ظل تغلل العسكر في المواقع الحكومية وفي المجالات التي لاتدخل عادة ضمن مصالح القوات المسلحة،مثل الإدارة العامة،والبنيات التحتية،والخدمات، والشرطة،وأجهزة حفظ النظام العام،وفي مجالات الاقتصاد التابعة للدولة أو الحرة، من علامات الأنظمة الديكتاتورية. ورغم أن مبارك عمل على التحكم في تغلغل القوات المسلحة في مفاصل الدولة الإدارية والاقتصادية،وفي الحياة السياسية،إلا أن طبقة الضباط،على العكس من كل ذلك،زاد نفوذها وتغلغلها في الاقتصاد السياسي لمصر.فقد أصبح كبار الضباط المتقاعدين يمثلون الأغلبية الساحقة من الموظفين السامين والدبلوماسيين،والمحافظين،ورؤساء ومديري وأعضاء مجالس الشركات الحكومية،كما يشكلون نسبة كبيرة من الوزراء ووكلائهم،والمدراء العامين، وكبار العاملين في الأجهزة الأمنية،وأصحاب مناصب رئيسة في مجالات الثقافة والصحافة والتلفزيون والإذاعة.(أبحاث ودراسات الدكتور أنور عبد الملك عن الجيش المصري.)؛فمثلا جل الملحقين الدبلوماسيين المصريين،قبل ثورة 25 يناير، هم ملحقون عسكريون من القوات المسلحة. كما تضخم عدد الوزراء ذوي خلفية عسكرية؛إذ يحتكر ضباط القوات المسلحة حقائب :الدفاع،والإنتاج الحربي،والطيران المدني،والتنمية المحلية.كما أمسكوا لمدد طويلة بوزارات مدنية مثل:النقل،والاتصالات،والبيئة،والتضامن الاجتماعي،مما يعني عسكرة السياسة والحكومة ومشاريع التنمية إلى أبعد الحدود. هذه العسكرة التي كانت تؤدي وظيفتين أساسيتين هما:حماية السلطة الرئاسية،والحفاظ على نظام مبارك،من خلال الضباط الموالين له،وتعميق التغلغل البيروقراطي في مفاصل الدولة لضمان الدخل المالي لكبار الضباط،وتأمين مصادر تمويل القوات المسلحة،عبر اختراق أجهزة الخدمة المدنية، والسيطرة على الخدمات والبنيات الأساسية،والأشغال العامة،إضافة إلى السيطرة الحصرية على المشروعات الاقتصادية الضخمة المتعلقة بالمؤسسة العسكرية. ورغم أن أجهزة الرقابة في النظام المصري متعددة؛خاصة هيأة الرقابة الإدارية التي تحقق عادة في الفساد المالي والإداري،إلا أن القوات المسلحة لاتخضع لأية رقابة إدارية ومدنية إلا رقابة الرئيس،والذي كان دائما عسكريا حتى انتخب الدكتور محمد مرسي،كأول رئيس مدني لمصر.لذا كانت الرئاسة تحتكر الرقابة على تدبير القوات المسلحة.ويماثل دور رقابة الرئيس دور هيأة النيابة الإدارية والتي أنشئت سنة 1954 لإجراء تحقيقات قضائية في الفساد المالي والإداري في جهاز الخدمة المدنية،كما يتقاطع مع وظائف الجهاز المركزي للمحاسبات،والذي يرفع تقاريره حصرا إلى الرئيس منذ سنة 1988. وإذا كان مسؤولو وموظفو الجهاز المركزي للمحاسبات من المدنيين،خاصة المحامين والمحاسبين المؤهلين،فإن مسؤولي وموظفي هيأة الرقابة الإدارية هم من القوات المسلحة؛من خلال خليط من ضباط الجيش والشرطة،مركزيا ومحليا.وقد كان نظام مبارك يستعمل هيأة الرقابة الإدارية لترهيب المعارضين والضغط عليهم ،خصوصا المستثمرين ورجال الأعمال وغيرهم.كما قد يحدث مبارك تعديلات مفاجئة على مسؤولي الهيأة كلما مست تقاريها أحد مواليه ورموز نظامه؛والأمثلة على ذلك كثيرة؛مثل التحقيق في قضية فساد ضد وزير الإسكان إبراهيم سليمان سنة 1996.وتمثل هيأة الرقابة وسيلة لاختراق ضباط الجيش لإدارات الدولة،مما حول بعض الوزارات والإدارات العمومية إلى شبه إقطاعيات عسكرية،يشغل فيها الضباط السابقون مهاما عليا. كما يمتد تغلغل أعضاء الجيش المصري في أجهزة الحكم المحلي؛إذ يسيطرون على جميع مستويات السلطة البلدية،سواء على صعيد المحافظات أو على صعيد أحياء المدن والأرياف،من خلال احتكار وظيفة الحفاظ على النظام العام.كما يجسد هذا التغلغل قبضة الرئيس على الشعب، خصوصا وأن المحافظين يمثلون الرئيس،ويعملون على الحد من سلطة الحكومة وكذا السلطات المدنية العامة والمحلية.كما أن من مهام المناطق العسكرية الخمس التي قسمت إليها مصر هي التنسيق مع المحافظين لحفظ "الأمن الداخلي". فالسلطة ،وفق التقسيم الترابي لمصر (27 محافظة)،تتدفق حصرا من الأعلى إلى الأسفل؛ فمحافظة القاهرة مثلا مقسمة إلى أربع مناطق إدارية،يرأس كل واحدة منها نائب محافظ،وثلاثة منهم ضباط سابقون في الجيش،ومن القوات البرية بالتحديد.ويتشكل هيكل المحافظات كله وفق منطق التعيين؛إذ يعين الرئيس المحافظين،ويعين رئيس الوزراء رؤساء المراكز والمدن والأحياء،ويعين المحافظون رؤساء القرى،ويعين وزير الداخلية العمدة في القرى الصغيرة التابعة والتي لاتتوفر على مجالس محلية.ويتكون المجلس المحلي من موظفين ذوي مهام تنفيذية،ويشتغلون ،بشكل مواز،مع مجالس شعبية منتخبة تضفي "مسحة أو مزحة ديمقراطية" على هيكل إداري مركزي وبيروقراطي. فدور المجالس المنتخبة دور استشاري،يقدم "نصائح" للهيئات المعينة،ويوافق "إسميا" على الميزانيات المحلية.أما القرار فبيد الهيئات التي تعج بضباط الجيش ومختلف الدرجات العسكرية؛إذ يحتكر العسكريون وظائف:نائب المحافظ،ومدير مكتب المحافظ،والأمين العام والأمين العام المساعد للمجلس المحلي في المحافظة،سواء في المراكز،أو في المدن،أوفي أحياء المدن والقرى.وتحتكر المحافظة،التي يرأسها محافظ بخلفية عسكرية،ومعين من الرئيس،الإشراف على كل الخدمات الاجتماعية؛في التنمية والصحة والرعاية والتربية؛إذ يعمل بجوار المحافظ مدراء للتخطيط والعقار والشؤون المالية والمشاريع والشؤون الفنية والهندسية. كما يتحكم المحافظون في فروع الشركات العمومية والمؤسسات الحكومية الأخرى،والتي أغلب موظفيها من الضباط ومن المتقاعدين من القوات المسلحة،أو من عناصر من أجهزة الشرطة والأمن.وقد نافست "الدولة الأمنية" التي أحدثها مبارك هذا التغلغل من دون أن تلغيه أو أن تقلل منه حتى،ولكن ظل التنافس شرسا وشديدا بين الدولتين؛"دولة الضباط" و"الدولة الأمنية" على الموارد وعلى النفوذ المؤسساتي،مع إظهار التكامل في الصورة الخارجية للحفاظ على نظام مبارك. وظل ضباط الجيش يتحسسون خطر الدولة الأمنية على نفوذهم بزعامة وزارة الداخلية،لذا عملوا على اختراقها والتحكم فيها عبر زرع ضباط القوات المسلحة في مديريات المخابرات العامة،وزرع العسكريين المتقاعدين في هياكل الحكم المحلي.لذلك فأول عمل أنجزه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد سقوط مبارك هو تحجيم الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية خصوصا: "مباحث أمن الدولة"،و"الشرطة"،و"قوات الأمن المركزي"،وفي المقابل تم الدفع بالخابرات العامة والمخابرات العسكرية إلى الأمام والأخذ بزمام المبادرة والشأن الأمنيين،كذروع أمنية عسكرية بامتياز،تم إسناد شؤون الأمن الداخلي إليها،في انتظار استكمال "تأهيل" أجهزة الأمن الداخلي لتكون موالية بالكامل للقوات المسلحة،وعدم تكرار تجربة مبارك الذي أنشأ دولة أمنية منافسة لدولة الضباط. لذا نلحظ كيف يدفع الجيش الان بقوات الداخلية إلى إنجاز المهام الأمنية،مواجهة المتظاهرين السلميين،واعتقال المعارضين...رويدا رويدا.