اكتشف فريق من العلماء آثاراً لأقدم سلوك إنساني لخياطة الملابس داخل مغارة تحمل اسم "المهربين" تقع بنواحي مدينة تمارة القريبة من العاصمة الرباط. ووفق دراسة علمية منشورة في مجلة "iScience" الأسبوع الجاري، تم التوصل إلى هذه النتيجة بعد دراسة وتحليل أكثر من 60 أداة مصنوعة من العظام وأداة مصنوعة من سن الحوت استعملت للخياطة قبل حوالي 120 ألف سنة. وقال محمد عبد الجليل الهجراوي، مدير سابق للتراث الثقافي بوزارة الثقافة وأستاذ باحث سابقاً بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، المشارك في الدراسة العلمية، إن ما تم اكتشافه داخل هذه المغارة يجعل تمارة من المناطق المهمة بالعالم التي ظهر فيها السلوك الإنساني الحضاري الحالي. وأوضح الهجراوي، في حديث لهسبريس، أن الأبحاث في هذه المنطقة بتمارة بدأت في الخمسينيات، لكنها توقفت في السبعينيات، ثم عادت مع بداية القرن الواحد والعشرين بفضل برنامج مغربي أميركي استمر سنوات وتكلل باكتشاف هذه البقايا سنة 2005. ورغم أن اكتشاف هذه الأدوات العظمية يعود إلى سنوات، فإن دراستها وتحليلها تطلبا مدة طويلة للوصول إلى هذه النتيجة بفضل تضافر جهود علماء من المغرب وأميركا وإسبانيا وأستراليا وألمانيا. وأضاف الهجراوي، صاحب كتاب "السكان الأولون للرباط والنواحي"، أن منطقة تمارة تضم عدداً من المغارات، من بينها "المهربين" و"دار السلطان" و"الهرهورة" و"لمناصرة"، كانت مغمورة بمياه البحر إلى أن تراجع مستوى المياه بما يعادل 300 متر، وهو ما سمح للإنسان بالاستيطان بها. وذكر الباحث ذاته، وهو مدير "البرنامج الأثري المغربي الأمريكي لمنطقة تمارة"، أن الإنسان استوطن هذه المنطقة قبل مئات آلاف السنين لتوفرها على شروط العيش بتموقعها قرب البحر ووجود "الوحيش" والحيوانات التي كانت يتغذى عليها الإنسان. ووفق الهجراوي، توجد عدد من الأدوات العظمية في مناطق أخرى أكثر قدماً، لكن ما تم اكتشافه في مغارة "المهربين" بتمارة يضم دلائل لأول مرة على أن هذه الأدوات استعملت لخياطة الملابس. وأشار الباحث ذاته إلى أن الإشكاليات التي ترتبط دائماً بما قبل التاريخ هي التساؤل عن تاريخ ظهور التفكير الحالي للإنسان الحالي، مضيفا أن الخياطة تعتبر جزءا من هذا التفكير لأنها بقيت مستعملة إلى يومنا هذا. الأكثر أهمية في هذا الاكتشاف أيضاً، يتابع الهجراوي، يتجلى في أن استعمال هذه الأدوات العظمية استمر فترة تمتد لحوالي 30 ألف سنة، وهذا يعني، يقول الباحث ذاته، أن تلك المعرفة تم تداولها بين الأجيال وساهمت في ميلاد مفهوم الذاكرة الجماعية في تلك الفترة. وبالإضافة إلى الأدوات العظمية المستعملة في الخياطة، وجد العلماء في مغارة "المهربين" بعض الحلي، عبارة عن صدفات بحرية مثقوبة. ورجح الهجراوي أن الإنسان كان يتبادلها لإرسال رسائل مشفرة بالرموز، وهي في نظره أقدم ثورة ثقافية لدى الإنسان ما دام شكل هذا الاتصال لا يزال مستمراً. وكشف العلماء أيضاً استعمال الإنسان للأفران داخل هذه المغارة، إضافة إلى استعمال الصباغة من خلال خلط نوع من الطين مع الماء، سواء لغرض السحر أو لإبعاد الجنون أو الاستشفاء، وهو مؤشر على أول استعمال لعلم الكيمياء من طرف البشر. وكشفت عائشة وجاع، أستاذة باحثة بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، أن هذه الاكتشافات ضمت أيضاً العثور على بقايا عظمية لجماجم لإنسان بالغ، إضافة إلى نصف هيكل طفل لا يتعدى عمره تسع سنوات. وأوضحت وجاع، في تصريح لهسبريس، أن هذا الاكتشاف فريد من نوعه لأن نصف هيكل الطفل هو الاكتشاف الوحيد الذي عثر عليه بمنطقة شمال إفريقيا ويعود تاريخه إلى 110 آلاف سنة. وأشارت الباحثة المغربية إلى أن "هذا النوع البشري هو إنسان عاقل (homos sapien) ومتطور مقارنة بالإنسان الأقدم منه (Homo erectus) الذي عثر عليه بمنطقة نواحي الدارالبيضاء".