يرى المنتصر السويني، باحث في المالية العامة والعلوم السياسية، أننا في عصر يتميز بالنفوذ الكبير التي تمارسه الشبكات الاجتماعية من خلال ممارسة فعل استبداد الأغلبية، وبريق ما يطلق عليها بالسياسة الأصح وتبسيط الخطاب؛ فإن المواقف المتطرفة والتبسيطية تعمل على تفتيت الفكر المعقد، وبالتالي يتميز العصر الحاضر بصعوبة ممارسة التفكير الحر والمستقل. كما يعتبر السويني، في الجزء الرابع من سلسلة مقالاته حول "البحث عن نخب القطار السريع"، أن التمييز بين هذه النخب صار يتم كذلك من خلال ثنائية (حرية الفكر-التبعية الفكرية)؛ فمن وجهة نظره النخب التي تتميز بحرية الفكر "هي النخب التي لا تخضع للفكر الأغلبي، وبالتالي هي حرة اتجاه المجتمع وحرة اتجاه الإيديولوجية السائدة، وهي كذلك اتجاه السياسة، وبالتالي تتمتع بعقل حر وعقلاني؛ بينما العقل التابع هو عقل منفذ عقل خاضع للإيديولوجية السائدة وللسياسة". النخب الجديدة التي يحاول العقل الرسمي المغربي الاعتماد عليها، يضيف السويني، "هي نخب تتواجد بين (نخب حرية الفكر-ونخب التبعية الفكرية)؛ ولكنها نخب تميل بشكل أكبر إلى نخب الفكر الحر على مستوى الإبداع في الإنجاز، حيث إنه وحده الإبداع في التصور والإنجاز من يخول لهذه النخب السفر المتواصل ضمن نخب المعينة بظهير والانتقال من منصب إلى آخر". وهذا نص المقال: تنقسم النخب إلى نوعين، نخب منتخبة ونخب معينة؛ بالنسبة للنخب المعينة وجب التفريق بين النخب المعينة بظهير من طرف الملك، والنخب المعينة بمرسوم من طرف رئيس الحكومة، والنخب المعينة بقرار من طرف الوزراء. وهكذا، فإنه يتم التفريق بين النخب من خلال طبيعة سلطة التعيين أو السلطة الرئاسية؛ التفريق من خلال طبيعة سلطة التعيين يجعلنا نميز بين النخب المعينة من طرف الملك باعتباره دستوريا رأس هرم الدولة. وبالتالي، فإن النخب المعينة من طرف المؤسسة الملكية تستمد قوتها من قوة شكل التعيين، وكذلك من قوة وسمو المهام الموكلة إلى السلطة الرئاسية التي عينتها. هذا التمييز يجعلنا نرتب هذه النخب على الشكل التالي : -النخب المعينة من طرف الملك بظهير -النخب المعينة من طرف رئيس الحكومة بمرسوم -النخب المعينة من طرف الوزير بقرار وإذا كانت النخب المعينة من طرف رئيس الحكومة بمرسوم والنخب المعينة من طرف الوزير بقرار هي نخب تنتمي في غالبيتها إلى الأطر الإدارية التي تتمتع باستقرار وظيفي وانتماء إلى الإطارات الإدارية؛ وبالتالي تتمتع بامتياز الترقي الإداري (الدرجة الإدارية) وكذلك إمكانية الترقي الوظيفي (رئيس مصلحة-رئيس قسم-مدير مركزي-كاتب عام). عكس ذلك، فإن النخب المعينة من طرف المؤسسة الملكية هي نخب لا تتمتع في الغالب بوضعية إدارية قارة (خصوصا بعد الإصلاح الدستوري لسنة 2011 وما ترتب عنه من اقتسام سلطة التعيين بين الملك ورئيس الحكومة)... وهكذا، فإن هذه النخب تتميز في الغالب من خلال نوعية الشواهد المحصل عليها، وخصوصا من مؤسسات التكوين الخارجية (مما يثبت أن خيار المؤسسة الملكية بالاعتماد على النخب النوعية هو خيار لا رجعة فيه).. وفي هذا السياق، فإن التمييز بين النخب المعينة لم يقف عند شكل تعيين هذه النخب، هل هي نخب معينة بظهير؟ أم نخب معينة بمرسوم؟ أم نخب معينة بقرار؟، بل امتد هذا التمييز ليشمل النخب الأكثر حصولا على الدبلومات والنخب الأقل حصولا على الدبلومات والنخب الحاصلة على دبلومات نوعية والنخب الحاصلة على دبلومات عادية، وبالتالي التمييز بين النخب النوعية والنخب العادية. النخب المعينة كانت تبرز للمتتبع أن النموذج المغربي يحاول أن ينفتح أكثر على النموذج المبني على الاستحقاق. كما أن النموذج المبني على الاستحقاق وعلى الشواهد والدبلومات وعلى المناصب العليا الإدارية كان الهدف منه تعزيز المصعد الاجتماعي، وكذلك تعزيز نخبوية النخبة (النخبة الصاعدة من شكل التعيين بقرار إلى شكل التعيين بظهير). نخب الدبلومات العليا لم تكن تؤسس فقط إلى التفريق بين نوعية الشواهد داخل النخب المعينة بالمغرب؛ بل وكذلك إلى تنافس معين بين هذه النخب، من خلال مستوى إنتاج الأفكار والحلول والمخارج، ومدى قدرة هذه النخب على إقناع الرأي العام بنوعية الأفكار التي تقترحها وكذلك مدى قدرة هذه النخب على الانتصار في تقديم الحجج وإبراز مدى متانة وصلابة البناء الفكري المقدم (قوة رد المعينين بظهير على بعض اقتراحات الطبقة السياسية). في عصر يتميز بالنفوذ الكبير التي تمارسه الشبكات الاجتماعية من خلال ممارسة فعل استبداد الأغلبية، وبريق ما يطلق عليها بالسياسة الأصح وتبسيط الخطاب؛ فإن المواقف المتطرفة والتبسيطية تعمل على تفتيت الفكر المعقد، وبالتالي يتميز العصر الحاضر بصعوبة ممارسة التفكير الحر والمستقل. التمييز بين هذه النخب صار يتم كذلك من خلال ثنائية (حرية الفكر-التبعية الفكرية)، النخب التي تتميز بحرية الفكر هي النخب التي لا تخضع للفكر الأغلبي، وبالتالي هي حرة اتجاه المجتمع وحرة اتجاه الإيديولوجية السائدة، وهي كذلك اتجاه السياسة، وبالتالي تتمتع بعقل حر وعقلاني؛ بينما العقل التابع هو عقل منفذ عقل خاضع للإيديولوجية السائدة وللسياسة. النخب الجديدة التي يحاول العقل الرسمي المغربي الاعتماد عليها هي نخب تتواجد بين (نخب حرية الفكر-ونخب التبعية الفكرية)؛ ولكنها نخب تميل بشكل أكبر إلى نخب الفكر الحر على مستوى الإبداع في الإنجاز، حيث إنه وحده الابداع في التصور والإنجاز من يخول لهذه النخب السفر المتواصل ضمن نخب المعينة بظهير والانتقال من منصب إلى آخر. بحث هذه النخب عن الإبداع في الإنجاز والإبداع على مستوى الأفكار، من أجل ضمان استمرارية السفر ضمن النخب المعينة بظهير، يجعلنا نستحضر ما قاله الباحث فيليول سنة 1987 عن نوعية هذه النخب حيث سماها نخب "المسافرون السريون". المسافرون السريون هم نوعية من الأطر التي توجد داخل المؤسسات الموجودة، وتتميز بكونها تعتمد على إستراتيجية تطوير مبدأ النفعية في حياتها العملية. كما أن فيليول قد أقر بأن نخب المسافرين السريين هم نخب ليسوا أنبياء وليسوا شياطين. المسافرون السريون هم أشخاص مروا بالمدارس العليا وبالإطارات العليا، ويعتبر المرور بهذه الإطارات وهذه المدارس بالنسبة لهم كمصاعد سريعة ومريحة تحترم الاستقلالية الشخصية وتضمن النجاح الاجتماعي في الوقت نفسه. المسافرون السريون هم نخب لا يتركز اهتمامهم فقط على المبادئ والقيم المرتبطة بالصالح العام وخدمة الدولة، بل ويضيفون إليها قيم التطوير الذاتي والحركية والبحث عن المزايا أينما وجدت. المؤسسة الملكية عملت على جعل نخبة المسافرين السريين في خدمة الأجندة الملكية من خلال ثنائية (النتائج الإيجابية على الأرض والأفكار الجديدة والابتكار مقابل تطوير الذات والحركية داخل مجال سلطة التعيين الملكي بالإضافة إلى المزايا). المؤسسة الملكية ونخب إقناع المغرب الحقيقي والواقعي يمنح الدستور مجموعة من الوسائل لممارسة المؤسسة الملكية لمهامها الدستورية (الخطاب-التعيين-المجلس الوزاري....)؛ ولكن المؤسسة الملكية من أجل تفعيل الاعتماد على العقل استعملت سلطة التعيين من أجل الاستعانة في ممارسة المهام الدستورية بما يطلق عليهم العلماء أو الخبراء، كل في ميدان اختصاصه وحسب الموضوع المراد القيام بالدراسة حوله. الاستعمال الجيد لسلطة التعيين يعمل على تطوير المؤسسات والتنظيمات، ويمنحها القدرة على مواجهة تعقيدات الحاضر والمستقبل؛ من خلال الاعتماد على ما سمته الباحثة الأمريكية المادة السوداء، أي العقل. وهنا، وجب التأكيد على أن المؤسسة الملكية اليوم تستعمل سلطة التعيين وسلطة اختيار النخب من داخل مظلة الخيار التدبيري النيولبيرالي، حيث يمنح للمعين حرية في اتخاذ القرار وفي استعمال كفاءته وأفكاره وتنزيلها على الأرض الواقع ومطالبته من طرف السلطة التي عينته بالنتائج المحققة على الأرض، بخلاف السابق حيث كانت سلطة التعيين تمارس من داخل مظلة القانون الإداري حيث المعين مطلوب منه تنفيذ الأوامر الرئاسية والولاء واستعمال الوسائل فقط وتنفيذ القاعدة القانونية واحترام المسطرة؛ وبالتالي انتقلت المؤسسة الملكية من الاعتماد على نخب الولاء إلى الاعتماد على نخب النتائج. اللجنة المكلفة بإصلاح مدونة الأسرة2001-اللجنة الاستشارية حول الجهوية -2010-الهيئة العليا المكلفة بالحوار الوطني حول إصلاح العدالة -اللجنة الوطنية المكلفة بإعداد النموذج التنموي سنة2019، تشكيل هذه اللجن من المختصين وذوي الاختصاص في الميدان كان يعني طريقة جديدة في اشتغال المؤسسة الملكية تعتمد على ثنائية (الملك-العلماء والخبراء). وحيث إن نهاية القرن العشرين قد عرفت كذلك خروج مجموعة من الدراسات حول (العالم -المواطن). هذه الدراسات كانت تركز على الاختلاف بين اشتغال العلماء والخبراء والمواطن؛ وبالتالي وأمام عقلانية وتعالي العالم والخبير كان المواطن يعمد هو كذلك إلى التطرف في رده على العالم والخبير.. ومن ثم، برزت إلى الوجود ثنائية (العقلنة والتعالي الذي يميز اشتغال الخبير والمختص- والتطرف في المواقف والذي هو سمة المواطن المراقب)، الموقف المتطرف للمواطن هو الذي دفع مجلة التايمز الأمريكية إلى اختيار شخصية المتظاهر كشخصية لسنة2011. المؤسسة الملكية، ومن أجل الابتعاد عن ثنائية (العقلنة والتعالي -التطرف) الذي يميز سقف اشتغال العالم والخبير وسقف المطالب التي يرفعها المواطن، عمدت إلى ترسيخ اشتغال اللجان المشكلة من الخبراء من خلال الحوار والتشاور مع الطبقة السياسية والمجتمع المدني.. وبالتالي، كانت المؤسسة الملكية تؤسس لطريقة اشتغال جديدة تعتمد على الثلاثية (الملك-العلماء والخبراء-المواطن). المؤسسة الملكية كانت تدرك أن التجارب السياسية في العالم تتوجه إلى الحلول الشعبوية، وأن العصر الحالي هو عصر التيارات الشعبوية في العالم. ومن المعروف عن التيارات الشعبوية أنها تيارات تكره النخب وأصحاب الشواهد، وتعتقد أن المآسي التي تعيشها الشعوب هي نتاج لسياسات عمومية من إنتاج هذه النخب. السوسيولوجي الألماني ماكس ويبير، ومن خلال المحاضرات التي كان يلقيها في جامعة ميونيخ في المدة الفاصلة ما بين 1917-1919 والتي ترجمت إلى الفرنسية من خلال كتاب يحمل عنوان "العالم والسياسي"، حاول الباحث أن يغوص في الاختلافات التي تميز العالم من جهة ومن جهة أخرى السياسي. بالنسبة إلى ماكس ويبير، فإن مهام رجل العلم منظمة في إطار مقاولة، مما يفرق بين العلماء ووسائل الإنتاج؛ فالعالم يتطور في الجامعات والمقاولات العلمية. طريقة اشتغال المؤسسة الملكية الجديدة من خلال الثلاثية الجديدة (الملك-العالم الخبير-المواطن) وإن كانت لا تزال محصورة في ملفات وقضايا معينة إلا أنها قد تتوسع؛ مما يثبت أن الطريقة الجديدة للاشتغال تعمد ضمنيا إلى فتح وتنظيم شبكة التواصل ما بين (المؤسسة الملكية -الخبراء والمختصين-المغرب الفعلي والحقيقي، وهو المغرب الذي يضم الحزب القوي والمشكل من المقاطعين وغير المصوتين والمغرب الشرعي والمغرب القانوني والذي هو مغرب الأحزاب). تصريح السيد والي بنك المغرب عن مغرب الأحزاب لم يكن ت،صريحا عفويا؛ بل كان تصريحا من نخب الحياد، ونخب الاختصاص ونخب الخبرة والمعينة من طرف الملك.. إنها نخب تمثل المغرب الحقيقي والمغرب الفعلي والذي يدخل ضمن الثلاثية (الملك-العلماء والخبراء-المواطن). كما أن تقرير اللجنة المكلفة بإعداد النموذج التنموي الذي أورد أن المواطنين لا يثقون في الأحزاب لا يمكن فصله مطلقا عن رسائل تموقع الحزب الأول والأكبر في المغرب والمشكل من المقاطعين وغير المصوتين ضمن دوائر اهتمام المؤسسة الملكية، وإن هذا الحزب وإن كان غير ممثل في المؤسسات الدستورية للمغرب الشرعي والمغرب القانوني فإن النخب المعينة من طرف الملك هي نخب مطلوب منها التواصل وتحقيق الجزء الممكن من مطالب الحزب الأغلبي والحزب الأول في المغرب (حزب المقاطعين). كما أنه في بعض الأحيان تعمد نخب المغرب الحقيقي والمغرب الواقعي إلى الحديث باسم المغرب المقاطع والمغرب الذي لا يصوت من أجل مواجهة نخب السياسة والأحزاب؛ بل وإن نخب الظهير تشعر بالتعالي والقوة والسمو على باقي نخب المرسوم ونخب الأحزاب ونخب البرلمان، وتتحصن بالتالي وراء قوة شكل التعيين وقوة التعبير عن تطلعات ومطالب (مطالب الحزب الأول، وهو حزب المقاطعين) المغرب غير المصوت والمغرب المقاطع وكذلك المغرب المصوت والمصدوم من نتائج تصويته والمغرب الشرعي الممثل الفعلي للمصوتين فعليا. العقل الرسمي المغربي وتدشين الاعتماد على النخب المعجبة بالنموذج الأمريكي وبداية تراجع النخب الوفية للنموذج الفرنسي إبان استقلال المغرب في سنة 1956، لم تكن فرنسا تمثل فقط البلد المستعمر السابق ولم تكن لغتها تمثل اللغة الثانية؛ بل كانت فرنسا تمثل كذلك مرحلة نهوض إستراتيجية مدعومة، باتفاق روما سنة 1957، وكذلك من خلال إنهاء حرب الجزائر سنة 1962، وكذلك من خلال انتخاب رئيس الدولة بالاقتراع العام المباشر وبامتلاك السلاح النووي.. هذه العوامل مجتمعة كانت تخول لفرنسا مكانة متميزة داخل الحلف الأطلسي. ولاء النخب المغربية المفرنسة في بداية استقلال المغرب كان يجد له تفسيرا في أن فرنسا في تلك الحقبة كانت توجد وتتموقع ضمن القوى الكبرى الرائدة؛ وبالتالي كانت تمثل قاطرة وحلم للنخب المغربية. كما أن فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت تضع بشكل واضح نموذج اقتصادي واجتماعي جديد من خلال التخطيط والتأميم، وخلق الحماية الاجتماعية وتنفيذ برنامج كينيزي للاقتصاد، كل هذا من خلال تمويل مشروع مرشال وكذلك من خلال مشروع قوي للإنتاج والعمل وعدد ساعات العمل في الأسبوع يصل إلى ست وخمسين ساعة. النخب المغربية المفرنسة عملت، منذ بداية الاستقلال، على محاولة نقل التجربة الفرنسية في الحكامة والتدبير. وسيترسخ ذلك بشكل كبير من خلال حكومة اليسار الأولى في المغرب، أي حكومة عبد الله إبراهيم ووزيره في الاقتصاد والمالية المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. عبد الرحيم بوعبيد عمل على الاعتماد على النخب الفرنكوفونية، التي طبقت النموذج الفرنسي في تدبير الاقتصاد والشأن المالي؛ من خلال ترسيخ الحكامة المالية والتدبيرية الفرنسية داخل العقل المركزي المالي بالمغرب، وخصوصا بالنسبة إلى الإدارة المركزية لوزارة الاقتصاد والمالية. الولاء للتجربة الفرنسية في تدبير الشأن المالي والاقتصادي كان يجد أرضية صلبة في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات؛ لأنه كان ينقل تجربة كانت رائدة آنذاك على المستوى العالمي. كما أن العقل المالي المغربي استفاد كذلك من سرعة نقل التجربة؛ فمثلا تم نقل الخطوط العريضة للقانون التنظيمي للمالية المرتبط بالجمهورية الخامسة إلى المغرب في بداية الستينيات، وبالتالي لم يكن الفاصل الزمني لنقل التجربة يتجاوز السنة. فرنسا اليوم عاجزة عن اختراع لقاح لمواطنيها، فرنسا اليوم عاجزة عن اختراع مشروع وطني ولا تتوفر على نموذج اقتصادي قادر على تمكينها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، فرنسا اليوم فقدت التحكم في مصيرها؛ فهي تعتمد على الصين من أجل تلبية احتياجاتها من الموارد الأساسية، وتعتمد على الولاياتالمتحدةالأمريكية فيما يتعلق باستيراد التكنولوجيا، وتعتمد كذلك على ألمانيا فيما يخص تمويل مديونيتها. فرنسا اليوم تراكم أربعة عقود من التراجع، وبالتالي يعمل بعض الباحثين على تصنيفها ضمن بلدان جنوب أوروبا والتي تتميز بإنتاج بنيوي ضعيف ومجتمع يرزح تحت تهديد الفقر والفوارق، بلد مديون حتى النخاع وبلد ضعيف وهو بلد تتوقع له الدراسات والبحوث المستقبلية أن يحتل الرتبة السادسة عشرة أو الرتبة العشرين في ترتيب الدول في أفق سنة 2030. التراجع الفرنسي العام، ومنذ أربعة عقود، جعل العقل الرسمي المغربي يفكر في مظلة جديدة تناسب تطلعاته وسرعته، ومظلة ما زالت تحتفظ بريادتها العالمية.. وهكذا، عمل العقل الرسمي المغربي على فتح النافذة على العقل الأمريكي، والذي لا يزال يحتفظ بالسرعة والابتكار وطراوة الأفكار والإبداع. في كتابها الأخير المعنون ب"حرب الأفكار.. بحث داخل الأنتليجنسيا الفرنسية"، لم تتردد الصحافية الفرنسية اونجيني باستيي في الاعتراف بأن الأفكار والقيم الأمريكية بدأت تغزو بقوة الجامعة الفرنسية، واعتمدت في ذلك على طبيعة البحوث التي يتم القيام بها في العلوم الاجتماعية.. وهكذا، خلصت الباحثة إلى أن أجندة العلوم الاجتماعية قد تم اكتساحها من طرف قضايا العرق والنوع وبروز خلاصات "أفضلية الأبيض".... النجاح الذي تعرفه النظريات الأمريكية داخل الجامعة الفرنسية مرتبط بشكل وثيق بالقراءات المبسطة والسهلة لمشاكل العالم هذا النوع من القراءات، استغل الفراغ الذي تركته الانهيارات التي عرفتها الماركسية. العقل الجامعي المغربي لا يزال منغلقا على ثنائية (المشرق-فرنسا)، وكان بالتالي متأخرا كثيرا عن العقل المركزي المغربي الذي عمل على فتح النافذة على طريقة اشتغال العقل الأمريكي من خلال الارتباط بالقراءات المبسطة والاهتمام بالشخص وتبني الخيار التدبيري المعتمد على النتائج والأهداف ومنح الحرية التدبيرية، وبالتالي لا يمكن إغفال مسألة انفتاح العقل المركزي المغربي على التجربة الأمريكية، ومن خلال ذلك العمل على فتح الطريق إمام مسلسل أمركنة النخب المغربية. الخلاصة في محاضراته التي كان يلقيها في الولاياتالمتحدةالأمريكية بعنوان "الأيديولوجية والمثالية"، يؤكد الفيلسوف بول ريكور أنه، بعد انحسار المثاليات الأيديولوجية، وجب التأكيد على أن المثاليات لا يمكن الانتصار عليها؛ لأنها مورد أساسي للشعوب، ويمكن أن تكون مجالا للهروب ولكنها تمثل سلاح النقد. بول ريكور كان يحاول أن يثبت أن الدورات المتسلسلة للمثاليات في التاريخ العالمي، سواء كانت ثورية أو تحررية أو مجتمعية أو محافظة او ليبرالية، لعبت دورا كبيرا في فتح آفاق نقدية للواقع.. وبالتالي كانت الأنظمة التي توجد في الحكم تمثل الواقعية، وفي الطرف الآخر توجد إرادة التغيير التي يحملها أصحاب التصورات النقدية المثالية. في غياب أحزاب قوية حاملة لمشاريع حقيقية كان التخوف من أن يتحول الرأي العام في المغرب إلى أصحاب المشاريع الشعبوية، وبالتالي كان المتتبعون يتوقعون أن يعمد العقل المركزي المغربي إلى ملء الفراغ التي تركته الأحزاب. ملء الفراغ كان يتطلب من العقل الرسمي المغربي الانتقال من سقف عقل الحكمة والاستقرار إلى سقف عقل المثاليات، بالإضافة إلى عقل الحكمة.. وهكذا، ومن خلال مجموعة من التقارير، كان العقل المركزي للدولة يفتح طريق المثاليات ويسحب بالتالي بساط امتلاك سلطة المثاليات وسلطة تصور المستقبل من الأحزاب والتيارات السياسية. من خلال الحكمة كان العقل المركزي للدولة يؤكد أنه الوحيد الذي يمتلك سلطة إفراز الحل الأنسب والحل الواقعي والحل الذي يحمي الجميع. في كتابه الصادر سنة 2021 تحت عنوان "ميثاليات العالم.. الحكيم والاقتصادي"، يؤكد الاقتصادي جون جوزيف بوالوط أن الاقتصاد يجب أن يتم اختراعه من جديد من خلال الاعتماد على مورد المثاليات. العقل الرسمي المغربي، ومن خلال بعض المشاريع وبعض التقارير وموضوع بعض الخطابات (موضوع الثروة- العدالة الضريبة-مجتمع الفوارق -تقرير الانصاف والمصالحة- بعض اقتراحات المجلس الاقتصادي والاجتماعي)، كان يثبت أنه، وكباقي الأنظمة في العالم، له أحلامه وله مثالياته وأن المغرب الممكن لا يمكن أن يصنع دون مثاليات ودون حكمة (وبالتالي، فإن الانتقاد التي يوجهه بعض السياسيين لعدم تطبيق مجموعة من التقارير وموضوع بعض الخطابات يجد تفسيره في نظرنا إلى عدم استيعاب أو عدم فهم ما قاله الإمبراطور والفيلسوف الروماني مارك أوريل – أتمنى أن أمنح القوة لتحمل الذي لا يمكن تغييره، والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره وكذلك الحكمة للتفريق بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره- ولم يفهموا كذلك اعتماد المؤسسة الملكية على ثنائية (المثاليات-الحكمة). بعض الإجراءات والسياسات العمومية والفعل العمومي بشكل عام كان يأخذ طابع الحكمة، وكما قال الإمبراطور والفيلسوف الروماني مارك أوريل – أتمنى أن أمنح القوة لتحمل الذي لا يمكن تغييره، والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره وكذلك الحكمة للتفريق بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره-، والحكمة بالنسبة إلى غالبية الأنظمة في العالم هي القدرة على التفريق بين ما يمكن تغييره وما يمكن تحمله إلى غاية امتلاك القدرة على تغييره، لم تكن حكمة العقل الرسمي المغربي بعيدة عن حكمة الإمبراطور والفيلسوف الروماني. العقل الرسمي المغربي كان يعي كذلك بأن ثنائية المثاليات والحكمة تحتاج إلى إعادة النظر في تكوين وترتيب وسرعة ما يطلق عليه "الكتلة النخبوية"؛ من خلال الانتقال بهذه الكتلة النخبوية من نخبة قيادة سفينة التيتانيك إلى النخبة التي تحاكي نخب قيادة القطارات السريعة، من جهة ومن جهة أخرى العمل كذلك على التفوق في القيام بالتشريح الدقيق والحقيقي للأعطاب والعوائق التي تمنع المغرب من احتلال المكانة اللائقة به. هذا لا يعني أن "الكتلة النخبوية" تملك عصا موسى؛ ولكن "الكتلة النخبوية" التي أشرفت مثلا على مشروع "طنجة المتوسط" كانت نخبة مغربية صرفة عملت على بناء مونتاجات تكنوقراطية ومالية وهندسية تفوقت فيها على بناءات تكنوقراطية ومالية وهندسية أوربية وآسيوية، باعتراف الخبراء الأجانب. الاعتماد على نخب الأفكار ونخب الحضور ونخب السرعة كان يعني أن الدور الأساسي المنوط بهذه النخب هو الاجتهاد والابتكار والإبداع من أجل القدرة والتمكن من قيادة نخب السياسة (البرلمان-الحكومة-الأحزاب).. وبالتالي، التأكيد على ما قاله الاقتصادي النمساوي الشهير جوزيف شومبيتر فيما يخص العلاقة بين نخب التكنوقراط والديمقراطية، حيث أكد أنه ليس المطلوب من نخب التكنوقراط فقط الفعالية في إنجاز مهامها والقدرة على تقديم النصيحة للطبقة السياسية؛ بل المطلوب منها أن تتمتع بالقوة من أجل قيادة رجال السياسة. العقل الرسمي المغربي، من خلال إخراج مشروع النموذج التنموي للوجود قبل المواعيد الانتخابية، كان يعمل على تحديد السقف والأجندة الرئيسية للنقاش في المواعيد الانتخابية؛ وبالتالي يحتكر سلطة إنتاج أجندة المستقبل، ويعمل على صياغة الحلم التنموي للمغرب الممكن في مواجهة الحلم الشعبوي والنخب الشعبوية ونخب العموميات ونخب التيتانيك.