في المغرب تقع الكوارث في التلفزيون ونتفرج على الفضائح ونهب المال العام دون أن نحاسب المسؤولين، آخر هذه الفضائح الصفقة الملتبسة التي وقعتها الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية مع شركة عليان للإنتاج التي حصدت 36 مليون درهم لإنتاج 30 فيلما تلفزيا بالأمازيغية وسط صمت مطبق للهيآت المدافعة عن نهب المال العام. "" الفضائح لم تتوقف عند هذا الحد، بل تحول التلفزيون إلى مستودع لجني الغنائم، خاصة في شهر رمضان الذي يعد محطة مهمة لعرض أجود الإنتاجات الوطنية... لكن ما يقع هو العكس، ليصاب المشاهدون بنكسة عظيمة وخيبة أمل كبيرة وهو يكتشف رداءة تلفزيونية واسعة النطاق. طبعا، ليس كل الأعمال التلفزيونية التي تقدم في شهر رمضان تستحق هذا الوصف، بل هناك بعض الإشراقات والإنتاجات التلفزيونية "النظيفة" التي تحترم ذكاء المشاهدين، ولا تضع نفسها ضمن خانة قناصي غنائم رمضان.. من العار أن تتحول القناتان الأولى والثانية في شهر رمضان إلى "قمامة" لعرض "النفايات" التلفزيونية التي تسمم البصر. من المسؤول عن إنتاج هذه "العاهات" التلفزيونية.. الجميع يتهرب من المسؤولية، من نحاسب؟ هل نحاسب لجن القراءة المغلوبة على أمرها، والتي تسحب منها سلطة التحكيم على المسلسلات الفكاهية والدرامية؟ هل نحاسب مدير التلفزيون الذي يملك كل الصلاحيات للترخيص لأي مشروع تلفزيوني بغض النظر عن مستواه الفني؟ أم نحاسب شركات تنفيذ الإنتاج التي تحصي الأرباح قبل التعاقد مع التلفزيون والممثلين؟ أم نحاسب المعلنين الذين لا يوقعون عقودهم مع التلفزيون إلا بعد تقديم قائمة طويلة من الشروط والإملاءات؟ أليس أخطر هذه الإملاءات هي التحكم في الاختيارات الفنية للأعمال التلفزيونية والكاستينغ و.... هذا هو السر وراء ارتفاع أسهم بعض أسماء الممثلين الكوميديين الذين تناوبوا على احتكار الأعمال الهزلية المقدمة في رمضان طيلة السنوات الأخيرة.. أربعة ممثلين أو خمسة تسيّدوا التلفزيون وتحولوا إلى "أيقونات" هذه المقاولات الإعلانية التي صنعت نجوميتهم، و"سكنوا" في التلفزيون رغم أنوفنا... "سيتكومات" بالجملة خالية من أي بعد جمالي أثثت بها القناتان شبكة برامجهما الرمضانية على مدار سنوات، منذ ظهور أول سيتكوم على شاشة القناة الثانية بعنوان "عيش نهار تسمع خبار".. ولم يصمد سوى سيتكوم "لالة فاطمة" في جزئه الأول، ومن أسباب نجاحه ميزانية إنتاجه المحترمة التي فاقت 960 مليون سنتيم بمعدل 32 مليون سنتيم للحلقة، والاستعانة بمخرج فرنسي صاحب تجربة محترمة في الإخراج التلفزيوني، وكاستينغ محكم، ومحترف للكتابة وظف كفاءات شابة، وديكور ثري منسجم مع فكرة السيتكوم. والفرق بين "للافاطمة" و"مبارك مسعود" هو الفرق الموجود بين السماء والأرض. ليست ميزانية سيتكوم "مبارك ومسعود" الهزيلة (أي 154 مليون سنتيم) هي التي صنعت لوحدها الفارق، بل حتى الأبطال بلا ذاكرة فنية، والإخراج بسيط إلى درجة الرتابة، والنصوص بلا انتماء لجنس الكتابة التلفزيونية. كل المقومات الجمالية افتقدت في هذا العمل الكوميدي الذي راهن على شخصيتين نمطيتين هما محمد الخياري وعبد الخالق فهيد القادمان من تجارب "الثنائي". وعالم التلفزيون مفارق للعوالم التي قدم منها هذا "الثنائي"، فالاشتغال على الكوميديا داخل التلفزيون من أهم عناصره التشخيص والتعبير الحركي عن مواقف مضحكة بناء على مقاطع حوارية متسلسلة خاضعة لهيكل السيناريو.. التلفزيون عالم قريب من عالم المسرح وبعيد عن "الحلقة" بمفهومها الشعبي الساذج، يكره اللغو والزوائد والارتجال والسرد والإطناب والرطانة. لهذه الأسباب فشل فهيد والخياري في أن يصبحا ممثلين ولم يستطيعا التجرد من شخصية "العروبي" الساذج الغارقة في الكليشيهات والنمطية، والانسلاخ عن هذه الشخصية يعني لهما الأفول. وهناك مبرر قوي ليتشبث فهيد والخياري بالحفاظ على ظهورهما في "سكيتشات" (حتى لا نبخس السيتكوم قدره) رمضان، هو ضمان بطاقات دعوات لحضور أعراس الطبقات الغنية والسهرات والمهرجانات الفنية بالخارج من أجل تقديم عروض فكاهية للجالية المغربية بأوربا، لما تدره هذه الدعوات من أرباح لا يتقاضونها في التلفزيون. التزام التلفزيون بإنتاج السيتكوم في رمضان رغم ثبوت فشل كل التجارب الفنية السابقة خاضع لرغبة المعلنين في وضع وصلاتهم الإعلانية بين فواصله. فهذا المنتوج بالنسبة للتلفزيون منخفض التكاليف وممول بالإعلانات ومدر للأرباح، خاصة أن نسبة عالية من المشاهدين تتابعه، وهذه فرصة الشركات المعلنة للتسويق لمنتوجاتها في وقت الإفطار. ينبغي أن نعترف في نهاية المحصلة بأن الكوميديا في المغرب رهان فاشل، وإصرار القناتين على مواصلة تحدي المشاهدين بعرض أعمال فكاهية تثير نفورهم واسفزازهم.. هو احتقار لأذواقهم، ونهاية لذلك التعاقد – الهش أصلا – بينهم (أي المشاهدين) وبين الإنتاج الوطني. فقد تطور وعي المشاهد وارتقى ذوقه بفضل ذاكرته البصرية التي تختزن روائع الإنتاجات التلفزيونية العربية، وأصبحت الفضائيات تتيح له إمكانية المقارنة – رغم أنها لا تجوز مع وجود الفارق – بين برامج الإنتاج التلفزيوني الوطني وباقي ما تقدمه تلفزيومات جيراننا. من المخجل أن تتفق القناتان معا على التنافس حول تقديم التفاهة والرداءة. فباستثناء المسسلسل الدرامي "تريكة البطاش" الذي تبثه القناة الثانية، والسلسلة الفكاهية "سير تاجي" التي تبثها القناة الأولى، سائر الأعمال التلفزيونية الأخرى ذبحت المشاهدين. "العشوائية" و"الارتجالية" هما العلامان البارزتان اللتان تميزان طريقة اشتغال القناتين معا، ونقدم إليكم الأدلة: - يمكن أن نعتبر شهر رمضان "مهرجانا تلفزيونيا وطنيا مصغرا" تتبارى فيه أهم الإنتاجات التلفزيونية الوطنية، ولجنة التحكيم هي الجمهور المغربي الواسع الذي غرق في رداءة هذه الأعمال حتى أذنه، وأصابه تلوث بصري فادح، وقال رأيه بكل صراحة (انظر شهادات المواطنين التي استقتها "الوطن الآن"، وهي بالمناسبات شهادات مختزلة جدا نظرا لضيق المساحة)، وحكم عليها بأقسى العقوبات، أي "الإعدام".. - من عناوين الارتجالية الي نتحدث عنها استنساخ شبكة برامج رمضان الماضي على القناتين معا، واستنساخ الوجوه المملة نفسها (كاميرا النجوم، الكاميرا الخفية، فطور الأولى، سير تاتجي، الأبرياء، محمد الخياري، عبد الخالق فهيد، عبد القادر مطاع...) - هل هذا التنافس جائز بين قناتين تنتميان لقطب عمومي واحد؟ والملاحظ أنه في مختلف "الإمبراطوريات التلفزيونية" في العالم يحدث التكامل والتناغم والتجانس بين قنواتها، وليس التنافر والتلاكم والتلاسن. فالتطابق ليس تطابقا زمنيا بين البرامج نفسها، وبين حصصها الزمنية، وبين نشراتها الإخبارية، بل حتى بين الفواصل الإعلانية.. أي أن العرايشي المدير العام للقطب العمومي يقول للمشاهدين المغاربة "عليكم أن تختاروا إما بين مشاهدة القناة الأولى أو القناة الثانية، مشاهدة "برق وقشع" أو "الكاميرا الساحرة"، مشاهدة "الجم" أو "الخياري"، مشاهدة "الدالي" أو "تريكة البطاش"... صحيح، صدق من سمى قطب العرايشي ب "القطب المتجمد".. - "الخياري.. طلع ليه الجوك هاذ العام" فهاهو في سيتكوم "يوم ما يشبه يوم" الذي يبث على القناة الأولى قبل الإفطار، وفي سيتكوم "مبارك ومسعود" بعد الإفطار على القناة الثانية، ثم يتجدد اللقاء مع الخياري على القناة الأولى في برنامج اكتشاف المواهب "كوميديا".. ومن يتذكر أن هناك قناة اسمها "المغربية"، سيصادف الخياري أيضا في سيتكوم "سير تاتجي" في نسخته الثانية.. "راه كالها الخياري: بقا ليا غير نودن".. بالمناسبة، الجزم بأن الخياري وفهيد هما نجما الكوميديا المغربية مسألة تستحق إعادة النظر، وتتوقف على طبيعة الكوميديا التي يقدمانها. فماذا لو أشرع التلفزيون أبوابه لنجوم الكوميديا الشعبية؟ كفى، لا تبتذلوا الكوميديا.. إنها فن عريق غير قابل للاختزال والتذويت. - معظم الأعمال التلفزيونية تصور غالبا في "الوقت الميت"، مما يؤتر سلبا على الإبداع.. وهذه المسؤولية يتحملها التلفزيون الذي لا يستعجل الزمن. إنها استرايجية خاطئة تفرغ التلفزيون من أدواته وميكانيزماته وهياكله ومؤسساته. فالإنتاج التلفزيوني يصارع الزمن لا أن يستسلم للزمن. "الوقت الميت" أو "الوقت الضائع" أو "الوقت الذابل" لا تتحقق فيه المعجزات.. سيتكوم "مبارك ومسعود" الذي صور ومازال يصور في "الوقت الميت"، انظروا إليه كيف ولد "ميتا"... - لن نتحدث عن الكتابة التلفزيونية، لأنها هي المأساة الحقيقية وجوهر الإبداع. فنجوم الكوميديا الرديئة لا يعترفون بجنس اسمه "السيناريو" الذي يقلص مساحات حواراتهم.. يكفي أن يستظهر عليهم الكاتب فكرة السيناريو وهم يملؤون "الفراغ" بالثرثرة والتعواج، ويقيسون حواراتهم بالمسطرة... و"الفم ما كال"..