تفكير في الترجمة وقضاياها ووضعها بالمغرب وأفقها المأمول شكل موضوع يوم دراسي نظمته أكاديمية المملكة المغربية، الثلاثاء، في إطار أنشطة الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة. ينظم هذا اليوم الدراسي، الذي احتضن جلسته الافتتاحية مبنى الأكاديمية بالرباط، بمناسبة اليوم العالمي للترجمة، وتعقد جلستاه التاليتان اليوم الأربعاء، ومن المرتقب أن تنظم في إطاره ورشة تفكير مغلقة أولى، تجمع مراكز للتفكير ومختبرات للبحث، على أساس التحضير لورشات أخرى. ويأتي هذا النشاط بعد صدور القانون الجديد لأكاديمية المملكة في الجريدة الرسمية، وبعدما أحدثت بموجبه هيئتان جديدتان في إطار الأكاديمية، هما "الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة" و"المعهد الأكاديمي للفنون"، فضلا عن إلحاق "المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب" بها. وفي الكلمة الافتتاحية لهذا اليوم الدراسي، وقف عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عند "الخصاص الذي يعرفه حقل الترجمة في السياسات العمومية"، والعزم المرتبط بتأسيس "الهيئة العليا للترجمة" التابعة للأكاديمية ل"المساهمة في تجاوز وضعية الممارسة الترجمية في المغرب، وتوفير شروط النهوض بها". ورغم "المجهودات الرائدة للمثقف المغربي" في مجالات من بينها الترجمة، يرى لحجمري أن "الحصيلة تبقى متواضعة، في غياب الاهتمام المؤسساتي الذي يجعلها عماد النهضة"، قبل أن يسجل أن "الوقت قد حان" ل"مواجهة المفارقة التي نعيشها في بلادنا" بين النخبة التي تلقى جهودها استحسانا في محيطها العربي، وبين "ضعف المنتوج الترجمي للغاية". واستحضر أمين السر الدائم للأكاديمية حرص الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي على إدخال الترجمة كمادة رئيسية للتمكن من اللغة والمعرفة بالمذاهب الفلسفية، ووصفها ب"العملية التعليمية الرائدة"، التي تمكن من اكتساب اللغة واكتشاف عوالم ثقافية مغايرة، كما دعا إلى الاقتداء بها. وفي محاضرته الافتتاحية، تحدث الأكاديمي والمترجم إبراهيم الخطيب عن أهمية الترجمة في العصر الحاضر حيث لم تعد مهمتها النقل فقط، بل تنمية الوجود الإنساني، وعرّج على تحولات علاقة المغرب باللغات الأوروبية، خاصة الفرنسية، مع الإشارة إلى مرحلتي التباطؤ في الترجمة ثم "فورة الثمانينات"، وتوقف عند تجربته في الترجمة النقدية والأدبية، قبل أن يختتم محاضرته بالتأكيد على أن "المدخل الحقيقي إلى إعطاء الترجمة موقعها"، يكون ب"إعادة النظر في مسألة الثقافة بأكملها" في المغرب. ولا يرى المترجم أن "رجة" قد حدثت بعد عودة المبعوثين إلى أوروبا، وتعلم مقربين من السلطة اللغات الأجنبية، ودخول أول مطبعة عربية إلى المملكة، بل يعتبر هذه المحطات في القرن التاسع عشر "خميرة لما سيحدث بعد ذلك". وتحدث إبراهيم الخطيب عن مرحلة "التباطؤ في الترجمة" في القرن العشرين، واكتفاء البلاد بترجمات مصر ولبنان، التي سرعان ما تراجعت الاعتبارات الفكرية والجمالية فيها لصالح الاعتبارات الإيديولوجية بالمشرق العربي، قبل أن تحد الحرب الأهلية اللبنانية من تطلعات هذا البلد ل"لعب دور متميز بالعالم العربي من خلال الترجمة". وابتداء من سنوات السبعينات، يورد الأكاديمي والكاتب والمترجم المغربي: "عرفت حركة الترجمة بالمغرب تحولا مهما"، وحضرت في سوقها مؤلفات مترجمة مغربيّا تنتمي إلى حقل العلوم الإنسانية، قبل فورة الثمانينات مع مجموعة من المجلات ودور النشر الجديدة التي رأت النور آنذاك". وقدم الخطيب المثال بعناوين ملفات لمجلة اتحاد كُتّاب المغرب "آفاق"، كانت مضامينها تدرس للطلبة، وتسهم في "نقل مجموعة من المفاهيم إلى السياق النقدي المغربي"، ولو أنها "لم تخلُ من مخاطر كان المترجمون على وعي بها (...)، أبرزها المصطلح النقدي، وفعاليته على مستوى الممارسة". ويرى المترجم المغربي أن الترجمة أبرز آليات "تجاوز منطق العزلة والفكر الواحد"، والانتقال إلى "وضع سوي"، وقال إن "المدخل الحقيقي لإعطاء الترجمة موقعها المناسب يرتبط ارتباطا وثيقا بإعادة النظر في مسألة الثقافة برمتها؛ من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ هل يكفي الركون إلى أصالة وهمية وتحصين أنفسنا دونَ العالَم وضدّ العالَم وأن نجترّ حساباتنا الذاتية؟ أم أننا كمجتمع يسعى إلى تحديث مكونات رؤيته، مطالبون أن نضع على عيوننا نظارات الآخرين لفهم منطقهم وإيجاد فسحة لنا للنظر إلى ذواتِنا عبرهم؟". ورغم إرادة التفتح والاكتشاف، وما راكمته الترجمة بالمغرب، و"وجود ناشرين لا يترددون في إيلاء المترجم مكانه اللائق"، إلا أن إبراهيم الخطيب يتساءل: "لماذا نحس أنه لا يوجد نسق؟ (...) ولماذا لا يوجد سياق مؤسّسي، تكون غايته إحلال الترجمة في صلب إرادة الحوار والتنوع؟ ولماذا نفتقر لآليات فعالة لإبراز الدور التنموي للترجمة؟"، قبل أن يؤكد أنه "لا مفر من أن تقوم الدولة بمسؤولياتها الثقافية، كآلية لتسيير الشأن العام"، بأمور من بينها "هيكلة حقل الترجمة، ودعمه ماديا، وإيجاد منافذ للتعاون الثقافي مع الدول الأجنبية". واختتم الأكاديمي محاضرته الافتتاحية بالاستشهاد بقول الأديب خوسيه ساراماغو: "إنّ الكُتّاب إذا كانوا صانعي أدب أمّتهم، فإن المترجمين يصنعون الأدب العالمي؛ إذ إنهم يوسعون دائرة استقبال الأدب عبر إعادة كتابته وإذاعته بين قراء المعمور، ما يجعلهم فئة يساوي دورها على الأقل دور الكُتّاب أنفسهم إن لم يَفُقْهُ".