لم يدر في خلد سكان دوار مجاور لشاطئ عين السبع أن حياتهم ستنقلب فجأة رأسا على عقب، وأنهم سيكونون غير قادرين في يوم من الأيام على اللقاء بالبحر رفيقهم الوحيد، مطعمهم ومعيلهم وأنيسهم، لم يعتقدوا، وهم الذين كانت المنتوجات البحرية مصدر رزقهم الوحيد منذ سنوات طويلة، أنهم سيجدون أنفسهم محرومين قسرا من العمل، "هسبريس" زارت مواطنين مغاربة ذاقوا مرارة الجوع والعطالة بسبب مشروع الطريق الساحلية بين ميناء الدارالبيضاء والمنطقة اللوجيستية بزناتة، ورصدت معاناتهم. " إنهم يريدون دفننا ونحن أحياء" بنبرة غاضبة ومسحة حزن لا يستطيع إخفاءها، كان يتحدث ابراهيم الشبلي أحد شباب دوار سيدي عبد الله بلحاج المجاور لشاطئ عين السبع، كان إبراهيم يتحدث ساخطا على وضع مأساوي يعيشه سكان مكلومون، أمام الوضع المزري الذي أصبحوا يكابدونه، منذ أن قررت الدولة قبل عدة أشهر إنجاز مشروع الطريق الساحلي، الذي سيمر عبر الشريط الساحلي الرابط بين ميناء الدارالبيضاء ولوجستيك زناتة، كان المشروع بمثابة قدر سيء سيقلب حياة السكان رأسا على عقب وسيجعلهم عرضة للتشرد والضياع، إبراهيم واحد فقط من بين مئات المتضررين من هذا المشروع، الذي نسي المخططون له أن مواطنين سيعانون بسببه معاناة مريرة، فمنذ أن بدأت الأشغال تحولت حياة الجميع هنا إلى جحيم، تستطيع أن تلمح ذلك في وجوههم، وبين صرخة وأخرى كانت القصص تقريبا تتشابه، شعور بالغبن والإهمال المتعمد من طرف دولتهم؟ وكم كبير من الأسئلة يحملونه في قلوبهم ولا يعرفون له أجوبة ؟ ماذا عساهم يفعلون وقد انتهت الحياة هنا تقريبا ؟ لماذا لم تقدر الحكومة أن هذا المشروع سيؤثر سلبا عليهم، وسيحرمهم من مورد رزقهم الوحيد وهو "البحر" ؟ لماذا تركوا أمام مصيرهم البئيس دون أن يسأل عنهم أحد ؟ هكذا بدت الصورة، ونحن نتنقل بين مسكن وآخر في الدوار في صباح يوم ربيعي حار، في وقت كانت الجرافات وآليات الحفر تفعل فعلتها، إمعانا في وأد أحلام مئات من المواطنين. البحر ..ذلك الفردوس المختطف المشهد في دوار سيدي عبد الله بلحاج بئيس جدا، تشعر بذلك مع كل خطوة تخطوها، سكانه يبدو على ملامحهم الملل من هذه الحياة، بعدما عجزوا عن كسب لقمة العيش، كل شيء تغير في هذا المكان، منذ أن أعطيت انطلاقة إنجاز هذا المشروع في أبريل من السنة الماضية من طرف الملك، هناك إحساس عام أن كل شيء أخذ منهم، وأن ذكرياتهم وطموحاتهم صودرت منهم، وتم إيقاف مشاريعهم البسيطة للغاية ربما للأبد، لا يستسيغ الرجال والنساء والأطفال هنا حقيقة أنه لن يكون بإمكانهم ممارسة الأنشطة التي ظلوا يمارسونها منذ عقود. كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة صباحا من يوم السبت، كان كل من عبد الواحد وعبد الإله وهما صيادان يتأملان غنيمة هذا اليوم من الصيد، كالعادة، في الأشهر الأخيرة كانت الغنيمة أقل من المعتاد، بمجرد أن بادرناهما بالسؤال عن الحال، تنهد عبد الواحد قبل أن يجيب " هانتا كتشوف بعينيك، الله يجيب الصبر وصافي .. منذ أن بدأت الأشغال في المشروع تغيرت حياتنا، نعتمد جميعا على الصيد والبحر، والآن حرمونا من البحر ولم يعد لدينا مورد رزق لإطعام أنفسنا وأبنائنا، نحن الآن نحاول فقط التكيف مع الوضع، فالبحر مع الأشغال تحول إلى ما يشبه السجن .. الله يجيب الصبر وصافي "، رغم كل ما يعانونه لا يتحدثون كثيرا، عبد الإله، رفيق عبد الواحد في رحلة الصيد المتعبة التي انطلقت منذ ساعات الصباح الأولى، في الأربعينيات من عمره، يبتسم ابتسامة عابرة يلخص الصورة كالآتي: " نحن بمثابة العاطلين الآن، البحر لم يعد ملكنا منذ أن باشروا الأشغال لإنشاء هاته الطريق، لقد فرضت الدولة هذا المشروع، وقررت إنجازه ولا نستطيع أن نفعل أي شيء إزاء هذا الأمر، لكن كل ما نطلبه الآن هو أن يبحثوا لنا عن حل ولا يتركونا هكذا ". محمد الهيدوس، صياد عجوز، يبدو عليه تعب الحياة، ويسكنه أمل في أن تعود الأمور على الأقل إلى مجراها في أقرب وقت، في كل لحظة كان محمد يشرح لنا كيف أن كل شيء استحال هنا، بدا المشهد مؤثرا وهو يمسك بالشبكة المهترئة، التي كان يستعملها للصيد " لقد توقفت عن العمل منذ أشهر، لا أحد اكترث لنا أو تحاور معنا بهذا الخصوص، أين سنذهب ؟ لا ملجأ آخر لنا، من دون البحر لا نستطيع فعل شيء آخر "، سكت ثم نظر نظرة خاطفة إلى السماء "ما الذي يمكنه أن يفعله عجوز مثلي، أنا لا أعرف شيئا آخر، نحن لسنا ضد المشروع أو ضد مصلحة البلاد، لكنهم "قتلونا"، لأن البحر لم يعد ملكا لنا كما كان في السابق، الوضع لا يمكن أن يعود كما كان، أترى منظر التلوث، حتى الأسماك ما عادت موجودة"، أصر الهيدوس على أن ننتقل معه إلى حيث تحيط الصخور المقتلعة بثروة هائلة من "بوزروك" لفظه البحر ميتا، يقول الهيدوس متحسرا، بدأ الأمر منذ أن انطلق إنجاز المشروع " أترى هذه الثروة الهائلة من "بوزروك" التي تضيع، أنا أشعر بالحزن حينما أرى هذا المشهد، لم يسبق أن حدث أمر مماثل في السنوات الماضية، ربما بسبب التلوث الذي تسببه عمليات الحفر وبقايا الصخور، لست أرى أي سبب آخر يمكنه أن يؤدي إلى هذه الكارثة "، يختتم محمد الهيدوس حكيه بكثير من الحرقة والألم. الموت البطيء لا شيء يستحق الحياة، حسب إبراهيم الشبلي وهو شاب في العشرينيات من عمره، هو الآخر أصبح عاطلا عن العمل منذ أن بدأت هذه الأشغال، كان يعمل غطاسا في البحر قبل أن يحكم عليه المشروع بالعطالة، كان يتحدث بحنق وهو يصف لنا الوضع الحالي " منذ أزيد من 9 أشهر و"المعيشة محبوسة علينا" .. نحن الآن جميعنا متوقفون عن العمل، لا أحد منا يعمل، لا الشباب ولا الرجال وحتى النساء اللائي كن يشتغلن في جمع "بوزروك" لا يشتغلن، لأن النساء لم يعدن يستطعن النزول إلى البحر بسبب الحاجز الذي وضعته الأشغال بيننا وبين البحر، كما أن البحر أصبح يلفظ "بوزروك" ميتا منذ أن انطلق العمل "، أثناء حديثه ل "هسبريس" تجمعت حولنا جوقة من سكان الدوار، كلهم يقولون الشيء ذاته، يكررون الحكايات الحزينة نفسها، يتحدثون عن حياة ميتة، وعن أمل مفقود، يصمت إبراهيم قليلا قبل أن يستدرك " ما ذنبنا ؟ ما الذي فعلناه لنستحق كل هذا، نحن لسنا ضد المصلحة العامة، نحن مع جميع المشاريع التي فيها صالح لتقدم وازدهار البلد، لكننا الآن مشردون، دون أن يعيرنا للأسف أي أحد أي اهتمام ،.. هوما معاقلينش على بنادم واش كاين ولا لا "، الشباب هنا يائسون ومحبطون، يونس شاب من الدوار بدوره يستنكر هذا الوضع" هاذي ماشي عيشة، ليس لدينا ما نسد به رمقنا الآن، كيف يريدون منا أن نعيش و 90 في المائة من السكان كانوا يقتاتون من البحر، ماذا يريدون منا أن نفعل الآن وقد قطعوا عنا أرزاقنا في وقت أصبحت فيه كلفة المعيشة باهظة ؟ فلنمت أفضل إذن ..". صرخة نساء "بوزروك" للنساء هنا علاقة خاصة مع "بوزروك"، معظمهن لا يعرفن مهنة أخرى سوى جمع "بوزروك"، ألفن استخراجه من بين صخور هذا الشاطئ الذي أصبح محاصرا اليوم، إذ تم أخذ البحر بعيدا كابن خطفوه من بين أحضان أمه، النساء كن يقضين ساعات طويلة لالتقاط "بوزروك"، وساعات أخرى لحمله، قبل وضعه في براميل كبيرة، ثم يقمن بسلقه وتنظيفه وفركه بالأيادي قبل أن تبدأ عملية البيع، هي عملية شاقة، لكنها على الأقل كانت توفر دخلا لمئات الأسر هنا، فاطنة فكري سيدة في الخمسينيات من عمرها، امرأة هدها الزمن والشقاء وزادها الواقع الجديد تعبا تقول ل"هسبريس" إنهن مثل الأسماك لا يستطعن العيش خارج البحر، وتضيف فاطنة " معندنا ما نشربو وولادنا ملاقيينش مياكلو، لا مكان آخر يمكننا من البقاء على قيد الحياة غير البحر، أين سنشتغل الآن بعد أن حرمونا من الاشتغال في البحر؟ أنا لا يمكنني الاشتغال كخادمة في المنازل مثلا، العمل ليس عيبا لكنني لا أستطيع، الآن لم نعد نستطيع الوصول إلى البحر لالتقاط "بوزروك" هذا إن وجدناه أصلا، لأن معظمه أصبح يخرج ميتا منذ أن بدأت عمليات الحفر وإنشاء هذه الطريق الجديدة ، وأصبحنا نخشى المغامرة، لأن النزول إلى البحر أصبح أمرا خطيرا وشبه مستحيل "، لا تستطيع فاطنة أن تتصور مستقبلا آخر لعائلتها بعيدا عن هذا المكان " ماذا سنفعل ؟ لا نعرف ماذا سنفعل، حياتنا أصبحت صعبة جدا، لأن لا أحد يشتغل الآن داخل العائلة، من سيعيلنا إذن ؟ المشكلة أن لا أحد يستمع إلى شكوانا أو يهتم لأمرنا، هم أصلا حينما بدأ المشروع رفضوا تشغيل أبنائنا لأسباب لا نعرفها، كان الأولى أن يشتغل أبناء الدوار أولا، لأنهم يعرفون أننا متضررون من هذا المشروع ". فتيحة هي الأخرى سيدة من نساء هذا الدوار ممن ضاق بهن الحال، أصبح الجرح غائرا، ثمة شعور بأن الدولة تظلمهم وتتجاهل وجودهم، لكنهم أناس طيبون ويتفهمون حاجة الدولة إلى تشييد طريق مماثلة، كل ما يطلبونه هو فقط بدائل، هل تستطيع دولتهم أن تجد لهم حلولا لمشاكلهم التي تراكمت منذ ما يزيد عن تسعة أشهر؟ تطرح فتيحة هاته الأسئلة وهي تشيح بنظرها بعيدا، هناك، حيث البحر فردوسها المفقود هاته الأيام، ثم تستمر في الحديث " نحن لا مانع لدينا أن تمر الطريق إن كان ذلك في مصلحة وطننا، لكن فليعطونا فقط حلا ولا يتركونا هكذا على هذا الوضع، لقد طرقنا كل الأبواب للشكوى ولم يقدموا لنا أي حل، وعدونا أنهم سيدرسون الأمر، لكننا لم نر أي شيء إلى حدود اللحظة، هم لا يريدون حتى تشغيل أزواجنا وأبنائنا، على الأقل كان عليهم أن يوفروا لنا فرص شغل بديلة في المشروع بشكل مؤقت، لكنهم يرفضون ذلك حتى الآن، .. يمكنك أن تتنقل بين كل البيوت، ستجد عائلات بأكملها تموت ببطء "، تحدثت فتيحة بانفعال قبل أن تزيد من التأكيد على هول ما تجتازه هي وأسرتها " لقد ضعنا، نعم ضعنا .. كيف سنطعم أبناءنا ؟ وكيف سنمكنهم من الذهاب إلى مدارسهم بعد اليوم، كيف سنتعامل مع مصاريفهم ؟ " فاطمة واحدة من "نساء بوزروك" الذي يمثل كنزا حقيقيا بالنسبة لهن، تطالب المسؤولين بأن يتدخلوا " منذ أن ولدت وأنا لا أعرف سوى البحر، لقد ترعرعنا هنا، ولا يمكنني أن أمارس مهنة أخرى غير جمع "بوزروك"، هذا هو عملنا ولا يمكنني الآن أن أتخلى عنه، يجب أن يجدوا لنا طريقة حتى ننزل إلى البحر مجددا وفي أسرع وقت، هناك ستة أفواه جائعة، أنا أريد النزول إلى البحر مجددا، راه هاد الخدمة هي اللي معيشاني منقدش نصبر كثر " لا أحد يبتسم هنا، كل الشهادات التي استقيناها كانت تجمع على ذلك " لا نبالغ، ما نقوله لك حقيقة، لقد قضت هذه الطريق على فرص الشغل التي كانت تشكل مورد رزقنا، صحيح أننا كنا نعاني أصلا، لكننا كنا نقتات من ذلك، الآن لا يمكننا سوى أن نتمنى الموت أمام هاته الحالة الكارثية التي نعيشها، لا نستطيع حتى دفع فواتير الكهرباء؟ هل يريدون منا أن نرحل من هنا مثلا؟ أجدادنا وآباؤنا عاشوا هنا، وسنبقى هنا " هكذا تحدثت نجاة نحيل، وهي أم لخمسة أطفال رهن مشروع الطريق الساحلي الجديد مصيرهم للمجهول. هكذا غادرنا دوار سيدي عبد الله بلحاج، ونحن نترك خلفنا قصص مكابدة مريرة لسكان حكم عليهم مشروع وطني يحظى برعاية على مستويات عالية في هرم الدولة بالفقر والبؤس وحياة الحرمان، صادر فرص عملهم البسيطة، وتركهم لمصيرهم دون أن يعيرهم أدنى اهتمام، أو يوفر لهم أية بدائل تمكنهم من استئناف حياتهم، تركنا السكان بمشاعر متضاربة بين عدم الفهم والغبن والحزن، تركناهم يبكون البحر ويلعنون الجرافات. الشاطئ يفقد ألقه: إلى جانب معاناة سكان الدوار المجاور، أجهز المشروع الجديد المخصص للشاحنات، والذي سيمر عبر الشريط الساحلي بين ميناء الدارالبيضاء ولوجستيك زناتة، على المتنفس الوحيد الطبيعي الذي كان يحج إليه البيضاويون من كل مناطق المدينة، هكذا فقد شاطئ عين السبع رونقه وجماليته المعهودة، يمكنك أن تلاحظ ذلك وأنت تتجول عبر المقاهي المطلة على الشاطئ، التي تراجعت مداخيلها منذ أن بدأت أشغال إنجاز الطريق بحسب ما ذكره مسير مقهى على الشاطئ ل"هسبريس" : " لم يعد المكان مغريا كما كان في السابق، بالأمس كان المقهى يطل مباشرة على البحر، وكان الزبناء يأتون لمشاهدة هذا المنظر خصيصا، الآن أصبح البحر بعيدا جدا وتحجبه الأشغال عن العيون، بالإضافة إلى التلوث والروائح الكريهة، لذلك صار الإقبال هنا ضعيفا "، وفي السياق ذاته كانت مجموعة من الجمعيات قد راسلت ولاية الدارالبيضاء الكبرى، وقدمت مقترحا يقضي بتمكين السكان والزوار من كورنيش مواز للطريق المشيدة من جهة البحر وإقامة جسور من وإلى الكورنيش. محاولة خلاص من شاحنات الموت بحسب دفتر تحملات المشروع الذي أشرف الملك شخصيا على تدشينه بتاريخ الرابع والعشرين من أبريل من السنة الماضية، أي قبل سنة بالضبط إلى جانب مشروع آخر وهو تهيئة المنطقة اللوجستية "ميطا-الدارالبيضاء" فإن هذا المشروع يهدف إلى تخفيف الضغط على الطرق المحاذية للميناء، وتحسين ظروف نقل البضائع وسيولة حركة الشاحنات على مستوى الطريق الرابطة بين الميناء والمنطقة اللوجيستية زناتة والممتدة على 323 هكتار، وهو مشروع تطلب استثمارات تقدر ب 700 مليون درهم، بشراكة بين وزارة النقل والتجهيز والوكالة الوطنية للموانئ، وستستمر هذه الأشغال حوالي 40 شهرا، يجري خلالها إنجاز طريق بحري على امتداد 4.3 كلم وتوسيع الشبكة الطرقية على طول نحو 10 كيلومترات، تجدر الإشارة إلى أن تحرك حاويات الصناديق الحديدية والشاحنات الضخمة التي تحوي السلع، والتي تخرج من ميناء الدارالبيضاء إلى داخل المدينة في اتجاه وجهتها، تسبب في مشاكل كثيرة من بينها الاكتظاظ والتلوث وحوادث سير في كثير من الأحيان.