أوّلا، يبدو من الإيجابي أن نشير إلى سياق اختيارنا لهذا الموضوع، واختيارنا لأول مرة الحديث عن شخصية عامة. والسياق هو ما أصبح يثيره بعض المحسوبين على الجسم الحقوقي بالمغرب والمسترزقين منه من نقاشات فارغة حول أنّ المندوب العام الحالي لإدارة السجون وإعادة الإدماج يتطاول على اختصاصات بعيدة عنه، وأنه يتدخل في أمور بعيدة عن المندوبية العامة لإدارة السجون. لهؤلاء المتاجرين في قضايا حقوق الإنسان نقول بأنه فرق كبير بين أن تكون مسؤولا إداريا، وبين أن تكون مسؤولا إداريا وطنيّا؛ فالمسؤول الإداري يمكن جلبه من دولة أخرى أجنبية ونسند له مهمة تدبير تلك الإدارة أو المؤسسة. ولكن أن تكون مسؤولا إداريا وطنيا، فالأمر يختلف تماما، فأنت في هذه الحالة تكون مطالبا بتنفيذ المهام المسندة لك على رأس تلك الإدارة، إضافة إلى مهمة أخرى تفرض عليك وطنيتك وحسك الوطني عندما ترى أعداء الوطن يحاولون استخدام الإدارة التي أنت على رأسها في توجيه ضربات ولكمات تحت الحزام للوطن. وحين يتعلق الأمر بالوطن، فلن تكون حينها مطالبا باستئذان أي كان قبل الرد على خصوم الوطن. فلم يعد يخفى على أحد، سواء من الفاعلين السياسيين أو الحقوقيين، بل وحتى أبسط المواطنين بالمغرب، أن سجون المملكة قد عرفت قطيعة تامة ونهائية مع مرحلة ما قبل المندوبية العامة. وتتجسد هذه القطيعة والتغيير في مختلف المجالات: سواء التشريعية منها، أو الاجتماعية، أو التنظيمية، أو اللوجستية...الخ. وفي خضم هذه التحولات التي عرفها قطاع السجون كان لا بدّ من توفّر القطاع على قيادة حكيمة وكفؤة ومتمرسة وعارفة بمختلف أبجديات التسيير الإداري، بما فيها حتى القدرة على التواصل والقابلية للأخذ والردّ مع المحيطين الداخلي والخارجي؛ إذ ليس من السهل الخروج من مرحلة كانت فيها السجون منغلقة تماما على نفسها وعلى من خلف جدرانها، والتحوّل إلى مؤسسات سجنية اجتماعية منفتحة على المجتمع انفتاحا تاما. فالدولة المغربية وهي تتخذ قرارها الشجاع بفتح أبواب مؤسساتها السجنية أمام الإعلام والهيئات السياسية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني بمختلف ألوانها، كانت تعرف ما ستحمله هذه القفزة النوعية من مشاكل، وما ستثيره من قلاقل وتسيله من مداد. ولهذا، كان من الضروري جدا التفكير في قيادة حكيمة ومتمرسة ولها من التجربة والمؤهلات العلمية المهنية ما يُنْجحُ هذه المرحلة. وفي هذا السياق، كانت الحكمة والنباهة المولوية لجلالة الملك محمد السادس في محلها مرة أخرى بتعيينه للسيد محمد صالح التامك على رأس المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج؛ فهذا الاختيار المولوي لم يكن اعتباطيا أو تلقائيا، وإنما جاء وفق دراسة عميقة للمشهد السياسي والاجتماعي والحقوقي بالمغرب. فالرجل حاصل على دكتوراه في تحليل الخطاب، مع وضع خطين أسفل عبارة تحليل الخطاب، مما مكّنه من الإحاطة إحاطة شاملة بمختلف الخطابات والحوارات والنقاشات التي سبقت تعيينه حول واقع السجون بالمغرب، وهو الأمر الذي سمح له بتكوين نظرة ملمّة عن هذا القطاع الحسّاس وما يعرفه من اختلالات وما يحتاجه من عمليات جراحية حتى يتسنى له التعايش مع التحولات التي شهدها ويشهدها المجتمع المغربي. كما أنّ تجربته كسفير لصاحب الجلالة بعدد من الدول الأوروبية مكنته من الاطلاع على أوضاع السجون بتلك الدول وتجاربها الإيجابية في هذا المجال، إضافة إلى ما راكمه من تجربة وخبرة مستفيدا من مساره كوال وعامل على عدد من أقاليم المملكة. وهي التجربة التي لن نبالغ إذا ما قلنا بأنها جعلته أول مسؤول بالقطاع يأتي حاملا لمشروع إصلاحي شامل ومتكامل من شقّيه الأمني والإنساني. وما يعلل طرحنا هذا هو ما خلقه هذا المندوب العام الحالي من دينامية إيجابية في فضاءات المؤسسات السجنية لا يسعنا المكان والزمان لسردها وتعدادها، ولكننا سنعرّج على بعضها: الرفع من الطاقة الاستيعابية وتأهيل البنية التحتية للسجون: حيث عمل السيد محمد صالح التامك منذ توليه زمام الأمور بالمندوبية العامة للسجون على خلق عدد من المؤسسات السجنية التي ألحّ وأصرّ وعمل على جعلها تتوفر على كافة الوسائل التي توفر للنزلاء ما يكفل إنسانيتهم ويحفظ كرامتهم. وعمل أيضا على تأهيل المؤسسات القديمة. تأهيل وتطوير برنامج تغذية النزلاء: حيث سهر المندوب الحالي على ضمان توصل السجناء بوجبات غذائية متكاملة من خلال القيام بالتتبع والمراقبة اللازمة على المستوى المحلي. موازاة مع ذلك، أوصى الرجل بوضع برنامج لتأهيل المطابخ من حيث البنية التحتية والتجهيزات، واعتماد برنامج غذائي أكثر ملاءمة-من حيث السعرات الحرارية-لحاجيات المعتقلين على اختلاف فئاتهم انسجاما مع توصيات ومعايير منظمة الصحة العالمية، إلى جانب برمجة إحداث أو بناء محلات جماعية للأكل لتجاوز الإشكالات المرتبطة بظروف توزيع الوجبات. إطلاق مجموعة من الورشات والمحترفات ذات الطابع الاجتماعي التأهيلي: وعلى سبيل المثال لا الحصر، ابتكار المندوب العام الحالي لفكرة قافلة الصحراء المغربية بالمؤسسات السجنية، وهي الفكرة العبقرية التي مكّنت من إشراك النزلاء في القضايا الوطنية المحورية وتحسيسهم بأهميتها. ثم الجامعات الصيفية داخل المؤسسات السجنية، وغيرها من البرامج التربوية والثقافية والدينية. إنّ ما شهده المغرب في السنوات الخمس الأخيرة من حراك سياسي واجتماعي، وما صاحبه من نعرات أشعلها بعض الجواسيس والخونة الذين يخدمون أجندات أجنبية معادية للوطن ولوحدته واستقراره، قد كان له أثره على المؤسسات السجنية، ولا شك أن من حظ الوطن أن تواجدت على رأس مؤسساته السجنية تلك شخصية كشخصية محمد صالح التامك، الرجل الذي ضحّى بمساره وسنوات من النضال والكفاح في سبيل تلجيم أفواه أعداء الوطن، وأنا متيقّن أن أيّ شخص مكانه كان سينسحب من المشهد ويفتح المجال أمام هؤلاء الخونة للنيل من هذا الوطن، ولكن الرجل اختار أن يكون شمعة تحترق ليضيء الوطن.