لم يكن السيد بنكيران أمين عام حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية الحالية إلى حين يدرك أن الحياة السياسية لا يمكنها أن تتأسس على مفهوم عقدي يحتل فيه الإيمان بالله مركز وجوهر كل التحركات وكل الأحداث والوقائع، كما لم يكن يفهم إلى حين أن المشهد السياسي لا يمكنه أن يستقيم على غير ثلاث ركائز أساسية؛ تتمثل في القوى والروابط والتفاعلات، وهو ما يكفي إما للدخول في سياق حرب أهلية، أو لولوج مضمار البحث عن سبل التفاهم والاتفاق لإقامة شكل من أشكال التعاقدات الممكنة والمتاحة. فبنكيران للأسف، وبفعل الانبهار الزائد عن اللزوم بالتجارب المشرقية في مجال الخلط بين الدين والسياسة، لم يكن إلى حين يستوعب أننا كمغاربة نعيش ونتعايش على متن سفينة موغلة في أعماق البحار المتلاطمة أمواجه، ونعمل كل ما في وسعنا من أجل تفادي الخلافات والصراعات، ومن أجل تجنب السقوط في خيار العنف والاقتتال الذاتي، لماذا؟ فقط مخافة أن يؤدي ذلك إلى غرق الجميع، كما هو حال العديد من تجارب البلدان المجاورة. وعلى الرغم من تأكدنا بأن حزب العدالة والتنمية كان يسبح ضد التيار، وكان يلعب من أجل إفقاد السفينة احتياطها من البشر والإمكانات والإمكانيات، وعلى الرغم مما عاناه أغلب الفاعلين السياسيين في العلاقة بهذا الحزب السياسي/الديني، كنا متيقنين من الوصول إلى مرحلة سيدرك فيها الجميع أننا مجبرون على الامتثال للقوانين وأن لا شيء يمكن أن يكون أكثر ضعفا من نظام سياسي يسير في اتجاه أن يكون أحاديا ومتسلطا، كما كان يتوخاه حزب العدالة والتنمية منذ أن تموقع في قيادة العمل الحكومي. حسب ما تناقلته وسائل الإعلام، فإن بنكيران يؤكد لمزوار عدم رضاه على تصريحات واتهامات قياديين من حزبه، وهو بذلك يقدم شبه اعتذار على ما أقدم عليه حزب العدالة والتنمية من هجوم كاسح على حزب التجمع الوطني للأحرار في إطار تصنيفه ضمن المفسدين الذين لا هوادة في محاربتهم، بل الأمر تعدى "شبه الاعتذار" هذا ليتم الانتقال إلى تبرئة الذمة تماما عبر منح مزوار "صك الغفران" والتأكيد على أنه بعد البحث والتقصي في تعويضاته السابقة عندما كان وزيرا للاقتصاد والمالية ثبت لديه أنها "تعويضات قانونية". سبحان الله، سبحان مبدل الأحوال، من حزب يشن حربا أهلية على جميع الفرقاء السياسيين وفي القلب منهم حزب التجمع الوطني للأحرار الذي أُعِدَّ من صنف العفاريت والتماسيح المفسدين والمعطلين للإصلاح، إلى البحث عن سبل التفاهم والاتفاق من أجل إقامة شكل من أشكال التعاقد الممكنة لتشكيل حكومة، ومع من؟ مع عفاريت وتماسيح حزب التجمع الوطني للأحرار. وليهنأ كل من ناصر ويناصر حزب العدالة والتنمية، فهذه الهداية التي أُنْزِلَت على بنكيران و"إخوانه المسلمين" لا تدخل ضمن إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالحواس الباطنة، ولا ضمن نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، ولا ضمن إرسال الرسل وإنزال الكتب، ولا ضمن الكشف على القلوب والسرائر، ولا ضمن الإلهام والمنامات الصادقة، لا لا لا، كل قراءة أو فهم أو تأويل قد يكون له ارتباط من قريب أو بعيد بالدين والتدين لا علاقة له بشأن بنكيران هذه الأيام، فالأمر أشد ارتباطا بالسياسة، وأكبر اتصالا بالموقع الحكومي، وأشد صلة بالحكم والتحكم. هكذا جعلت السياسة بنكيران و"إخوانه في الله" يهتدون إلى مجالسة حزب الأصالة والمعاصرة، وعبرها وقع "الاقتناع بأفضلية استمرار التواصل بين الطرفين بدل القطيعة"، وهي التي دفعته إلى مجالسة حزب التجمع الوطني للأحرار، وعبره تقديم شبه اعتذار، واعتبار التعويضات قانونية، والرهان على أن يكون حليفا ضمن الأغلبية الحكومية. فهل هو وحي ينزل على السيد بنكيران؟ لا إنه الدهر.