1 وضع الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الستين لثورة الملك والشعب ملف إصلاح المنظومة التربوية في إطاره الصحيح , باعتباره أولوية وطنية ومجتمعية يرتهن بها مستقبل البلاد وأجيالها , وتفرض على مختلف الفاعلين السياسيين والمسؤولين المباشرين في قطاع التربية والتعليم إعادة النظر في مقارباتهم وأدائهم ,وتقييم حصيلتهم التي ما زالت دون متطلبات الإصلاح ومقتضياته, سواء تلك التي أقرها الميثاق الوطني للتربية والتكوين أو تلك التي جاء بها البرنامج الاستعجالي . إن الروح النقدية الواقعية في مقاربة الخطاب الملكي للواقع الذي آلت إليه المنظومة التربوية هي المدخل المطلوب لتجاوز الواقع المأزوم للمنظومة وتدارك الأخطاء والشروع في إصلاحات عميقة وشمولية تقوم الإختلالات, وتلائم بين الاهداف التربوية والتكوينية للمدرسة المغربية وبين رهانات التنمية والتحديث للمجتمع . ولعل من ألح شروط ذلك النأي بملف الإصلاح التربوي عن السجالات السياسوية العقيمة و "المقيتة " التي أضحت سمة بارزة ومقرفة لحقلنا السياسي و الحزبي الوطني . إن كافة الفاعلين في الحقلين السياسي والتربوي ومكونات المجتمع المدني مطالبة بترجمة توجهات الخطاب الملكي حول المسألة التعليمية إلى مخطط عمل إصلاحي لتقويم الإختلالات واستكمال تطبيق مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين ( باعتباره وثيقة مرجعية ) بعد عملية تحيين لمقتضياته لتتلاءم مع المستجدات التربوية والمعرفية والبيداغوجية من جهة , و مع المتغيرات السياسية والدستورية لبلدنا ومتغيرات عالم اليوم على صعد عدة من جهة أخرى . ومن هنا تأتي ضرورة الإسراع بفتح حوار وطني شامل وجدي وعميق حول ما آلت اليه المنظومة التربوية من تردي _ رغم المجهود الإصلاحي المبذول على مدى سنوات _ , وحول إمكانات وسبل التجاوز, حوار بطموح وإرادة استراتيجيين إذ لم تعد المسالة التعليمية التربوية تحتمل الترقيع والارتجال والتجزيء والاستعجال , ولا التوافقات السياسوية الظرفية الملتبسة. 2 إن الإجماع القائم حول تشخيص مظاهر وأعطاب المنظومة التربوية وحول حجم التحديات التي تواجهها,يحتاج إلى وعي مشترك بالرهانات المستقبلية لاي إصلاح أو تحديث لهذه المنظومة . وبإيجاز أشير هنا إلى أهمها : _ رهان ملاءمة التربية والتكوين مع الطلب المجتمعي وحاجات التنمية الإقتصادية والإجتماعية , وهو رهان شدد عليه الخطاب الملكي وو ضعه كرهان مركزي للإصلاح التربوي والتعليمي . _ رهان تكوين مواطن مجتمع الغد, المتشبع بقيم المواطنة و مبادئ حقوق الإنسان, والمؤهل لولوج مجتمع المعرفة والاتصال. _ رهان تحقيق جودة التعلمات في مختلف الاسلاك والمستويات التعليمية , وإرساء آليات المتابعة والتقويم المؤسسي المنتظم لإيقاعات التعلمات ومحصلاتها على المستوى المعرفي و البيداغوجي , وعلى مستوى تنمية الكفايات الضرورية للاندماج في مجتمع المعرفة وفي سوق الشغل. _ الرهان الثقافي والحضاري والهوياتي , وذلك بربط المنظومة التربوية بتاريخ وحضارة المجتمع ولغاته المتنوعة بما يعزز لدى الناشئة ارتباطها بهويتها, ويغذي معرفتها ووعيها بالتاريخ الوطني الحافل بالرموز والأعلام والعبر ويجعلها, بالتالي , معتزة بانتمائها ومنفتحة بشكل إيجابي وفاعل ( لا استلابي ومنفعل) مع ثقافات وحضارات الآخر. 3 انطلاقا من هذه الرهانات الكبرى, فإن " إصلاح الإصلاح" للمنظومة التعليمية بأفق جعلها قادرة على ربح تلك الرهانات سيظل مستعصيا إذا لم يبدأ من حيث تجب البداية : أي من القاعدة , من مسرح العملية التربوية والواقفين على خشبته في أدوار مختلفة , يتوقف فيها نجاح أي دور على نجاح بقية الأدوار, إنه ( الإصلاح ) عملية نسقية , فأي خلل في حلقة من حلقاته يؤدي إلى تعثر المنظومة ومراكمة الإختلالات. وبكثير من التكثيف فإن إصلاح التعليم يتطلب التركيز على المكونات الرئيسية الفاعلة والمباشرة في ا لعملية التربوية والتعليمية وفي مقدمتها : أولا التلميذ (ة) : هو محور الفعل التربوي وغايته في آن واحد , فمن هو تلميذ اليوم ؟ إنه بالتأكيد ليس التلميذ (ة) الذي كناه . ما تمثلاته ونوعية " متخيله" وأحلامه في عصر عولمة الثقافة وهيمنة أدوات تكنولوجيا التواصل والاتصال ؟ وهل يجوز تربويا الحديث عن التلاميذ ككتلة متجانسة وصماء ؟ أليست الاختلافات السوسيوثقافية , والفوارق النفسية عوامل حاسمة في تحقيق الاهداف التربوية أو الفشل فيها ؟ لقد آن الأوان لمعرفة أعمق بتلاميذ (ت) اليوم بدل اختزالهم كذوات متمايزة في أرقام داخل سجلات المؤسسة والوزارة. إن المقاربة السوسيوثقافية والسيكوتربوية مقاربة مطلوبة بإلحاح في تحديد حاجات التلاميذ النفسية والوجدانية والاجتماعية ورصد الفوارق بينهم لأخذها بعين الاعتبار في العملية التعليمية التربوية من طرف المدرسين (ت) . ثانيا : المدرسون (ت) : في ظل الخصاص الكبير في هيئة المدرسين ,وفي واقع تقادم التكوينات الأساسية المرجعية لمعظمهم بفعل افتقار البرامج الإ صلاحية السابقة لإستراتيجية في مجال التكوين المستمر واقتصارها على أيام تكوينية مرتجلة ومحدودة النتائج , فإن تدارك اختلالات المنظومة اليوم ,خاصة على مستوى جودة التعلمات , يفرض إعداد مدرسين (ت) بمواصفات جديدة وبتكوينات عميقة في مجال التخصص , وفي الجانب المهني والديداكتيكي والبيداغوجي . إن إعادة الاعتبار للمدرس تبدأ من توفير الشروط العلمية والمعرفية المؤسسية الكفيلة بالارتقاء بأدائه التربوي والتعليمي .ولاشك في أن أي مشروع للإصلاح لن يكتب له النجاح بدون بناء علاقة جديدة تفاعلية بين المدرسين وبين الوزارة اساسها التشاور و التشارك والتحفيز المعنوي .. ثالثا : المدرسة والإدارة التربوية: رغم كل المجهودات التي بذلت لإحداث مدارس جديدة وترميم المؤسسات القديمة ما زالت معظم المدارس لا ترقى الى مستوى الفضاء القادر على جذب المتمدرسين , إ نها مدارس بدون حياة , مجرد حجرات إسمنتية وصفوف متراصة من الكراسي الخشبية , ولا داعي هنا لوصف ماهو معاش , ولكن لا بد من التأكيد على أهمية توفير فضاءات داخل المدرسة تسمح بتفتح شخصية المتمدرسين واكتشاف مواهبهم المتنوعة لأجل رعايتها, وإلحاحية التأطير النفسي والإجتماعي للتلاميذ المحتاجين لذلك . إن تحقيق ذلك يقتضي تغيير المفهوم السائد للإدارة التربوية ولوظائفها : إن الإدارة التربوية ليست مجرد إدارة للضبط والتنظيم للزمن الدراسي وتسجيل الغيابات و تسلم الرخص ..الخ إنها بالإضافة إلى ذلك مطالبة أن تتحول إلى إدارة مبدعة لأشكال من انفتاح المؤسسة على محيطها , من تظاهرات وندوات ومعارض " تتفتح فيها ألف زهرة " ويعبر التلاميذ (ت) من خلالها عن ذاتيتهم . إن دعم الإ دارة التربوية بأطر وكفاءات مختصة في علم الإجتماع وعلم النفس وفي فنون المسرح والتشكيل والموسيقى والرقص .الخ شرط اساسي لإصلاح المدرسة العمومية وإعادة الإعتبارإ ليها ومصالحتها مع المجتمع . رابعا : المناهج والبرامج الدراسية : إنه ورش كبير لم يفتح منذ صدور الكتاب الابيض سنة 2002 الذي حدد الاختيارات الكبرى المرجعية والبيداغوجية المؤسسة للهندسة التربوية القائمة من جهة , وللمقررات الدراسية والكتب المدرسية من جهة أخرى .وقد آن الاوان اليوم لتقييم نتائج العمل لسنوات بهذه المناهج والبرامج من أجل تحيينها أو تعديلها أو تعميقها بدل حالة الجمود القائمة منذ عقد من الزمن في هذا المجال الحيوي .إن الغاية من فتح هذا الورش الإصلاحي هي إعادة تأسيس العلاقة بين المناهج والبرامج الدراسية وبين استراتيجية تكوينية معرفية وبيداغوجية للتلاميذ وفق اختيار بيداغوجي يستحضر المعطيات الجديدة في سوسيولوجيا التربية .. إن كل عنصر من هذه العناصر يحتاج الى ورشات مفتوحة للحوار لبلورة تصور شمولي ومتكامل للإصلاح التربوي . ويبقى التخطيط العقلاني والاستشرافي , وإرساء آليات مؤسسية للمتابعة والتقويم , ووضع استراتيجية تكوينية لجميع المشتغلين في حقل التربية والتعليم شروطا لن يكتب لأي مشروع إصلاحي تربوي النجاح بدونها. هذه أفكار أولية على هامش خطاب ملكي متميز سيكون له ما بعده من آثار على المناخ التربوي العام..