سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شارع الحرية يربط ما بين المدينة العتيقة بأزمنتها الهادئة.. وطنجة الحديثة بضجيجها وصخبها تجاره اليهود والهنود رحلوا دون عودة.. وهو اليوم جزء من ذاكرة مدينة تجري بلا كوابح
نادرة هي الشوارع التي تضم بين جنباتها الكثير من عبق التاريخ والكثير من المعالم التي تؤرخ لزمن مضى... زمن راح ولن يعود. شارع الحرية في طنجة يشبه متحفا للماضي لكن من دون صور. إنه الشارع الذي تحول في وقت من الأوقات إلى ما يشبه القنطرة ما بين الماضي والحاضر، ما بين المدينة العتيقة بأزمنتها الهادئة والرتيبة، وبين المدينة الحديثة بصخبها وضجيجها. شارع الحرية لا يزال إلى اليوم يعني الشيء الكثير بالنسبة إلى تاريخ مدينة تتغير باستمرار. طنجة اليوم أصبحت مختلفة تماما عن ماضيها، إنها تتغير بسرعة الضوء وتجري بلا كوابح، لكن شارع الحرية يظل مثل رجل عجوز يحكي أشياء كثيرة عن تاريخ هذه المدينة الغرائبية التي تشبه مطحنة كبيرة، لكنها مطحنة بشر. يبدأ الشارع من الجهة العليا، أي من جهة البوليبار، بمعلمتين أساسيتين في تاريخ المدينة. على اليسار توجد القنصلية الفرنسية، وعلى اليمين مقهى باريس، أما الساحة فاسمها ساحة فرنسا، والناس يسمونها «ساحة الخصّة»، أي ساحة النافورة، لأنه توجد في الوسط أقدم نافورة في المدينة، وربما كانت الوحيدة في تاريخ المدينة قبل أن تظهر أخيرا العشرات منها في حدائق وساحات كثيرة. وقرب النافورة مقهى اسمه «مقهى فرنسا». هكذا توجد في منطقة واحدة القنصلية الفرنسية وساحة فرنسا ومقهى باريس ومقهى فرنسا، إنها منطقة فرنسية بامتياز. القنصلية الفرنسية في طنجة عرفت على الدوام أحداثا كثيرة، وكانت خلال العهد الدولي واحدة من الممثليات الدبلوماسية الأكثر نشاطا. في مبنى ملاصق للقنصلية توجد قاعة «دي لاكروا» حيث يعرض الفنانون لوحاتهم وأعمالهم الفنية. من هذه القاعة مر فنانون تشكيليون كثيرون نحو العالمية. قبالة القنصلية على اليمين هناك مقهى باريس الذي جلس على كراسيه كتاب ومشاهير ثم غابوا وتركوا مكانهم لسماسرة التأشيرات والأراضي والمنازل وعابري سبيل يرتاحون، وأيضا المتلصصون على سيقان النساء وصدورهن، أو عاهرات جئن من كل مكان ويجلسن في مكان قصي ينتظرن حظهن مع رجال أكثر بؤسا منهن. بضع خطوات نحو الأسفل يوجد أحد أقدم فنادق المدينة. إنه فندق «المنزه» الذي لا يزال إلى اليوم يستضيف شخصيات كبيرة تزور المدينة سواء من أهل السياسة أو الفن أو الرياضة. قبالة فندق «المنزه» كانت توجد واحدة من أعرق المدارس التي بناها المغاربة من أجل الصمود أمام التعليم الأجنبي الذي جلبه الاستعمار. كانت مدرسة «مولاي المهدي» معلمة في مجال التعليم المغربي الأصيل الذي يهدف إلى مقاومة التعليم الأوروبي الذي لم يكن سكان المدينة ينظرون إليه بكثير من الارتياح. وعندما زار الملك الراحل محمد الخامس طنجة عام 1947 لإلقاء خطابه الشهير في ساحة 9 أبريل، فإنه زار هذه المدرسة التي كانت تمثل رمزا للحفاظ على الهوية المغربية في مدينة تتنازعها الهويات والجنسيات والحمايات والثقافات واللغات. كان مرور محمد الخامس من هذا الشارع في وقت حساس من تاريخ المغرب سببا لكي يتحول اسمه إلى «شارع الحرية»، لأنه على بعد خطوات منه ألقى الملك خطابه الشهير داعيا القوى الأوروبية إلى منح المغرب استقلاله بعد أن وعدت فرنسا المغرب بمنحه الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن شارك الكثير من المقاتلين المغاربة إلى جانب فرنسا في الحرب وسالت أنهار من دمائهم لصالح مستعمرهم. أولئك المساكين كانوا وقودا في حرب ليست لهم. والغريب أن المدينة التي ألقى منها محمد الخامس خطاب الدعوة إلى الحرية والاستقلال هي المدينة نفسها التي نزلت إلى أسفل اللائحة بعد الاستقلال وضربها التهميش قرابة نصف قرن من الزمن. ينزل المار عبر شارع الحرية قليلا أسفل الفندق فيجد بناية كانت قبل سنوات مكتبة عامة يؤمها الطلاب من كل أطراف المدينة لكي يغرقوا بين صفحات كتبها القديمة باحثين عن مراجع ومعلومات. اليوم تنتظر تلك المكتبة مصيرها. كثيرون يخافون أن يتم تفويتها لأحد أغنياء الحرب ليفتح فيها مقهى أو مطعما أو متجر مثلجات، وآخرون يقولون إن هذه المكتبة سيتم افتتاحها في حلة جديدة وستكون عبارة عن مكتبة متطورة تعيد إلى المدينة بعض وهج الماضي. عموما، ليست هذه المكتبة آخر ما يخاف الناس فقدانه، فهذه المدينة فقدت كل شيء إلى درجة لم يعد لديها ما تخاف عليه. في الجانب السفلي من المدينة توجد متاجر كثيرة ومطاعم ومقاه ومستودعات أغذية ومخازن أحذية واستوديوهات تحميض الصور.. وأشياء أخرى. أغلب هذه المتاجر كان يملكها يهود وهنود خلال العهد الدولي للمدينة. كان أغلب هؤلاء يشتغلون في تجارة مربحة ويضيفون إليها أنشطتهم المالية في صرف العملات. هكذا صنع الكثير منهم ثروات كبيرة في عز «الغفلة» ثم رحلوا عندما جاء عهد الحرية والاستقلال. كل واحد يفهم حريته واستقلاله على هواه، والاستقلال الذي لا يأتي بالمال ليس استقلالا، لذلك هجر الكثيرون من هؤلاء بضع سنوات بعد خروج القوات والجاليات الأجنبية. كانوا يعرفون بحدسهم التجاري المحض أن مستقبل المدينة على كف عفريت... وكذلك كان. اليوم، لم يبق في هذا الشارع غير هندي واحد يبيع الساعات والآلات الإلكترونية وتثور أعصابه لأقل الأسباب. ربما لم يغادر طنجة لأنه لم يجد مكانا آخر أفضل يذهب إليه. في طنجة شوارع أخرى كثيرة، شوارع شهيرة بعضها يتسع لشخص واحد لذلك سماها الناس «زنقة 1»، وهناك شوارع أخرى فسيحة تتسع للآلاف، لكن طنجة تضيق، تضيق أكثر من اللازم، لأن هذه المدينة تحملت أكثر مما يجب.. وقد تنفجر.