يهدف مشروع إنجاز طريق بحري على امتداد 4.3 كلم الذي أشرف الملك شخصيا على تدشينه بتاريخ 24 من أبريل من السنة الماضية، إلى تخفيف الضغط على الطرق المحاذية للميناء، وتحسين ظروف نقل البضائع التي تقوم بها الشاحنات الضخمة التي تحوي السلع وحاويات الصناديق الحديدية، من خلال توسيع الشبكة الطرقية على طول نحو 10 كيلومترات، والحد من المشاكل التي تتسبب فيها تلك الشاحنات، وعلى رأسها حوادث السير، غير أن إحداث مشروع الطريق الجديد، سيلحق الضرر بما يزيد عن 50 مقهى و100 شركة استثمارية، وكذا تهجير شريحة عريضة من السكان، وهدم المباني والإقامات والمدارس وحتى المعامل والمحلات التجارية. «البحر مشى» و«رزقنا تقطع» و«حياتنا تقلبات»، صرخات تطارد كل من بادر بمساءلة سكان عين السبع، الذين يئنون في الصمت والعلن، جراء ما لحقهم من مشروع الطريق الساحلي الذي سيمر عبر الشريط الساحلي الرابط بين ميناء الدار البيضاء ولوجستيك زناتة، والذي ابتدأت أشغاله منذ أبريل الماضي... وجوه عبوسة وحسرة وتذمر..تلك التي طاردتنا حين قيامنا بأكثر من زيارة لمنطقة عين السبع، للوقوف على معاناة سكان المنطقة الذين يعتبرون البحر مصدر رزقهم، وأيضا أصحاب المقاهي والمشاريع الذين يخلقون متنفسات للبيضاويين وأبناء المنطقة وأطفالهم.
التشرد والضياع التشرد والضياع... كلمة رددها جل الذين رأوا في الإعلام وسيلة لإيصال معاناتهم من جراء المشروع الذين يرون فيه قدرا سيئا حل بهم وغير مسارات حياتهم في غياب بديل. تعالت الأصوات، تشابهت القصص وتوحدت المعاناة، فالكل في المنطقة التي يشملها المشروع، يشعرون بالإهمال جراء الأسئلة الكثيرة التي لا يجدون لها من جواب شافي يعيد الطمأنينة إلى قلوبهم، هم الذين يعتبرون أنفسهم الأحق بالمنطقة وبخيرات بحرها، الذين يعتبرونه مصدر رزقهم وقوت أبنائهم، هم الذين ولد آباؤهم في المنطقة ...مهنهم ارتبطت بالبحر..فمنهم الغطاس والصياد وحتى النساء امتهن جمع «بوزروك» الذي يعتبر مصدر عيش الكثير منهن، ولا يعرفن حرفة غيره. أسئلة كثيرة تلك التي تكتم أنفاسهم من دون أن يجدوا لواحد منها جوابا، يشفي الغليل ويمحي ذكريات الآباء مع البحر. هكذا بدت الصورة قاتمة، ونحن نتنقل بين مسكن وآخر في دوار سيدي عبد الله بلحاج، نستطلع آراء عدد من المواطنين الذين عاشوا مدة طويلة في هذا الدوار، الذي يعد من الدواوير القديمة بحي عين السبع، في وقت كانت الجرافات وآليات الحفر في عمل مستمر ينعته السكان بأنه قتل يومي لأحلامهم. وبادر أحد شباب الدوار بالقول» البحر مشى والضياع هو مصيرنا لم يعد البحر ملكنا منذ أن باشروا الأشغال لإنشاء هذه الطريق، غير أننا لا حيلة لنا ولا نستطيع أن نفعل أي شيء إزاء هذا الأمر وكل ما نطلبه، هو أن يبحثوا لنا عن حل ولا يتركونا هكذا». النساء وبوزروك المعاناة، لم تستثن أحدا من أبناء المنطقة، «المعيشة محبوسة» حسب تعبير شباب المنطقة الذين أصبحوا يعانون من البطالة بعدما كانوا يمتهنون الغطس في البحر، شأنهم في ذلك شأن النساء اللواتي كن يسترزقن من جمع بوزروك الذي أصبحوا يجدونه ميتا. «الطريق سدت علينا باب الرزق» .. نحن الآن متوقفون عن العمل، لا أحد منا يعمل، لا الشباب ولا الرجال وحتى النساء اللائي لديهن علاقة خاصة مع «بوزروك»، إذ كن يقضين ساعات طويلة لالتقاطه واستخراجه من بين الصخور، ثم حمله قبل وضعه في براميل كبيرة، وسلقه وتنظيفه وفركه بالأيادي قبل أن تبدأ عملية البيع، هي عملية شاقة، لكنها كانت توفر دخلا لمئات الأسر، إذ عبرت جل من استفسرنا هن عن أنهن حرمن من فلذة كبدهن «البحر» الذي لم يبخل يوما عليهن بالخيرات إلا بعد بدء الأشغال التي جعلته بدوره يشاطرنا الموت. استغاثة المتضررين قرر السكان المتضررون وأيضا أصحاب المشاريع والمقاهي الاتصال بالمسؤولين عن المنطقة، لمعرفة تفاصيل المشروع وطالبوا خلال لقاء بمقر عمالة عين السبع الحي المحمدي، بضرورة تعويض المتضررين من الطريق، مع خلق منافذ تطل على البحر. وبدورها طالبت جمعيات عدة بلقاءات مع السلطات المحلية لمساءلتها عن مستقبل الأسر، التي عمرت بالأحياء المطلة على الشاطئ، منذ قرن من الزمن، والتي كان البحر بالنسبة لها المزود الرئيسي بقوتها اليومي، والمتنفس الوحيد لأبنائها خلال العطل، وأقرب وجهة يقصدها سكان الأحياء المجاورة. والتمست هذه الجمعيات من سلطات مدينة الدار البيضاء الحفاظ على ذاكرة الحي، التي ارتبطت بالشاطئ. وأكدت ذلك من خلال رسائل عديدة موجهة لمختلف الجهات المعنية، مذيلة بتوقيعاتها تطالب من خلالها مراعاة مصالح المتضررين من المشروع، هذا الأخير الذي يرحبون به، غير أنهم يلتمسون الأخذ بعين الاعتبار مصير الأسر المتضررة منه، مستنكرين في الآن نفسه قرار نزع ملكيتهم وتعويضهم بأثمنة رمزية، لأجل تحويل الأراضي المستهدفة لمساحات خضراء، ويمس الضرر أيضا البيضاويين الذين يعتبرون الشريط الساحلي المتنفس الوحيد الطبيعي، الذي كانوا يحجون إليه من كل مناطق المدينة. تركنا السكان وجل المتضررين من مستثمرين ومالكي المحلات التجارية بمشاعر متضاربة، وحيرة وأسئلة كثيرة تنهشهم في ظل عدم توصلهم بإجابات رغم مراسلتهم ورفعهم لتظلماتهم للجهات المسؤولة، في انتظار الجواب الذي قد يأتي أو لا يأتي. تركناهم والحزن يرتسم على وجوههم، في انتظار جواب مسؤول أو دعوة لاجتماع. من أجل تبليغ معاناتهم صرح ل«المساء» عبد العزيز مخلص (رئيس قسم التعمير في مقاطعة عين السبع) الذي قال: «لا وجود لأي قرار رسمي، والموضوع مازال قيد الدراسة وفي طور النقاش واللجنة المركزية المكلفة، تدرس مختلف التعرضات التي تقدم بها السكان وأصحاب المحلات والمشاريع المتضررة من المشروع الجديد. وإلى جانبه أكد سعيد موني (مستشار جماعي في مقاطعة عين السبع) بأن مجلس مقاطعة عين السبع، قام بدورة استثنائية لمناقشة التعرضات التي قدمها المتضررون، الذين حضروا بدورهم لأجل الاستماع لمطالبهم التي نزكيها، كونها تخص فئة عريضة من الناس، سكانا ومستثمرين، هم من أبناء عين السبع. ونتساءل بهذا الخصوص عن ماذا سيبقى في منطقة عين السبع بعد محو ذاكرتها التاريخية التي ارتبطت في مجملها بالعديد من الأماكن التي يعود تاريخ وجودها إلى فترة تواجد المستعمر الفرنسي بالمغرب، من قبيل «مسبح لوسيانيك» و»مقهى القصبة» وأيضا «دوار سيدي عبد الله بلحاج». ولأجل ذلك نطالب كممثلين لسكان عين السبع، بالتراجع عن قرار الهدم الذي يطال ما يقارب 40 هكتارا، جراء دراسة لمكتب نجهل هويته، اللهم أنه أقر بهدم كل ما يوجد فوق المساحة المذكورة وتعويضه بمساحات خضراء، في غياب تام لفعاليات المجتمع المدني، ومن دون مراعاة مصالح المتضررين. والمجلس أخذ بعين الاعتبار التعرضات، لأن الضرر يهم جل البيضاويين الذين يجدون في منطقة عين السبع متنفسا بحريا يطلون على مشارفه، من خلال المقاهي التي توفر لهم ولأطفالهم أماكن للترفيه خلال عطل نهاية الأسبوع خاصة، وبذلك سيشمل الضرر سكان الدار البيضاء برمتها، خاصة وأنه يشاع أن هذه الأراضي التي ستنتزع الملكية من أصحابها ستحل محلها مساحات خضراء. أرباب المقاهي والمحلات التجارية يستغيثون في عين السبع، وعلى طول الطريق الساحلي، تنتشر مجموعة من المقاهي والفضاءات الترفيهية التي رسمت الذاكرة الجماعية لعين السبع. وصلنا إلى مقهى «القصبة» كما يحلو لمحبيها تسميتها، حيث كان بانتظارنا الراضي محمد رئيس جمعية شاطئ السعادة عند حوالي الساعة الخامسة مساء، رفقة الحاج بوجمعة صاحب 3 قاعات للأفرح، وأيضا عقيل بوشعيب مهاجر مغربي استثمر جل ما جادت به سنوات الغربة في شركة للإشهار في المنطقة. كانت السماء ملبدة بالغيوم، والنسائم التي تبثها الأمواج الأطلسية التي لا تبعد إلا بمسافة قصيرة، تعمل على تلطيفها وتخفيف حدتها. تزامن وصولنا مع توافد العديد من الزوار الذين اعتادوا قضاء يومهم بالمقهى، رفقة أبنائهم الذين يستمتعون بالألعاب ورحابة الفضاء الذي يميز المكان. عائلات وأطفال يركضون بحرية وتلقائية بين ذويهم مخلفين ضجيجا، وهم يستمتعون بقضاء يوم جميل على ساحل المحيط الأطلسي وفي مقهى «القصيبة». وما أن دخلنا إلى مكتب أحد أبناء صاحب المقهى حتى تهاطلت علينا معاناة من تحلقوا حول مائدة الاجتماع المخصص للإفصاح عن معاناتهم، التي تسبب فيها مشروع الطريق البحري الذي سيأتي على مشاريعهم، وسيقطع أرزاق العديد من العمال، وأيضا سيحرم المتعودين على ارتياد هذه الفضاءات بعين السبع، هذا الأخير الذي اشتهر بوجود مقاهي وأيضا قاعات للحفلات التي تتسم باتساعها وتوفر الشروط فيها لإقامة الحفلات والأعراس، إذ تعد قبلة للبيضاويين من مختلف المناطق، وهناك أيضا معامل وشركات لمستثمرين، غالبيتهم من المهاجرين المغاربة، الذين رأوا في الاستثمار منفعة لهم ولوطنهم. مقهى القصبة بنبرة فيها مرارة السؤال، عبر محمد الراضي نيابة عن والده بوشعيب الراضي البالغ من العمر 78 سنة، إذ كلفه نضاله ومقاومته ضد المستعمر الفرنسي سنوات من عمره، وحوكم بالإعدام، انعتقت رقبته بعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن. الراضي بوشعيب، رفيق المقاوم «بونعيلات» و»عبد الرحيم بوعبيد»، يبلغ صوته ابنه محمد الراضي (رئيس جمعية السعادة) الذي كلف بالدفاع عن سنوات عمر والده التي تخلدها جل زوايا «مقهى السعادة» التي تعد مورد رزق لأزيد عن 50 عاملا في الصيف و15 عاملا في فصل الشتاء، وجلهم من أبناء المنطقة. ويوضح محمد بأن أنشطة هذه المقهى تعرف تذبذبا منذ انطلاق أشغال المشروع، الذي أثر سلبا على المداخيل. ويضيف لم يعد المكان مغريا كما كان في السابق، بالأمس كان المقهى يطل مباشرة على البحر، وكان الزبناء يأتون لمشاهدة هذا المنظر خصيصا، الآن أصبح البحر بعيدا جدا وتحجبه الأشغال عن العيون، بالإضافة إلى التلوث والروائح الكريهة، لذلك صار الإقبال هنا ضعيفا. مقهى «القصبة» اليوم مهددة بنزع الملكية من مالكها وتعويضه بثمن رمزي لا يمكنه من القيام بمشروع بديل، والشأن ذاته بالنسبة لقاعات حفلات «الحاج بوجمعة» الذي استقبلنا في القاعة وهو يتألم لسنوات عمره التي ستذهب سدى، والمقابل ثمن رمزي. مسبح «لوسيانيك» لن تتوه كثيرا إن بادرت بالسؤال عن ذاكرة المسبح الوحيد الذي يوجد في عين السبع، إنه مسبح «لوسيانيك» الذي يؤثث ذاكرة جماعية لأبناء عين السبع، حيث وجد في منطقة عين السبع منذ 1945 وهو الآن في ملكية «الحسين هاجا» وتصل مساحته الإجمالية والمقهى المتواجد به 2100 متر مربع، حيث يشغل 30 فردا يقول «الحسين هاجا» اشتريت المطعم والمسبح منذ 1975 بعدما كان في ملكية مستثمر سويسري، واستثمرت فيه أموالا كثيرة لأجل إصلاحه، وهو منقوش في ذاكرة أبناء منطقة عين السبع، وأيضا العديد من الأجانب الذين يواظبون على زيارته كل سنة. «قاعات بوجمعة»
يملك الحاج بوجمعة 3 قاعات للأفراح مشهورة لدى سكان الدار البيضاء، يعود تاريخها لسنة 1995وهي اليوم مهددة بدورها بنزع ملكيتها وحرمان سكان عين السبع وأيضا البيضاويين من قاعات يقيمون فيها حفلاتهم وأعراسهم. مهاجر مغربي وبدوره بوشعيب عقيل لم يخف تضرره وألمه من ضياع سنوات عمره التي قضاها في فرنسا، لأجل الاستثمار في وطنه الأم بخلق شركة بملغ مالي قدره 200 مليون درهم، ليجد نفسه اليوم -يقول بوشعيب- رهينة لقرار نزع الملكية الذي يعتبره نزعا لسنوات العمر، خاصة وأن التعويض المقترح عليه لن يمكنه من القيام بمشروع بديل ومشابه للذي سينتزع منه. مقهى «القصبة» و»قاعات حفلات الحاج بوجمعة» و»لوسيانيك» ما هي إلا نماذج نابت في التعبير عن معاناة 50 مقهى و100 شركة استثمارية مطالبة بإخلاء مصدر قوتها بقوة قانون نزع الملكية.