يدرج اقتصاد المغرب ضمن الاقتصاديات التي ترتكز على الأنشطة الفلاحية؛ وهو ما يعني بأن غالبية سكانه يعيشون مما تنتجه الأرض والحيوان. وهذه الأنشطة ترتبط وتختلف حسب طبيعة المنطقة التي تمارس فيها العائلة الفلاحية نشاطها. بعض مناطق الشمال تتميز بزراعة القنب الهندي "الكيف"، والبعض الآخر بإنتاج زيت الزيتون، وفي مناطق أخرى من الجنوب تتميز بإنتاج التمور والحناء وزيت أركان وغيرها. هذا التنوع الطبيعي يمنح للمغرب إمكانية توفير أمن غذائي وطاقي واستقرار اجتماعي وسياسي الذي تفتقده مجموعة من الدول خاصة الدول الإفريقية. كما أن هذه الثروة الطبيعية والبشرية الهائلة تمنح للبلد فرصة حقيقية لتحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للسواد الأعظم من المواطنين/ات في مختلف ربوع البلد. بيد أن الإكراهات العديدة التي تتخبط فيها الأسر في البوادي والجبال والواحات تؤدي بالمغرب إلى تفويت هذه الفرص للنهوض الثقافي والاجتماعي. التقلبات المناخية والاستغلال المفرط للمياه الجوفية يهدد الزراعات المعيشية واستقرار الأسر المتواجدة في المجال القروي والجبلي وألواحي، وكذا على نمط عيش الرحل. فالأرض تمنح الدخل ليس فقط للفلاح والكسّاب بل لكل أفراد العائلة لأن الكل يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الرفع من المنتوجية والدخل الأسري. لذا تجد أنه عندما يكون الموسم الفلاحي مزدهرا، فالاقتصاد المحلي يزدهر وينتعش وهذا يتجلى في الأسواق والمواسم حيث تعرف حركة ازدهار ورواج اقتصادي غير عادي، مما يؤثر إيجابا على المدن المجاورة لهذه المجالات؛ فتعرف هي الأخرى انتعاشا اقتصاديا ملحوظا. فتنعكس الانتعاشة الاقتصادية على الوضعية الاجتماعية للأسر كتزايد عدد الأفراح والأعراس. إنها دورة اقتصادية متكاملة تتحكم فيها الطبيعة والارتباط الوجداني بالأرض. عندما يصنف المغرب على أنه بلد فلاحي، فليس ذلك مردّه فقط إلى بنية الناتج الداخلي الخام الذي يسيطر عليه القطاع الفلاحي والغاباوي والصيد البحري، بل إلى طبيعة البنية الاجتماعية المتحكمة فيه وإلى طبيعة العلاقات الاقتصادية التقليدية التي لا زالت تهيمن وتطبع مجالاته خاصة مجاله الغير الحضري؛ وهكذا إذن تجد أن الجميع بمن فيهم سكان المدن يفرحون بتساقطات الأمطار لأن في وجداننا جميعا حب للأرض واحترام لمجهودات الأسر المتواجدة في المجال القروي والغاباوي والجبلي وألواحي، وكذا الرُّحل. يكون عيد الأضحى إذن فرصة للكسّاب بما فيهم الرُّحل أن يوفر مدخولا موسميا مهما يُعينهم على الالتزام بمتطلبات أسرتهم التي ساهمت بشكل كبير في ذلك (الزوجة، الأولاد، الأبوين...) وفي تنشيط الدورة الاقتصادية وتقوية التكافل الاجتماعي. فالعيد مناسبة دينية لها ميزة اجتماعية واقتصادية خاصة بعدما انتقلت بنية الأسرة من أسرة موسعة إلى أسرة نواة. كما أن التحول الديموغرافي للساكنة ووثيرة التمدن السريعة التي تعرفها بعض جهات المغرب أثر بشكل كبير على مجموعة من العادات والتقاليد. ويرجع السبب أيضا إلى طبيعة النظام الاقتصادي السائد، حيث إنه استطاع أن يغيّر من تمثلات الأسر والمجتمع للعيد فتحول إلى مجال للتنافس الاقتصادي والتباهي الاجتماعي والتعبير عن الانتماء الطبقي. فتحولت مناسبة العيد إلى عبء اقتصادي يثقل كاهل العديد من الأسر المغربية خاصة تلك ذات الدخل المتوسط والفقيرة. وهكذا تحولت أيام العيد من أيام لصلة الأرحام والفرح والتضامن إلى أيام طويلة تؤرق مضجع الأسر وتؤلم الأطفال. مع التحولات البنيوية التي يعرفها المجتمع، تنامت عدة ظواهر اجتماعية خلال الأيام التي تسبق يوم العيد كالسرقة والنصب وازدياد أعداد المتسولين/ات. ظواهر تزداد سنة بعد سنة، لكنها لا يتم تناولها بالجدية الكافية خاصة من طرف المسؤولين عن الشأن العام، فهم يفضلون ترقيع الأمور بدل معالجتها بالحزم المطلوب كصرف أجور الموظفين قبل متم الشهر كما جرت العادة، وماذا عن باقي الأجراء والأجيرات؟ وماذا عن الأسر التي تعيش من القطاع الغير المهيكل؟ باختصار، هل الحكومة تسيّر فقط من هُم في القطاع العام، والباقي ليدبّر شأنه ومحنته؟ في الواقع، ليس لديّ أرقام مضبوطة تبين مدى استفحال ظواهر السرقة والنصب وازدياد أعداد المتسولين/ات أيام العيد. بيد أنه يمكنك أن تلاحظ أنه خلال المسافة التي تقطعها ذهابا وإيابا بين مقر العمل والمسكن تجد أن عدد المتسولين/ات قد ارتفع. فهناك وجوه لم تألف رؤيتها عند إشارات المرور أو عند البقال أو في السوق الأسبوعي... إن ما وقع السنة الماضية أيام العيد عند سرقة الأكباش، لا يمكن تجاهله أو اعتباره حدثا عابرا لا يستدعي منّا وقفة تأمل أو لحظة لإزعاج ضمائرنا. إنها أحداث ومظاهر أصبحت تزعج كل من يعشق هذا الوطن ويطرح معه عدة أسئلة حول مصيره. هل يمكن إعادة فهم دلالة عيد الأضحى؟ بصيغة أخرى، كيف يمكن إعادة ردّ الاعتبار للعيد لكونه قيمة دينية واجتماعية مهمة، وأيضا اقتصادية للفلاح والكساب والرُّحل؟ هل يمكن أن تكون مناسبة العيد فرصة للرفع من الإنتاجية والدخل الأسري في المجال القروي والجبلي وألواحي، وأيضا مناسبة تسودها قيم التسامح والعيش المشترك والعدالة الاجتماعية؟ كيف يمكن أن تتدخل الدولة لتحقيق المساواة والعدل لاقتناء أضحية العيد أو للاستفادة الجميع بفرحة العيد حيث لا أحد يحس بأنه خارج اهتمام الدولة؟ ألا يمكن خلق أمكنة جماعية لنحر أضحية العيد، وتدبير "صدقة العيد" بشكل لا يمس كرامة المواطن(ة)؟ ألا يمكن أن يكون التدبير الجمعي لهذا الحدث المهم حلاّ لعدة مشاكل اجتماعية واقتصادية وبيئية؟ إن العيش المشترك والبناء المجتمعي يتطلب تضحية البعض من أجل الكل خاصة في عالم يتعقد أكثر فأكثر. وخير مثال أزمة كوفيد19 التي فرضت علينا جميعا إيقاع حياة مغايرة للتي ألفناها. لكن كوفيد19 هو مجرد أزمة وبائية، أمّا العيد فإنه أزمة اجتماعية، وربما سيصبح أزمة سياسية. أفلا يتطلب الوضع تدبيرا آخر يتماشى مع التغيرات البنيوية للمجتمع؟ (*) أستاذة جامعية رئيسة مركز ديهيا لحقوق الإنسان والديموقراطية والتنمية