دخل أستاذ الترجمة إلى أحد مدرجات جامعة محمد الخامس بالرباط لإلقاء درسه في ذلك الصباح الشتوي البارد. وما أن استقر الطلبة والطالبات في مقاعدهم وأخذوا النص المطبوع بين يديهم، حتى نظر الأستاذ إليهم وأشار بأصبعه كيفما اتفق إلى أحد الطلبة الجالسين في الصفوف الأمامية، (وكان طالبا عرفت عنه أنه من أصل فقير، ويجهد نفسه في التزلف إلى شرذمة من أبناء الميسورين)، وطلب منه أن يقرأ النص المكتوب باللغة العربية. وكم كانت دهشة أترابه عظيمة لما بدأ الطالب يقرأ النص بلهجة متكلفة فيها فخفخة وعظمة، كتلك التي ينتهجها بعض المراسلين في القنوات الفضائية الخليجية. ومع تتالي الجمل سرت في المدرج هستيرية من ضحك صاخب وقف الأستاذ حيالها مستغربا مدهوشا موزعا بين استنكارها والاستسلام لعدواها.. وزاد المدرج غرقا في القهقهة العالية المجلجلة لما أنهى الطالب قراءته وكأنه كان يغطي أحداث حرب ضارية، متعمدا أن يبالغ في تمديد نطق الحروف الأخيرة: حسن زيتوني... إيم بي... سي... وقف الأستاذ ينظر إليه في بلاهة، واعتقدت للحظة أنه سيطرده من المدرج، غير أنه لم يفعل بل أذعن بدوره لابتسامة مستغربة، وهو يرفع إحدى يديه إلى صدغه ويحركها بكيفية دائرية، تعني أن الشاب أحمق أخرق. تأسفت لتصرف الأستاذ، إذ لو مر ذلك الحدث في زمن غير ذلك الزمن، لكان الشاب من عداد المطرودين على أقل تقدير. وهنا استرجعت صورة "موسيو هيربوتي"، الحارس العام الفرنسي لثانوية مولاي إسماعيل بمكناس في منتصف الستينيات. كان الرجل في عقده الخامس، بملامح قاسية كأنه ضابط خرج لتوه من أحد مخافر النازيين. فقد دأب على أن يقف دائما على عتبة باب الثانوية أنيقا رشيقا بعينين زرقاوين ثاقبتين مسلطتين كالصقر على الداخلين والداخلات، حتى إذا ما رأى ما لا يعجبه من هندام أو سلوك أنزل بساحة صاحبه الويل والثبور. ولم يكن الرجل وحده على هذا الحال، بل كان لمعظم الأساتذة من الجدية والمهابة ما كان يخول لهم فرض احترامهم على كافة التلاميذ. قلت في نفسي: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم"... في الاستراحة، بدا لي الشاب مغتبطا وكأنه قام بإنجاز باهر، سيما حينما رأى بعض أصدقائه يداعبونه ويحيطونه بهالة من الإعجاب الشديد. لست أدري لماذا كان ينظر إلي خلسة وهو يتقبل دعابات أترابه. ربما لأنه رأى على ملامح العسكري القديم الذي كنته آثارا بادية من الاستياء. وبعد برهة، تقدم إلي وقال بدون مقدمات: ما رأيك في هذا المقلب الذي قمت به؟ أتريد رأيي حقا؟ بكل تأكيد... قل لي قبل هذا؟ ماذا يفعل أبوك وكم عدد إخوتك وأخواتك في المنزل؟ ابتسم وكأنه لم يفهم قصدي فقال: أبي شرطي بسيط وعدد إخوتي وأخواتي ثمانية، أربع إناث وأربعة ذكور. أنا في عمر والدك، ورغم ذلك يصعب علي أن أظهر أمامك بمظهر الورع الناصح الذي يعطي الدروس... يعني؟ يعني كان من الأحرى أن تركز على دروسك، وتنأى عن لعب دور المهرج، الحياة ليست ضحكا ولعبا، ومن تعاشرهم أبناء أثرياء، مستقبلهم مضمون بدراسة أو بغير دراسة، أما أنت فليس لك بديل عن... تبرم الشاب من كلامي وقد بدا عليه حنق شديد. ومرت الأيام تباعا، فانصرمت من عمر الزمان خمس سنوات، وذات يوم وأنا في طريقي إلى موعد كان لي مع كريستين وأبرهام السرفاتي بالمحمدية، حيث كانا يسكنان في فيلا تتواجد بحي راق مجاور للبحر، إذا بي ألتقي عرضا بشرطيين شابين كانا يتجولان بين الفيلات الفاخرة في إطار تأمينهما لحراسة المكان. استوقفني أحدهما وأزاح القبعة عن رأسه وهو يهتف باسمي باسما. لم يكن الشرطي الشاب سوى زميلي في السنة الأولى من الجامعة، "حسن زيتوني" المغشوش... ماذا تفعل هنا؟ ها أنت ترى... أؤمن حراسة الميسورين... تقاعد أبي بعدما أفنى عمره في ضمان سلامتهم، وها أنا اليوم أخلفه عملا بالمقولة المشهورة: "صنعة بوك لا يغلبوك"... قلت مبتسما بمرارة: لا... لقد غلبوك... قال: فعلا... أعترف أني "ذهبت مع الخاوي"، الآن والآن فقط، أدركت فظاعة الغبن، لكني أعدك بأني سأكون كوميسيرا كبيرا. قلت مداعبا: بشرط ألا تكون جلادا تعلق الناس من أرجلهم كما تعلق خراف العيد... رد علي ضاحكا وهو ينصرف: الآن، سأقول لك لا... ولكن غدا من يدري؟