نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تحقيقاً مثيراً حول ما أسمته إخفاقات الأمن البلجيكي في رصد الاعتداءات الإرهابية، التي شهدتها باريس في 13 نونبر 2015 وراح ضحيتها العشرات من المواطنين الفرنسيين والأجانب. وجاء في عدد الجريدة، ليوم الأحد- الاثنين، أنه في أعقاب هذه الهجمات، أجرت هيئة مراقبة الشرطة البلجيكية تحقيقاً حول مكامن الخلل في تتبع تحركات عدد من أعضاء الخلية الإرهابية المنفذة للعملية، بمن فيهم صلاح عبد السلام ذو الأصول المغربية. وتمكنت الجريدة الفرنسية من الاطلاع على التقرير السري لهيئة مراقبة الشرطة البلجيكية، الذي كشف عن تهاون جهاز الأمن البلجيكي في التعامل مع عدد من التحذيرات والمعلومات التي كانت بحوزته. ووقف التقرير على جملة من المعطيات، التي كانت متوفرة لدى بلجيكا خلال الأشهر الثمانية عشر، التي سبقت هذه الهجمات في باريس، وهي معلومات تركز على ثلاثة أعضاء من هذه الخلية بقيادة "داعش". ويتعلق الأمر بالبلجيكي من أصل مغربي عبد الحميد أباعود، أحد مدبري العمليات، الذي قتل في مداهمة تمت في سانت دينيس، بفضل تدخل المخابرات المغربية، إضافة إلى إبراهيم عبد السلام، الذي فجر نفسه في مقهى "كونطوار فولتير"، وشقيقه صلاح، الذي لا يزال على قيد الحياة والمتهم الرئيسي في محاكمة هجمات 13 نونبر، التي ستبدأ الأربعاء 8 شتنبر بباريس. يوليوز 2014 يكشف التقرير السري للغاية أنه قبل 16 شهراً من هجمات نونبر 2015، ستتلقى محققة من خلية "الإسلام" في قسم مكافحة الإرهاب في الشرطة القضائية الفدرالية ببروكسيل معلومات تفيد بأن شقيقين متطرفين يخططان للانضمام إلى "داعش" في سوريا. وقد سارعت الشرطية إلى إخبار رؤسائها شفوياً، وتم التعرف على الأخوين (صلاح وإبراهيم عبد السلام)، وهما فرنسيان من أصل مغربي ولدا ببلجيكا ويعيشان في مولينبيك. وكانا صديقي الطفولة للجهادي البلجيكي عبد الحميد أباعود، المنسق المستقبلي لهجمات 14 نونبر الذي كان في سوريا آنذاك. التقرير أشار إلى أن أول خلل كان يتمثل في عدم إعداد تقرير عن هذه المعلومات، أي أنها لم تكن توجد في أي سجل مكتوب، حيث كانت المحققة التي تلقت المعلومة قد اتصلت تلقائياً بهيئة مراقبة الشرطة البلجيكية بعد الهجمات للإبلاغ عن هذا الأمر، لكن لم يتم إجراء أي تحقيق أو إعداد تقرير حول الموضوع من قبل الشرطة. 15 يناير 2015 بعد أسبوع من الهجمات على مقر مجلة "شارلي إيبدو" بفرنسا، اقتحمت القوات الخاصة البلجيكية شقة بمنطقة والون، وقد تمت هذه العملية بسبب مخاوف من أن هذه الخلية الإرهابية التي تم التنصت عليها يمكن أن تمر إلى العمل الميداني قريباً، وقد توفي خلال العملية جهاديان بلجيكيان عائدان من سوريا. خلال هذه العملية، تم العثور على العديد من الأسلحة، وتم تحديد الجهة التي أصدرت الأوامر لهذه الخلية قبل أيام قليلة، وتبين أن عبد الحميد أباعود كان يقود العملية من اليونان، وبعد أن نجا بصعوبة من الاعتقال في أثينا في 17 يناير، تمكن من العودة إلى سوريا. 25 يناير 2015 بعد أقل من أسبوعين على هذه العملية، استقل إبراهيم عبد السلام طائرة إلى إسطنبول، ثم عبر إلى سوريا، وقد استفاد من هذه الإقامة القصيرة ليحضر تدريبات عسكرية ويلتقي بصديقه أباعود، وتم تصويره وبثه في شريط على الإنترنت تضمن لقطات من فرنسا يظهر فيها الأخوان عبد السلام يطلقان الرصاص على حائط، ويقولان: "هذا من أجل فرانسوا هولاند". قبل 11 شهراً من 13 نونبر، كانت الخلية الإرهابية تتكون، وعلى الرغم من المعلومات المترابطة، فإن شرطة مكافحة الإرهاب الفدرالية البلجيكية لم تكتشف مغادرة إبراهيم عبد السلام إلى سوريا، وبالتالي منعه من ذلك واعتقاله. 30 يناير 2015 في هذا اليوم، قام شرطي من مركز شرطة مولينبيك بإعداد أول تقرير عن صلاح عبد السلام، وكان الأمر الأكثر إثارة هو ورود اتصال هاتفي من شقيقه إبراهيم في 28 يناير لإبلاغه بأنه على وشك عبور الحدود بين تركياوسوريا. يذكر تقرير الشرطي في مولينبيك أن صلاح عبد السلام هو صديق لأباعود، أحد أكثر الإرهابيين المطلوبين في القارة منذ هجوم فيرفيرس ببلجيكا بداية 2015. وقد كان عبد السلام آنذاك موضوع إنذار وطني ثم دولي في نظام المعلومات الخاص بشنغن، لكن لم يتم الاتصال بالشرطي الذي يقف وراء هذه المعلومات من قبل أي خدمة حتى وقعت هجمات باريس. 9 فبراير 2015 في هذا اليوم، أعدت منطقة شرطة بروكسيل أول تقرير عن شقيق صلاح عبد السلام، جاء فيه: "كان إبراهيم قد غادر إلى سوريا قبل أيام قليلة، وقد اتصل بشقيقه صلاح من الحدود التركية السورية في 28 يناير 2015 قائلاً إنه مستعد لعبور الحدود". بدوره، خضع إبراهيم عبد السلام لإنذار وطني ودولي، وتم إرسال ملفيهما إلى مكتب المدعي العام الفدرالي. 16 فبراير 2015 عاد إبراهيم عبد السلام من سوريا في 7 فبراير، واعتقل في بروكسيل عقب مراقبة طرقية بعدما تم العثور بحوزته على قطعة من الحشيش، وصفحة مطبوعة من منتدى على الأنترنت بعنوان "إذن الوالدين من أجل الجهاد"، وتم وضعه تحت الحراسة النظرية فترة وجيزة بسبب حيازته المخدرات وورود اسمه في "المشاركة في أنشطة جماعة إرهابية". تم تفتيش منزل إبراهيم عبد السلام، وتم العثور على عدة أشياء ضمنها هاتف محمول ومفتاح USB. وقد تم حجز كل ذلك والاستماع إليه في اليوم نفسه. وحسب الصحيفة ذاتها، فإن استجواب إبراهيم عبد السلام لم يرد ضمن التقرير البرلماني، الذي جرى في فرنسا حول الحادث الإرهابي الذي شارك فيه نظراً لصعوبة تبادل معلومات سرية وذات حساسية خارج البلد، لكن جزءاً من ملف التحقيق الفرنسي يتضمن بعض معطيات الاستجواب الذي كان كالتالي: هل لديك أي تعاطف مع مقاتلي "داعش" في سوريا؟ لا لا، لا تعاطف.. هؤلاء ليسوا مسلمين. هل سافرت إلى الخارج مؤخراً؟ نعم في 27 يناير ذهبت إلى تركيا، ومكثت أربعة أيام بإسطنبول. بعد ذلك سافرت عبر سيارة أجرة بين إسطنبول وبودروم. ذهبت إلى المحلات التجارية والحانات. ألم تكن أبداً قريبا من الحدود السورية؟ لا أبدا هل لأخيك صلاح أي تعاطف مع الدولة الإسلامية؟ لقد نصحت أخي بخصوص الطريق الصحيح، سوف يتزوج وليست لديه أي نية للذهاب ليقاتل. خرج إبراهيم عبد السلام من مركز شرطة مولينبيك حراً بعدما كان استنتاج ضابط الشرطة الذي استجوبه أنه "لا يوجد ما يدعم المعلومات الواردة في التقرير الأولي فيما يتعلق بتطرفه ورحيله إلى سوريا". في العشرين من فبراير، تم إدراج إبراهيم ضمن قائمة "سوريا" لهيئة التنسيق لتحليل التهديدات. لكن الغريب في الأمر أنه لم يتم التحقق لتأكيد تصريحاته، كما أن الأشياء التي تم العثور عليها أثناء التفتيش تم الاحتفاظ بها في منطقة شرطة بروكسيل الغربية. بناء على طلب مكتب المدعي العام الفدرالي، تم فحص هاتف إبراهيم عبد السلام بطريقة سطحية، وبعد عدة أشهر لم يتم التوصل إلى أي نتيجة. لجنة التحقيق البلجيكية أثارت في تقريرها عدداً من الاختلالات الخطيرة في تدبير هذا الأمر، أبرزها أن الهاتف لم يتم العثور عليه لعدة أشهر إلى أن تم اكتشافه في مبنى شرطة بروكسيل الغربية بعد عام واحد من الهجمات في نونبر من 2016 وتم فحصه من جديد. وباستخدام برمجيات أقوى من تلك المستخدمة في المرة الأولى، تمكن محققون متخصصون من استعادة محادثة محذوفة على "فيسبوك" بين إبراهيم عبد السلام وعبد الحميد أباعود تعود إلى 1 يوليوز من سنة 2014، أي قبل أكثر من ستة أشهر من مشروع فيرفيرس الإرهابي وإقامة إبراهيم عبد السلام في سوريا. خلال هذه المحادثة كتب أباعود: أعلنا الخلافة، الله أكبر. فرد عليه إبراهيم: الله أكبر أنا قادم إن شاء الله، إلى اللقاء أخي. وفقك الله في طريق الجهاد ورزقك الشهادة، مزق هؤلاء الكفار وخذ منهم أكبر عدد ممكن من الخنازير وتعال انضم إلى جيش الله. طيب يا أخي إن شاء الله، سأتصل بك قريباً. هكذا كان هاتف إبراهيم عبد السلام يحتوي على معلومات مهمة، لو كانت معروفة في الوقت المناسب لأعطت توجهاً مختلفاً للتحقيق الجنائي. لكن الواقع أن الشرطة البلجيكية تجاهلت كل شيء وعقدت جلسات استماع روتينية معه. 25 فبراير 2015 تم استدعاء صلاح عبد السلام من طرف شرطة بروكسيل الغربية، وقد جاء إلى المركز وكانت جلسة الاستماع إليه كتلك التي تمت مع أخيه: لدينا معلومات تفيد بإمكانية ذهابك إلى سوريا من أجل الجهاد. هذا غير صحيح بالمطلق، لا أنوي الذهاب إلى سوريا للقتال. هل تعرف عبد الحميد أباعود. نعم، إنه رجل رائع. لقد عرفته منذ أكثر من عشر سنوات. لقد كنت أتسكع رفقته طوال الوقت. ما رأيك في عبد الحميد أباعود؟ بعيدا عن الجهاد، إنه شخص طيب، لكن الآن لا أتعاطف مع ما يقوم به. قام ضابط الشرطة بتحرير محضره وكتب فيه "بتاريخ 28 فبراير 2015، قامت منطقة شرطة بروكسيل الغربية باستجواب صلاح عبد السلام للتحقق من تطرفه المحتمل، فاتضح أنه لا يظهر أي علامات خارجية على التطرف، سواء في لباسه أو مظهره أو كلماته. لا يوجد دليل يدعم المعلومات الواردة في التقرير الأول بأنه ينوي الذهاب إلى سوريا للانضمام إلى الدولة الإسلامية." مارس 2015 تمت إحالة ملفي الأخوين عبد السلام، اللذين تم التعامل معهما بشكل منفصل، من طرف النيابة الفدرالية إلى جهاز مكافحة الإرهاب لتولي مسؤولية التحقيقين، وقد حدث عكس ما كان متوقعاً، إذ تم حفظ الملفين على الرغم من أنهما مصنفين ضمن "الملفات الحمراء". وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه، تلقت مديرية التعاون الشرطي الدولي في بلجيكا تقريراً من السلطات الفرنسية يحذر من أن إبراهيم عبد السلام تمت مراقبته، وكان برفقته شخصان على الحدود الفرنسية البريطانية. وقد تم نقل المعلومات إلى مختلف الدوائر البلجيكية دون الشرطة القضائية الفدرالية في بروكسيل التي تعتمد عليها شرطة مكافحة الإرهاب في بلجيكا، وبالتالي لم يتم اتخاذ أي إجراء بخصوص هذا التقرير. يونيو 2015 قرر المدعي العام الفدرالي في بلجيكا إغلاق قضيتي عبد السلام وشقيقه دون اتخاذ أي إجراء آخر، على الرغم من عدم تنفيذ العديد من إجراءات التحقيق المطلوبة، لا سيما استغلال الهواتف أو عناوين البريد الإلكتروني الخاصة بهما. بعد ذلك بشهر، تلقت الشرطة الفدرالية البلجيكية طلباً مثيراً للقلق من طرف جهاز استخبارات أجنبي متعلق بتهديدات بشن هجوم من قبل عشرات المقاتلين العائدين من سوريا خلال مناسبة الأحداث الجماهيرية. وكانت هذه المشاريع الإرهابية تستهدف عدة دول، بما في ذلك فرنساوبلجيكا، ويقودها عبد السلام أباعود. ولاحظت لجنة مراقبة الشرطة البلجيكية أن هذا الطلب تم التعامل معه على أنه مجرد طلب معلومات وليس على أساس أنه تهديد محتمل لبلجيكا. غشت 2015 أصبح التهديد أكثر وضوحاً، حيث أجرت الأجهزة الفرنسية مقابلة مع "عائد" من سوريا شرح لها بالتفصيل أن أباعود كان يدرب ويرسل جهاديين من سوريا لشن حملة من الهجمات في أوروبا. بعد هذا الأمر، أصدرت السلطات الفرنسية استنكاراً رسمياً موجهاً إلى السلطات البلجيكية، التي كانت قد فتحت ملفاً قضائياً بشأن أباعود في شتنبر، أي شهراً قبل وقوع الهجمات بباريس. وذكرت "لوموند" في تحقيقها أنها اطلعت على تقرير بلجيكي سري للجنة تراقب عمل أجهزة المخابرات البلجيكية، مشيرة إلى أن حوالي 15 جهازاً استخباراتياً أجنبياً كانت تعمل على مشاريع الهجمات المنسوبة إلى أباعود في ذلك الوقت، وكان فشلها في منع هجمات 13 نونبر يعتبر فشلا استخباراتيا عالميا. 30 غشت إلى 3 أكتوبر بين نهاية الصيف وبداية الخريف، قام صلاح عبد السلام بحوالي أربع أو خمس رحلات إلى المجر وألمانيا لمرافقة العشرات من عناصر كوماندوز هجمات باريسوبروكسيل المتسللين من سوريا إلى العاصمة البلجيكية. كانت إحدى هذه الرحلات موضوع تفتيش على الطريق إلى النمسا خلال التاسع من شتنبر، وكان صلاح عبد السلام قد جلب معه اثنين من الجهاديين من بودابست، بمن فيهم نجيم العشراوي، صانع أحداث 13 نونبر والمفجر الانتحاري في مطار بروكسيل. وقد بررت الشرطة الفدرالية للجنة مراقبة عمل الشرطة أن هذه المعلومات لم تتم معالجتها بسبب قرار الحفظ الذي اتخذه المدعي الفدرالي على الرغم من التحذير الدولي. 25 نونبر 2015 في العاشر والحادي عشر من نونبر سافر الأخوان عبد السلام إلى باريس لاستئجار الغرف التي ستؤوي منفذي العملية الإرهابية في الليلة السابقة، وفي 12 نونبر غادرا بلجيكا معا في قافلة من ثلاث سيارات لنقل الإرهابيين العشرة إلى باريس. وفي اليوم التالي (13 نونبر 2015) شارك إبراهيم عبد السلام في عمليات القتل، التي راح ضحيتها 39 شخصاً في باريس، مع عبد الحميد أباعود وشكيب عكروح، ثم أطلق حزامه الناسف في "كونطوار فولتير" دون أن يقتل أحداً. أودع صلاح عبد السلام ثلاثة انتحاريين أمام ملعب فرنسا، وتخلى عن حزامه الناسف واختفى، إلى أن تم اعتقاله بعد أربعة أشهر في 18 مارس 2016 بمولينبيك حيث بدأ كل شيء.