المدن ثلاثة أصناف: مدن ملحاحة لا تكل أبدا ولا تمل من محاولة اجتذابك، وهي تستخدم في سبيل ذلك طرق إغراء متعددة ومتنوعة، ولا يهدأ لها بال قبل أن تدفعك إلى أن تشد الرحال إليها؛ ومدن أقل إلحاحا لا تستعجلك في زيارتها، وإنما تصبر عليك، وهي تعرف أنك قادم لا محالة، طال الزمن أم قصر، ومدن غير ملحاحة، تشعر بأنها لا تسعى إليك، ولا تتزيّن لك، ولا تراودك عن نفسك، رغم أنها تنتظرك، فإذا أقبلت قبل موعدك تجدها تنتظرك، وإذا أقبلت بعد موعدك تجدها تنتظرك. تنتمي مدينة العرائش إلى هذا الصنف الأخير من المدن. أن تختار الذهاب إلى العرائش هو نوع من المغامرة، فليس ثمة شيء يجذب فيها؛ على الأقل، هذا ما قيل لك غير ما مرة. وعلى الرغم من أن ما يقال غير مشجع بالمرة فإنك تصم أذنيك وتذهب. بيد أنك بمجرد ما تدخل مجال المدينة تجدها تمد يدها الخفية لتعيد ضبط نبضات قلبك، فتفاجأ به يخفق على إيقاعها؛ مشيتك ذاتها تتغير، إذ تصير خطواتك، على غير عادتها، بطيئة. يسرقك من نفسك سحر المدينة، ولا تجد له تفسيرا، وعلى السور الذي يطل على منحدر يمتد إلى البحر تقرأ عبارة: "أنا العرائش". هكذا أنا العرائش وليس هنا العرائش. ينكشف لك السر، سر مدينة واثقة من نفسها، مدينة تحتفي بذاتها، ومن أجل ذاتها، وتحتفل في كل يوم بميلاد جديد. مدينة ساحرة، وهي تعرف أنها كذلك؛ هي غنية بذاتها، ولا تبحث عنك، ولا تعرض جمالها عليك، لكن عندما تذهب إليها من تلقاء ذاتك فإنها تعرف كيف تبهجك وتسعدك، لا يبقى أمامك خيار آخر غير أن تسلّم أمرك لها، وتستسلم في فرح. مدينة تسبح كيفما شاءت على مرأى أهلها وزوارها، والبحر أمامها يمتد كبساط أزرق لا متناه، هو ذاته لا يملك إلا أن يستمتع بها؛ يبدو سعيدا بها بقدر ما هي سعيدة به، تغار منه، وتود أن تعانقها مثله، لكن يداك لا تطال خصرها. في ساحة "باب لبحر" الفسيحة تعجب كيف تم تنظيم أحياء المدينة، بحيث تتدرج الدور تصاعديا دون أن تحرم الواحدة الأخرى حقها في رؤية البحر. في العرائش حتى المقابر تطل على البحر. في الحقيقة، هذا شيء لا يخص العرائش وحدها، إذ يوجد في مدن ساحلية أخرى أهمها مدينة الرباط، ويرجع ذلك إلى أن مكانة البحر اليوم تختلف كثيرا عما كانت عليه في السابق. إذ لم يكن البحر قديما فضاء للمتعة والترفيه والاستجمام. في الوقت الراهن، لا ريب في أن لعاب المستثمرين يسيل على تلك الأراضي-المقابر التي يمكن أن تبنى عليها مشاريع اقتصادية مربحة بفعل موقعها الإستراتيجي، لكن الموتى يرفضون الرحيل، ويتشبثون بحقهم في الأرض التي وهبوا إياها. في الواقع، ما أسعد موتى يعيشون موتهم قبالة البحر. في مدينة مثل العرائش يتحول الشغف إلى أسئلة، تود أن تعرف كل شيء يخصها، ودفعة واحدة، تسأل وكل سؤال تتناسل منه أسئلة أخرى، وهناك دائما من ينصت إليك، ويتفاعل معك، ويجيب بسعادة عن أسئلتك. تلتقي في طريقك بأناس ينطبق على كل واحد منهم قول الشاعر "كأنك تعطيه الذي أنت سائله". أنت غريب لكن تنسى سريعا غربتك. يبدو أن حتى السمك في ميناء المدينة لا يشعر بالغربة، إذ ألف وجوه الصيادين والزائرين على حد سواء، فهو يتحرك، بحرية تامة، في مجموعات، كبيرة وصغيرة، قرب رصيف الميناء، بين قوارب الصيد وحولها. ليكسوس هو الاسم القديم للمدينة؛ ففي هذه المنطقة شيد الفنيقيون قديما مدينتهم التي يعني اسمها "التفاحات الذهبية"، مدينة لا أحد يعرف أين ينتهي الواقع في تاريخها وأين تبدأ الأسطورة. يوجد في المدينة اليوم مقهى يحمل الاسم ذاته، عندما تدخل إليه تجد نفسك في معرض للصور الفوتوغرافية باللونين الأبيض والأسود. تحكي تلك الصور، من بين ما تحكيه، تاريخ المدينة الحديثة، بداياتها وتطورها. إلى جانب الصور توجد آلات موسيقية مختلفة يتوسطها بيانو قديم. تجلس، وليلى قبالتك، تستمع وتستمتع بأغان إسبانية هادئة، قبل أن يصلك صوت بول إينكا، وهو يغني:Put your head on my shoulder. تتساءل: هل هو طلب؟ أم رجاء؟ أم عتاب؟ أم تردد أمام الحب؟ أم رغبة؟ أم خوف؟ أم شيء آخر؟ وتجيب: هو، على الأرجح، مزيج من كل ذلك. يعود تاريخ المقهى إلى سنة 1920، أي إنها تأسست بعد ثلاث سنوات تقريبا من مقهى الوداية بالرباط، وسنة واحدة قبل مقهى الحافة بمدينة طنجة، وسبع سنوات قبل مقهى ساحة فرنسا بمدينة طنجة أيضا الذي صُنف من بين الخمسين مقهى الأفضل في العالم، لكنها لا تستفيد من تدخل واهتمام وزارة الثقافة؛ صحيح أنها في ملكية خاصة، لكنها في الوقت نفسه تعتبر جزء لا يتجزأ من تاريخ المدينة، ومن ذاكرتها، لذلك من المهم أن تدخل في إطار التراث الوطني، والإنساني أيضا، الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته.