أعترف لحضراتكم أنني وقعت في حيرة من أمري حين حاولت البحث عن معنى "الرجولة" التي قال رئيس حكومتنا الموقرة إن هذه الجريدة تفتقد إليها. قال السيد ابن كيران، والعهدة على هسبريس، إن صحافيي هذه الجريدة "ماشي رجال". (أترجم: "ليسوا رجالا")، لمن يعلم أن للكلم معنى. والحق أنني كنت ألتمس الأعذار للرجل، في غضباته الكثيرة المتتالية، وكنت أحاول أن أدرك حجم المسؤوليات التي ينوء بحملها، فأحدث نفسي أن السيد ابن كيران رجل يمارس السياسة "على السجية"، معتقدا أن تلك مزية تقربه من قلوب الناس وقد عافوا لغة الخشب السمجة الممجوجة التي شنفت أسماعهم لعقود.. ولطالما أقنعت نفسي أن الرجل صادق في دعواه يحب الخير لبلده، وإن أعوزته دبلوماسية رجل الدولة الذي يعرف متى يتكلم وكيف ولم ومع من ولأجل أي هدف. وكنت أقول إن العبرة بالقلب لا بالقالب، وبالنوايا الحسنة لا بالتصريحات الغضوبة في لحظات النرفزة العابرة. ولكم أُعجبت في بدايات هذه الحكومة بلغة ابن كيران الواثقة واعتداده الظاهر بنفسه ودفاعه المستميت عن حزبه وحكومته، وكنت أردد في قرارة نفسي أن أهم إنجاز يمكن أن يحسب لهذا الرجل أنه حطم العبارات الجاهزة وكسر الجمل الرتيبة التي طالما "أتحفنا" بها سياسيونا الموقرون. ورغم قتامة الواقع الذي لم يتغير إلا شيئا يسيرا قياسا إلى كم الوعود التي بشرت المغاربة ذات انتخابات، فإنني ظللت قابضا على جمر الصبر أنتظر تحقيق موعود السيد بن كيران حين خاطبتني شعارات حزبه: صوتك فرصتك للقضاء على الفساد.. وكان منتهى ما بلغ صوتي (فرصتي..) أن قرأت في الصحف لوائح مواطنين يملكون مأذونيات وآخرين يحتلون السكن الوظيفي وسمعت رئيس الحكومة في البرلمان يتحدث كثيرا عن الربيع العربي وعن حزبه وأشياء أخرى كثيرة لا أذكرها. وكنت أقول، برغم الأزمة المستفحلة، إنه ليس من المروءة ولا من الشهامة في شيء أن تُستل سهام النقد وتوجه، ضربة لازب، صوب رئيس الحكومة.. وكأنه يملك عصا موسى أو خاتم سليمان، لا سيما في الشهور الأولى من عمر حكومته. غير أن توالي الأحداث بيّن أن بضاعة الكلام كاسدة في سوق الإنجاز وأن العبرة بما نراه رأي العين لا بما تسمعه الآذان. ولقد وددت، علم الله، أن تنجح تجربة السيد ابن كيران من أجل بلدنا، لا لأجل حزبه، غير أن خيبات الأمل المتواترة باتت تهمس في أذني، ملء الفم - إن كان للخيبة فم - أن الحكومة التي يرأسها السيد ابن كيران طوّرت المغرب فعلا.. على مستوى "الخطاب" و"تضخيم الانتظارات".. ثم لا شيء. على سبيل الختم إن "الرجولة" (ديال بصح) التي لا تنعكس في حياة الناس رخاءً ورفاها واحتراما لحقوق الإنسان وكرامته لهي محض كلام في الهواء. وإن نزع هذه الصفة عن فئة من الناس ليس سوى نفخا في نار التوتر والاحتقان، أيا كانت المبررات. وهو، لعمري، عين العبث، حتى لا أقول شيئا آخر..