كانت تحلم بمنزل يليق بها وتحسين وضعيتها للتغلب على تبعات الزمن، هي التي كابدت وعانت بحثا عن عمل شريف. حين غادرت منزل أسرتها، كان يراودها أمل العودة إليه على متن سيارة فارهة محملة بالهدايا، لكن لا هي عادت ولا الحلم تحقق. الحلم الفاجعة بحي المرس الإسماعيلي داخل مدينة قصبة تادلة، حزن عميق يخيم على البيوت منذ الأربعاء الماضي. شابات وشبان من أبناء الحي لقوا مصرعهم غرقا في البحر خلال محاولتهم العبور إلى أوروبا على متن زورق مطاطي، بحثا عن أمل لتحقيق أحلامهم والهروب من أوضاعهم المزرية. غزلان، في عقدها الثالث، واحدة من الفتيات اللواتي قررن أن يتحدين البحر والموج للوصول إلى الفردوس الأوروبي وتحقيق حلمها. غادرت ابنة قصبة تادلة وهي تأمل في العودة يوما إلى منزل والديها وأسرتها الصغيرة على متن سيارة فارهة، تحمل على متنها أمها لتجوب بها شوارع هذه المدينة وتتنقل وإياها صوب مدن أخرى في العطل الصيفية. كانت غزلان التي تابعت دراستها العليا لا تكل ولا تمل من البحث عن عمل في قصبة تادلة، لكن حلمها كان يلح عليها بالهجرة لتحسين أوضاعها. يروي نور الدين، شقيق غزلان، أنها وباقي شباب المدينة عانوا الأمرين مع غياب فرص الشغل، سواء بالنسبة للحاصلين على الشواهد أو لغيرهم، ما جعلهم يفكرون في "الحريڭ" لتحسين أوضاعهم الاجتماعية. لم تكل غزلان من البحث عن طرق للهجرة صوب أوروبا لتحقيق حلمها؛ إذ ظلت رغم معارضة أسرتها تجري اتصالاتها وتعد العدة لليوم الموعود، معتمدة في ذلك على قدر يسير من المال استطاعت توفيره. نور الدين وهو يتحدث لجريدة هسبريس الإلكترونية، أكد أن شقيقته عانت كثيرا، لذلك كانت تفكر في الهجرة صوب أوروبا بعدما لم يحالفها الحظ لتحقيق ذاتها هنا في قصبة تادلة. وأضاف هذا الشاب الذي ما زال ينتظر عودة شقيقته يوما غير مصدق رحيلها إلى الابد، متشبثا بأمل أن تكون أخبار مصرعها وسط المحيط رفقة آخرين من قصبة تادلة والنواحي مجرد إشاعة، أن تلقيهم خبر وفاتها غرقا شكل صدمة لهم، موردا أنه لا مطلب لهم الآن سوى استعادة جثمانها لدفنها بمقربة من العائلة، والترحم عليها. بداية الفاجعة قبل أسبوعين، اختفى مجموعة من أبناء مدينة قصبة تادلة والنواحي من مناطق أولاد سعيد وغيرها، وتواترت أخبار عن توجههم صوب مدينة أكادير. أبناء المدينة يدركون أن كل شاب اختفى عن الأنظار يهيئ نفسه للهجرة عبر القوارب المطاطية. تقول مصادر محلية، أن شباب المدينة الذين توجهوا صوب مدينة أكادير، كانوا يرغبون في الهجرة غير الشرعية صوب "لاس بالماس" بدعم من إحدى السيدات في المنطقة التي هيأت لهم الظروف لذلك مقابل مبالغ مالية. وتشير المصادر نفسها، نقلا عن رواية ناجين تمكنوا من الوصول للضفة الأخرى، أن الشبان بمجرد ركوبهم الزورق تاهوا وسط المحيط، ليبدأ التعب والجوع والقيء ينال منهم. وبحسب الروايات التي لم يتم التاكد منها، فإن وفاة شاب في البداية جعل الوضع يتوتر على متن القارب المطاطي بعدما طلب منهم قائد الرحلة رميه في البحر، إلا أن شقيقه والبقية رفضوا ذلك، ليزداد الوضع سوء بعد وفاة شابة بنفس الطريقة. وبمجرد رؤيتهم لعناصر البحرية أقدموا على قلب الزورق لتفادي تعقبهم، لكن التعب بعد مدة طويلة من التيه وسط البحر ساهم في غرق الكثير منهم فيما نجا قلة. وتشير المعطيات المتوفرة، إلى أن عدد الشبان الذين لقوا مصرعهم يصل إلى 18 شخصا ضمنهم ثلاث فتيات، فيما لم يتم التأكد من عدد الأشخاص الذين كانوا على متن الزورق المطاطي. مناشدة الملك في هذا الحي الذي زارته هسبريس، نصبت الخيام لتلقي العزاء، وعلامات الحزن بادية على محيا الجميع حدادا على فقدان فلذات أكبادهم غرقا في البحر. واحد من عائلة شقيقين لقيا مصرعهما غرقا، لم يخف بدوره حزنه العميق على فقدان قريبيه وكذا ابنة الجيران غزلان، واصفا ذلك بالفاجعة التي هزت الحي. يتحدث الشاب الذي أبدى بدوره رغبته في الهجرة بحثا عن حلمه في تحسين وضعيته، بحزن عميق، متذكرا ما عاشه رفقة الضحايا منذ الطفولة. الشاب أعرب عن أمله في أن تتدخل السلطات لمساعدة الأسر المكلومة في سعيها لإعادة جثث أبنائها بغية دفنها بجوارها. وبعدما صرح بأنه وبعض أبناء الحي يعملون في سبيل إرجاع جثث الضحايا بدعم من إحدى السيدات، ناشد المتحدث الملك محمدا السادس، باعتباره أعلى سلطة في البلاد، التدخل في هذا الأمر و"مساعدة الأسر المكلومة في رؤية بقايا أبنائها". والدة الشابة غزلان، ضحية الزورق المطاطي، التي تدهورت حالتها الصحية منذ تلقيها خبر مصرع ابنتها، لم تقو على الحديث لكنها استنجدت بملك البلاد لإرجاع جثة ابنتها لدفنها بجوارها. قالت الأم المكلومة وعيناها تفيضان بالدمع : "لا أريد شيئا سوى ابنتي، أناشد جلالة الملك مساعدتنا في استرجاعها حتى تكون بجوارنا". شباب تادلة يئن لقمة العيش والحلم بغد أفضل كانا وبالا على هذا الحي والمدينة برمتها؛ فقد عصف "الحلم" بشباب في مقتبل العمر، لكنه كشف هشاشة تعيشها قصبة تادلة وبطالة دفعت حتى الفتيات إلى رمي أنفسهن في البحر. خلال جولتنا بأحياء قصبة تادلة، لا شيء يلفت النظر غير التهميش، حيث الشوارع مهترئة والوضعية مزرية، خصوصا في الأحياء الشعبية. الذين تحدثوا لهسبريس أكدوا أن العيش في هذه المدينة صار لا يطاق، وشبابها يحتضر، لذلك يفكر كل لحظة بالهجرة والارتماء في البحر. حميد الحو، واحد من شباب المدينة، قال إن "الهجرة باتت الحل الوحيد أمام أبناء المدينة في ظل غياب فرص الشغل، وفي ظل التهميش الذي يعيشونه". وأكد المتحدث أن القاصرين والشباب صاروا يفكرون في الرحيل صوب أوروبا والهروب من المدينة لتغيير وضعهم ولسان حالهم يقول: "هنا لا صحة ولا شغل ولا كرامة، فلماذا سنبقى إذن؟". وبحسب الشاب حميد، فإن الوضع المتردي وغياب فرص الشغل، من أهم الأسباب التي تجعل الشباب يفكر في الهجرة، فلا يمكن أن تقوم الحياة في ظل غياب الاهتمام بهذه الفئة. وقال: "نحن الشباب نعيش تقاعدا مبكرا، ونعاني ضغطا نفسيا رهيبا"، مضيفا: "داخل هذه المدينة، لا فرص عمل، وحتى إن كنت ترغب في عمل شاق فيستوجب التوفر على وسيط لتسهيل ذلك، دونه لا يمكن لأي شاب بالمدينة الظفر بهذه الفرصة". ووجه هذا الشاب، إلى جانب شبان آخرين، اتهامات إلى المسؤولين وطنيا وجهويا ومحليا بالوقوف وراء تهميش مدينة قصبة تادلة، حتى صار شبابها عاطلا ويعيش "تقاعدا في فترة الشباب"، وفق تعبيرهم. وعبر هؤلاء عن أملهم في تدخل الملك محمد السادس لدفع المسؤولين إلى الاشتغال على تنمية المدينة، قبل أن يعمد جميع شبابها إلى الهجرة غير الشرعية صوب أوروبا ومواجهة الموت في المحيط. قصبة تادلة.. مدينة "الحراكة" ما إن يتم الحديث عن غرق شبان راغبين في الهجرة صوب أوروبا في المحيط، حتى يرتبط ذلك بمدينة قصبة تادلة. في السنوات الأخيرة تواترت الأخبار عن هذه المدينة وغرق شبانها الراغبين في الهجرة صوب الفردوس الأوروبي. ويعزو الفاعل الجمعوي محمد دحماني في تصريحه للجريدة، لجوء أبناء المدينة نحو الهجرة وتفضيل ركوب قوارب الموت، إلى غياب فرص الشغل بهذه المنطقة إسوة بمدن أخرى. ولفت المتحدث نفسه، أن هذا التهميش الذي تعرفه قصبة تادلة ساهم في الفترة الأخيرة في تنامي ظاهؤة الهجرة السرية، مشيرا إلى أن الشباب يتحينون الفرصة للهجرة. وأوضح الفاعل الجمعوي، أن ظاهرة الهجرة غير مرتبطة بفترة معينة، بل إن الشبان الراغبين في التنقل صوب أوروبا مستعدون في كل لحظة لذلك وينتظرون توفرهم على مبلغ مالي يقدر في أربعة ملايين سنتيم لدفعه إلى الجهة التي تقوم بتهجيرهم عبر القوارب المطاطية. متاجرة بالبشر هذه الفاجعة لم تكشف فقط عن وجود تهميش وغياب للشغل بهذه المدينة، وافتقارها لمعامل وشركات يمكنها أن تحتضن مئات الشباب العاطلين، بل أبانت عن وجود شبكات منظمة للهجرة غير الشرعية تتاجر بالبشر. عند الحديث مع أبناء حي المرس الإسماعيلي بمدينة قصبة تادلة، أكدوا أنهم يأملون جميعا في الهجرة غير الشرعية ويتحينون الفرصة لذلك، لكن ما يعيق رغبتهم هذه هو المال الذي يجب تقديمه للجهة التي تنظم العملية. عملية تهجير الشباب ورميهم صوب المجهول وتعريض حياتهم للخطر في قوارب الموت، تستلزم تحقيقا من لدن السلطات للكشف عن العصابات التي تتاجر بالبشر في هذه المدينة.