شاءت الأقدار أن يكون أول شهر في التقويم الهجري من كل عام محطة تستوقف العقول والأذهان؛ فمن صائم فرحا بنجاة كليم الله النبي موسى، ومن حزين باك على الحسين بن علي! هذه الازدواجية تجسيد للانشطار الطائفي في الجسم الإسلامي، الذي أصابه قبل واقعة الطف بكربلاء بستة عقود من الزمن. لربما نكون "ماضويين" كما يصفنا الحداثيون ونحن نخوض في ماض سحيق، ولربما قد نسيء إلى الأموات كما يعتقد الكلاسيكيون الذين يستشهدون كلما مرة بالآي "تلك أمة قد خلت"؛ فنكون بذلك بين كماشتين أصلها في المذهب الواحد ثابت وفرعها في تاريخ الاستبداد وكبح التنوير ممتد. إنه يكفي أن تذكر واقعة الطف بكربلاء كي يقف العقل المسلم المأزوم شاردا؛ لأنه في غالبه تلقى مسلمات وعبر آليات معينة منذ قرون من الزمن جمدته في "سجن الماضي" كما سماه محمد حجي، فجعلت منه "عقلا فقهيا" بتوصيف محمد عابد الجابري لا يستطيع أن يذهب بعيدا عن حضيرة الشيخ والسلطان وولاية ووصاية الفقيه. ويكفي أن تذكر الحسين وأهله وأصحابه لكي تتميز الآراء والمواقف، التي تكشف عادة معادن الناس في الوقت الذي تصعب فيه معرفة ما تخفي الأنفس، كما قال نجيب محفوظ. في شأن الواقعة، قال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 هجرية في كتابه "العواصم من القواصم": "انعقدت البيعة شرعا ليزيد بن معاوية، فبايعه الناس وتخلف من تخلف". وفي موضع آخر من الكتاب يورد: "إن الحسين لم يستمع إلى أعلم أهل زمانه عبد الله بن عباس، ولم يحظره ما أنذر به جده من الدخول في الفتنة"، ثم يسترسل ويتساءل: "ألم يعرف الحسين وهو يرى أن الخلافة خرجت عن أخيه الحسن رغم أن معه جيوش الأرض وكبار الخلق وأنها لن ترجع له بأوباش الكوفة". أما رئيس القضاة عبد الرحمن ابن خلدون المتوفى سنة 634 هجرية، وإن كان طه حسين يأخذ عليه أنه لم يكن له رأي واضح في ما يميز المجتمع عن الأفراد؛ فإنه كذلك ذهب في كتابه "المقدمة" إلى تخطئة الحسين بن علي في خروجه على يزيد بن معاوية، وفسر ذلك بقوة عصبية بني أمية على بني هاشم آنذاك. كذلك الأمر ذهب ابن تيمية الحراني المتوفى سنة 728 هجرية، في المجلد الرابع من "منهاج السنة" في الصفحة 278، إلى أن "معاوية كان أحسن إسلاما من أبيه... ويزيد لم يأمر بقتل الحسين ولم يظهر الرضا به". لكن في مقابل هذه الآراء لعلماء وقضاة وفلاسفة المسلمين في الحسين بن علي، قال الزعيم الهندي المهاتما غاندي المتوفى سنة 1948 من الميلاد: «علمني الحسين أن أكون مظلوما لا ظالما لأنتصر»، وقال أيضا: "لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين". في سياق ذكر غاندي ومع قناعتنا الراسخة بأن الانتماء إلى أية أصول وأعراق بشرية لا يقلل من مكانة الإنسان، إلا أن الأبحاث العلمية أثبتت من خلال دراسة الحمض النووي أن السلالة الأبوية لصدام حسين تعود إلى جذور هندية. وعليه، فإن "الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، كما قال أستاذ الحسين علي بن أبي طالب. بالتالي، ومن أجل هذه الأسباب، إذا كان إجماع كل المسلمين، شرقا وغربا وبكل طوائفهم، حاصلا حول أحاديث النبي الأعظم الذي هو أستاذ علي نفسه حين يقول: "الحسين مني وأنا من حسين" ويقول: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا".. فإن ذلك بمثابة معيار أو "حمض" نبوي شريف يكشف سلالة المتشدقين والرجال. حرر عقلك