أصبحت الحكومة الجديدة شبه جاهزة ولم يعد منتظرا سوى الإعلان عنها. فبعد مخاض طويل وصعب سوف يتمكن المغاربة أخيرا من التعرف على الصورة النهائية لحكومتهم، لكن بقي شيء واحد لن يعرفوه: ماذا ستفعل بهم هذه الحكومة؟. قبل أسبوع كنت أستقل سيارة أجرة. كان السائق غاضبا بسبب فاتورة الدخول المدرسي وارتفاع اللوازم المدرسية وانتشار المؤسسات التعليمية الخاصة بحيث حتى البسطاء أصبحوا يدرسون أبناءهم فيها، وهو واحد منهم. قال إن طفلا واحدا اليوم يتطلب من المصاريف ما كان يتطلبه عشرة أطفال في زمنه عندما كان في المدرسة. قال إن الوقت أصبح صعبا وإن أية حكومة لن تستطيع أن تفعل شيئا لأن الناس تدربوا على أمور من العسير إقناعهم بعكسها. وعندما طلبت منه توضيحا أكثر سألني وكأنني أنا السائق:"من أين ستبدأ الحكومة إذا أرادت الإصلاح؟". سألته عن توقعاته من الحكومة الحالية وما إن كان متفائلا، فرد علي وهو يتابع الطريق بعينيه بحثا عن زبون آخر:"حكومة الفقيه تعرف فقط أن ترفع الأسعار". وعندما رآني ساكتا فهم أنني أستوضح، فقال:"نحن نسمي بنكيران الفقيه"، ثم ضحك. جميع المغاربة اليوم في وضع هذا السائق. قد يجد زبونا وقد لا يجد، لكنه يضطر كل يوم لكي يمسح الطريق ذهابا وإيابا عساه يظفر بزبون ينتظر سيارة أجرة. جميعهم اليوم هذا السائق لأنهم في وضعية انتظار مستمرة، تماما كالسائق الذي ينتظر دائما من يوقفه لكي يعيش. لنتصور كيف هو شعور المغاربة اليوم وهم يواجهون مصاريف الدخول المدرسي، وفي نفس الوقت تتهاطل عليهم الأخبار التي تقول بأن الحكومة تعتزم الرفع من أسعار المحروقات للمرة الثانية، وأن أسعار المواد الأساسية يمكن أن تشهد ارتفاعا صاروخيا. هناك جو خانق في المغرب. لذلك هناك اهتمام قليل بالمفاوضات بين حزبي العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار حول النسخة الثانية من الحكومة، وفي ما يزيد عن ثلاثة أرباع المغرب الانشغال الأساسي للمواطنين هو الحياة اليومية التي صارت أكثر فأكثر صعوبة. وحدهم الصحافيون من يهتم بهذا النوع من الأخبار بسبب مهنتهم لا لشيء آخر. ومرة أخرى نعود إلى صاحب سيارة الأجرة. فعندما صوت المغاربة على حزب العدالة والتنمية كان ذلك على أساس أن الحكومة الجديدة ستقودهم في الاتجاه المقابل، لكنها اليوم تسير بهم إلى الخلف. إذ بعد نحو سنتين بدأت الاختيارات الاجتماعية والاقتصادية تتضح بشكل لا نحتاج معه إلى منظار مكبر. فقد عرف المغاربة حجم ما تستطيع هذه الحكومة فعله، وهو الزيادة في الأسعار ووضع المزيد من الحطب في وقود المعاناة الاجتماعية اليومية للمواطن، وتغليف كل هذه السياسات بخطاب شعبوي هجومي يتحلى بالقدرة والصلافة على الدفاع عن تلك الاختيارات بدم بارد. ولأول مرة نرى هذه المفارقة، وهي أن هناك حكومة تضغط في الملف الاجتماعي وفي نفس الوقت تتحدث عن الإصلاح، وهو أسلوب غير معروف سوى في تقارير البنك الدولي حينما يريد هذا الأخير إقناع الدولة بنهج اختيارات لاشعبية وكارثية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي بدعوى الإصلاح أو التقويم. فلسان هذه الحكومة يقول للمغاربة: لقد جئنا من أجل الإصلاح وتقويم الأوضاع، لكن مشكلتنا أن خياراتنا محدودة جدا، والخيار الوحيد الذي أمامنا هو أنتم، لذا عليكم أن تصبروا قليلا إذا وخزناكم. ارجعوا إلى تقارير البنك الدولي، وسوف تعرفون كيف يسوق سياسات فاشلة بحجة تعبيد الطريق لمستقبل زاهر، لأنه يريد أن يشتري من المواطن لكي يبيع للدولة. لقد رفعت الحكومة الحالية وعودا كثيرة جعلت المغاربة في البداية يصفقون لها، لكن البرنامج الذي وعدت به أصبح بلا حكومة بينما صارت الحكومة الحالية بلا برنامج. وما يثير المخاوف هو ذلك الاحتمال الذي يقول بأن الحكومة الحالية تريد أن تجعل الطريق سالكة أمام برنامج جديد وضع لها كان يحتاج إلى قوة سياسية قادرة على تمريره، هي حزب العدالة والتنمية. ففي التسعينات من القرن الماضي، بعد ثلاث سنوات من ذلك التقرير المدوي للبنك الدولي، وجدت الدولة نفسها في حيرة بخصوص الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تريد تطبيقها، وعندما جاءت حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبد الرحمان اليوسفي وفرت الغطاء السياسي لتنزيل تلك الاختيارات. وكان من جملة تلك الاختيارات مسلسل الخوصصة الذي انخرط فيه الاتحاد الاشتراكي حتى النهاية، وشاهد الناس فتح الله ولعلو الذي كان يحول منصة البرلمان إلى منبر للاشتراكية والسياسة الاجتماعية وقد أصبح عراب ذلك المسلسل، حتى إن نوبير الأموي، النقابي العتيد وقتها، أطلق على عملية الخوصصة، أي تفويت مؤسسات الدولة إلى القطاع الخاص، عبارة"الخصخصة"، أي بيعها إلى الخواص. الحكومة الحالية تحدثت كثيرا باسم الشارع وقالت مئات المرات إنها تنصت إليه. اليوم يبدو واضحا أنها لا تنصت إلا إلى نفسها، تماما مثلما فعلت حكومة اليوسفي الذي خرج مئات المواطنين أمام البرلمان لكي ينتظروا التصريح الحكومي الأول الذي ألقاه في أبريل 1998، في احتفال لم تشهده أي حكومة أخرى. ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن، لا يزال سائق سيارة الأجرة ينتظر من يوقفه لكي يعيش.