أتذكر أيام الاستمتاع بقراءة الروايات الجديدة. الزيارات الدورية للمكتبات لمعرفة الجديد. قراءة أخبار الإصدارات في الصحف والمراجعات النقدية في المجلات. كلمات المديح والتوصيات التي يتبادلها الأصدقاء عبر المدونات ومنتديات الإنترنت، والإعارات الدائمة للكتب بين المجتمعين في المقاهي. كان هذا قبل ظهور جوائز الرواية الدسمة ماديا، ويبدو كأن هذا كان منذ عصور خلت. كانت الرواية آنذاك ما تزال مصونة لا يقربها إلا من هو أهل لها. من يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب. جوائز الرواية الممنوحة آنذاك كانت محدودة القيمة المادية. قيمتها الرمزية كانت أكبر من أي مبلغ تقدمه للكاتب، وما كانت الجوائز آنذاك تغري المتطفلين بدخول حلبة الكتابة وما كانت تغري بعض الكتاب إلى الإفراط في الإنتاج لأجل تغطية كل الجوائز المتاحة. ربما كانت النيات طيبة خلف إطلاق تلكم الجوائز، بغية تكريم الكُتاب والرواية العربية، لكن يا للأسف جاءت نتيجتها عكسية، وعوض أن تساهم الجائزة في تطوير الرواية عادت بها إلى الوراء. خاصة وأن التنافس امتد للدول الراعية. أطلقت الإمارات الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بالبوكر العربية) وسرعان ما جاءت منافستها قطر بجائزتها كاتارا الأضخم ماديا من أي جائزة أخرى. وفي الوقت الذي صار فيه حدث توزيع جوائز كاتارا الضخمة يمر مرور الكرام، تثير البوكر العربية منذ موعد إعلان قائمتها الطويلة نقاشات ونزاعات وشتائم تتعزز مع ظهور القائمة القصيرة ولا تنتهي بموعد الإعلان عن الفائز. ودائما يظهر من الكتاب من يدبج المقالات نقدا في الجائزة التي لم تمنح له بعد، ومن يكيل المديح لجائزة أخرى اعتقادا منه بجدوى التزلف. أمام ضعف المقروئية عربيا، والأكثر من ذلك ضعف شبكات التوزيع وارتفاع أسعار الكتب نسبة إلى دخل الفرد، يصعب على الكاتب أن يتفرغ للكتابة التي ليس سهلا أن توفر له، مباشرة، دخلا ماديا لتغطية نفقات الحياة. لذلك تأتي الجوائز الأدبية لتوفر، ولو مؤقتا، الفرصة لبعض الكُتاب للتخلص من عبء التفكير القاهر في مصدر الدخل والتركيز على تشييد قصور إبداعية أرفع مكانة. لكن، ومن حيث أرادت الجوائز خدمة الكاتب والكِتاب أساءت لهم. صارت الرواية الآن حلبة لكل من هبّ ودبّ (ولا أقصد هنا إطلاقا الحجر على حق أي شخص في الكتابة والنشر) ليصارع بأنيابه ومخالبه، بضربات فوق الحزام وتحته، ليحصل على نصيب له من كعكة الجوائز بعيدا عن الجودة المأمول تحقيقها. حين أقول بأن جوائز الرواية عادت بمستوى الرواية إلى الوراء هذا لا يعني بالضرورة نقدا للجائزة في حد ذاتها ولا رفضا عدميا لفكرة الجوائز، لأن الجوائز بطبيعتها نتاج لمجتمعنا ككل ولن تشرد عنه. من العبث أن نتوقع منها المستحيل، ولو أن الحماس يدفعني أحيانا، بل كثيرا، إلى التعليق بامتعاض على نتائجها، لأني أشتهي أن تكشف لنا تلك الجوائز عن أعمال عظيمة، لكنها نادرا ما تفعل. لو أن فهمي صحيح لأليات اشتغال الجوائز فهي تتكون من ثلاث مستويات. الأول هو مؤسس ومالك الجائزة. عربيا يكون في الغالب مؤسسة حكومية أو وزارة. هذا المستوى يحدد الغاية من الجائزة وخطوطها العريضة، ويكون مسؤولا عن توظيف الأمانة العامة، التي تمثل المستوى الثاني. وظيفة أمانة الجائزة تحديد التفاصيل التنظيمية والإشراف على تكوين لجان التحكيم لكل دورة، التي تمثل المستوى الثالث. مهمة لجنة التحكيم تقييم الأعمال المقدمة. غالبا الأعمال المقدمة تصل إلى لجنة التحكيم بعد أن تفرزها الأمانة العامة، أو فريق فرز معين بواسطتها، بما يتناسب مع الشروط التنظيمية للجائزة. فرز الأمانة العامة، أو من يقوم محلها، قد يكون فيه نظر. لكن الحقيقة أنه ليس من حقنا الاعتراض على ذلك. صاحب الجائزة لديه أهدافه الخاصة، ومن لا يوافق عليها فليمتنع عن ترشيح نفسه للجائزة. لا أحاول هنا تقديم أي تبرير لطريقة عمل الأمانة العامة لأي جائزة، بل حتى توقعاتي حول طريقة عمل تلك اللجان قد يكون خاطئا تماما. تبقى المشكلة الأكبر، مشكلة جوائز الرواية والجوائز عموما، في عمل لجنة التحكيم. دورهم هو اختيار الأفضل من بين الأعمال المتوفرة بين يديهم. لكن هل فعليا يختار المحكمون دوما الأعمال الأفضل بأقصى درجة ممكنة من الموضوعية الفنية؟ (مثلا من المعروف أنه في الجوائز الدولية، مثل المهرجانات السينمائية، تجد المحكم العربي يصوت حصرا على الفيلم المشارك من دولته بعيدا عن أي تقييم موضوعي، ما لم تكن ثمة عداوة شخصية بين المحكم والمرشح، وهذا أيضا أمر شائع.) الانتقادات الدائمة للجوائز وما نراه في قوائمها تقول إن الجودة ليست هي المعيار الأول لدى أغلب لجان التحكيم. أو لو شئنا الدقة موضوع الجودة يصير نسبيا جدا، مائعا صعب التحديد. هنا يمكن أن تتدخل عوامل كثيرة، قد تكون في الغالب غير واعية، في انتقاء الأعمال التي يراها المحكمون هي الأفضل. الحقيقة هنا أيضا لا يمكننا الشكوى كثيرا، ففاقد الشيء لا يعطيه. مستوى القراءة العربية متدن، والثقافة العربية في تدهور مستمر. اختيارات لجان التحكيم هي نتيجة طبيعية لمستوى التدهور الذي تعرفه الثقافة العربية، ويشمل ذلك كارثة "الشللية" والضغوط التي يتعرض لها المحكمون من الناشرين أو الكتاب المشاهير. يغلبنا الحماس أحيانا ونقول ليت كذا وليت كذا. لكن، مجددا، فاقد الشيء لا يعطيه. ختاما، وعطفا على موضوع انتقادي للجوائز المضمن حبكةً في روايتي أحجية إدمون عمران المالح، عليّ أن أوضح رأيي احتياطا من أي سوء نية قد تكون عند البعض. أنا شخصيا لا أرفض وجود الجوائز الأدبية. سبق أن فاز مخطوط روايتي، ليل طنجة، بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل وقيمتها المادية صفر. ولا مانع لدي من ترشيح روايتي أحجية إدمون عمران المالح إلى أغلب جوائز الرواية المتاحة. هذا لا يغير شيئا من حقيقة موقفي. كما قلت أعلاه: إن لم أكن موافقا على مواقف أصحاب الجائزة سأمتنع عن الترشيح، أما مشاكل التقييم من جهة لجان التحكيم فلا يمكن حلها بمقاطعة الجوائز، وعلى الأرجح لا يمكن التأثير عليها بمثل مقالات الرأي هذه. (*) روائي مغربي، صدر له: كافكا في طنجة (القاهرة، 2019). أحجية إدمون عمران المالح (بيروت، 2020) [email protected]