصدر، كان مخرجا دستوريا لتجنيب المغرب الصراع الذي تعرفه الديمقراطيات التنفيذية ذات الرأسين التنفيذين، وخصوصا إذا كانوا يستندون إلى مشروعيات شعبية. ذكاء الإخراج الدستوري يتمثل في كون عبارة الحزب المتصدر تفتح الطريق للخروج من لغم ترسيخ الرأسين التنفيذين. أهمية اللحظة الدستورية الثانية (تعيين الحكومة وتحديد الأغلبية) من داخل الزمن الحكومي لا تقيد زمن (الاقتراح-التعيين) بأي نوع من القيود، وبالتالي فإن هذه اللحظة يمكن أن تشهد (الاقتراح-رأي سلطة التعيين-إعادة الاقتراح في ضوء وجهة نظر سلطة التعيين-التوافق-سلطة التعيين)، كما أن هذه اللحظة تشهد كذلك الاتفاق على الأحزاب المشكلة للأغلبية البرلمانية. الاتفاق بين (سلطة الاقتراح-سلطة التعيين) أو بين (رئيس الحكومة المعين-الملك) على الأغلبية التي ستشتغل مع المؤسستين (المؤسسة الملكية-مؤسسة رئيس الحكومة)، يمهد الطريق كذلك للتوافق والتطابق والتناسق بين الأجندة الملكية والأجندة الحكومية مع احترام أولوية الأجندة الملكية. هذا التوافق يخلق التناسق والتناغم ما بين المستوى التقريري الأول بالمغرب، ويجب التأكيد أن التناسق والتفاهم بين هذا المستوى هو شرط أساسي لتعبيد الطريق أمام الفعل العمومي وأمام المدبرين لقيادة القطار التنموي نحو هدفه المنشود. العقل الرسمي المغربي والبرنامج الحكومي التركيز على المرحلة الحكومية هو تركيز من العقل السياسي المغربي على الفعل العمومي والفعل العمومي المتناسق يحتاج إلى برنامج للعمل على المستوى الاستراتيجي، وبالتالي فإن نجاح السياسات العمومية في المغرب في خلق الأثر المرجو منها لا ينفصل عن ضرورة خلق الترابط بين المستوى الاستراتيجي-المستوى الحكومي-المستوى التنفيذي، وبالتالي كان الكل ينتظر الإجابة على السؤال المرتبط بموقع البرنامج الحكومي داخل منظومة الفعل العمومي العام بالمغرب، ليس من منظور اختصاص كل مؤسسة دستورية على حدة بل من منظور وجهة نظر علم التدبير. الإعلان عن النموذج التنموي كان في حقيقة الأمر قفزة نوعية إلى الأمام من طرف العقل المركزي للدولة لاستكمال عناصر ترسيخ الديمقراطية التنفيذية على الأرض، وكان كذلك جوابا للداخل والخارج على أن تنزيل الوثيقة الدستورية الحديثة قد قطع شوطا مهما على المستوى التنفيذي، وأن الصراع السياسي الذي ميز المغرب ما بعد الاستقلال يترك مكانه لصراع جديد حول كيفية تنفيذ النموذج التنموي، وبالتالي المغرب يغلق باب الصراع السياسي ويفتح باب التلاحم من أجل البناء التنموي. فتح الطريق أمام مرحلة البناء التنموي كان يفترض بالضرورة العمل على توضيح الوثيقة الدستورية في الميدان التدبيري. وفي هذا السياق، فإن ما ورد في الفصل الثامن والثمانين من الدستور من أن رئيس الحكومة يتقدم أمام مجلسي البرلمان مجتمعين بعرض البرنامج الذي تنوي الحكومة تطبيقه، كان في حاجة إلى توضيح، خصوصا موقع البرنامج الحكومي أمام الأجندة الملكية. الأجندة الملكية وأجندة مجلس الوزراء السابقين هي أجندات ملزمة للبرنامج الحكومي بقوة النص الدستوري (أخذا بعين الاعتبار أولوية وأهمية المؤسسة التي حددت الأجندة) إلا إذا تم التوافق مع المؤسسة الملكية على تعديلات معينة، وبالتالي فإن البرنامج الذي تعتزم الحكومة تطبيقه هو برنامج يبقى تحت سقف أجندة المؤسسة الملكية وأجندة مجلس الوزراء ما قبل تشكيل الحكومة (استمرارية الدولة وتوازي الشكليات والمساطر والاختصاصات). مما يثبت ويؤكد أن سقف البرنامج الحكومي المزمع تطبيقه يبقى تحت سقف الأجندة الملكية وأجندة مجلس الوزراء السابقين ولكن يمكن للبرنامج الحكومي الجديد أن يغير في سقف البرنامج الحكومي السابق المستقل عن السقف التقريري الأعلى (أجندة المؤسسة الملكية-أجندة مجلس الوزراء)، أو أن يعمل بتوافق مع المؤسسة الملكية على إدخال تغييرات في أجندة الأجهزة التقريرية الأعلى السابقة ولكن في إطار احترام التراتبية المؤسساتية التي ترسخها الوثيقة الدستورية واحترام كذلك مبدأ توازي الشكليات والمساطر والاختصاصات. العقل المركزي للدولة ومسالة تناسق السرعة بين القطار الملكي والقطار الحكومي والقطار الإداري الأجندة الملكية والبرنامج الحكومي يفترضان تناسقا وتناغما بين (الأجندة الملكية-الأجندة الحكومية-الأجندة الإدارية) وبين الثنائية المكونة من (حراس الزمن الطويل-وحراس الزمن القصير)، وعلى اعتبار أن إرادة العقل المركزي للدولة تبحث اليوم عن المصالحة بين الدولة والمجتمع على المستوى التنموي، وتبحث اليوم عن تحسين الموقع الخارجي للمغرب، فإن السؤال المطروح كيف سيتم توحيد السرعة بين القطار الملكي-القطار الحكومي-القطار الإداري؟ تعميم سرعة القطار الملكي تحتاج إلى تطبيق استراتيجية ملأ الفراغ، أو حلول المعين محل المنتخب، أو بعبارة ملطفة مساعدة المعين للمنتخب، وبالتالي الاشتغال تحت سقف إصلاح أخطاء الانتخابات. إذا كانت الولاية التشريعية الثانية بعد دستور 2011، تعتبر ولاية التنزيل الدستوري للحكامة المؤسساتية وتحريك محرك السرعة التدبيرية لمواجهة تحديات المرحلة، فإن هذه المرحلة هيأت كذلك الأجوبة المتعلقة بما العمل في حالة ضعف المنتخب وضعف رجل السياسية، سواء في الموقع الحكومي أو الموقع التشريعي، أو ضعف رجل الإدارة المعين من طرف رجل السياسة المنتخب. لم يتأخر جواب العقل المركزي للدولة عن هذا التساؤل وذلك من خلال استراتيجية ملأ الفراغ من طرف المعين من طرف المؤسسة الملكية لممارسة الاختصاص المتروك أو لتحسين الجودة، وبالتالي أثبت العقل المركزي للدولة أن دورة العقل التدبيري يجب أن تشتغل، فتحديات المستقبل لا تنتظر. استراتيجية ملأ الفراغ طبقت، وهكذا وعندما عجز البرلمان عن التشريع الجيد، فقد تطلب الأمر تشكيل لجنة من أجل صياغة النص المطلوب (التعليم-الجهوية)، التأخر والعجز عن إخراج المراسيم سيتطلب القيام بإخراج المراسيم بمثابة ميثاق (المرسوم بمثابة ميثاق حول اللاتركيز الإداري). كما أن سوء التمثيلية سيتطلب توسيع هامش تحرك المؤسسات الإدارية المستقلة ومؤسسات الحكامة، ومؤسسات الحياد، وتدعيم مواقع القادة المنتخبين بالقادة المعينين. إغراق مناصب المسؤولية الإدارية بالزبائن السياسيين وعدم تطبيق المساواة والبحث عن الأكفأ والأجدر والأحق، وإغراق مناصب المسؤولية الإدارية بالأتباع والموالين والرأي الواحد، سيعجل كذلك بالعمل على تغيير النص القانوني وترسيخ مراقبة المؤسسات المستقلة لسلطة التعيين الموكلة لرئيس الحكومة من خلال نص تعديلي يوجد في طور المصادقة. نوعية الفعل العمومي السياسي والتقريري مرتبطة بشكل وثيق بتناسق وتناغم وتوافق وتطابق المؤسسات التقريرية السياسية (المؤسسة الملكية-البرلمان-مجلس الوزراء-الحكومة)، خلق هذا التناسق والتناغم هو مرحلة أساسية لوضع عربة القطار السريع التنموي على سكتها الصحيحة. الخلاصة من خلال الاقتراع الأخير يوجه العقل المركزي للدولة رسائل للخارج والداخل مفادها أنه نجح إقليميا في قيادة الديمقراطية بينما فشل الجيران (خصوصا التجربة التونسية) في ذلك، وأنه من خلال هذه الديمقراطية (رغم بعض التعثرات) استطاع حسم موقع الزعامة الإقليمية (صراع الزعامة الإقليمية مع الجزائر). حسم موقع الزعامة الإقليمية يؤهله للحسم النهائي للنزاع المرتبط بقضية الصحراء، كما عمل على تحسين موقعه الجيو-استراتيجي مع الجوار الأوروبي (الصراع مع الجارة الإسبانية). كما أن العقل المركزي للدولة من خلال الاقتراع الأخير يوجه رسائل للداخل بأن موقع الريادة للمؤسسة الملكية داخل منظومة اتخاذ القرار السياسي محسوم، وأن هذه القيادة هي التي مكنت المغرب من تحقيق طفرة نوعية خلال المرحلة التشريعية الأخيرة (2016-2021)، وأن السرعة التدبيرية التي ميزت المغرب في النصف الثاني من الولاية التشريعية الأخيرة هي نتيجة لترتيب البيت المؤسساتي الداخلي، وأن استراتيجية الديمقراطية التنفيذية كانت خيارا حقق نتائج مهمة أخيرا وخصوصا في طريقة تدبير أزمة كوفيد. كما أن ترتيب الوضع المؤسساتي، الذي تم من خلال الولاية التشريعية 2016-2021، يعبد الطريق أمام عربة المستوى السياسي والمستوى التنفيذي في المغرب للاستمرار بسلاسة في تصور وتنفيذ السياسات العمومية بشكل يزيد من تقوية الجبهة الداخلية ويحسن من الموقع الجيو-استراتيجي للمغرب. (*) باحث في المالية العامة والعلوم السياسية