جلست القرفصاء وسط ذلك المربع من الأرض الذي ترسم ضلوعه بقايا أساس، كانت تقوم عليه أربعة جدران صخرية قاتمة. حولي يتطاول حشيش عنيد يابس، وهنا وهناك، تتناثر أحجار بلون الحناء تارة، ولون الرماد تارة أخرى. أمامي سور صخري رهيب يدور شمالا ويمينا على شكل زاويتين قائمتين تمثلان نصف مستطيل. أسفل السور، تصطف قبور بلا لوحات، تشير إلى هوية أصحابها وكأنها لحود جنود مجهولين سقطوا في ساحة شرف لم يعترف بها أحد. المربع الصلد الأقرع، كان قبر شبابي لمدة فاقت ثماني عشرة سنة، أما القبور، فهي قبور رفاقي الذين استعملهم خبراء الموت البطيء فئران تجربة، طبقوا عليها جميع الوصفات المتطورة، المفضية إلى أسفل دركات الجحيم. المكان: تزممارت. والزمان: يوم الأحد 12 مايو 2013 . في انتظار قدوم قافلة طبية ( نظمها منتدى الحقيقة والإنصاف بمعية جمعية تأهيل ضحايا التعذيب بالمغرب وجمعيات أوربية متعددة ) انطلقت من البيضاء يوم 8 مايو في اتجاه مدينة فكيك، وبوعرفة ومدن هامشية أخرى، حللنا نحن قدماء معتقل تزممارت، أو قل بالأحرى ما تبقى منهم للمرة الثالثة على التوالي إلى المكان الذي نزلت بساحته لعنات المخزن صبا صبا، لنترحم على أرواح أصدقائنا الراحلين، ونقرأ سورة ياسين على شبابنا. المكان هو هو، إلا أن أيادي البشر وعوادي الزمن عاثت فيه فسادا: هُدمت الزنازين، وتهاوت أحجار الأسوار، ونبت الحشيش بين الأجداث، وتقوضت بعض المباني المبنية بالطين، وأصبح كل ما بداخل المعتقل يعطي الانطباع بأن إرادة خفية تسعى جادة لطمس معالم هذه الوصمة الحالكة، التي صبغت في عهد الرصاص جبين المخزن. لماذا هدم معتقل تزممارت؟ ومن كان الآمر بهدمه؟ لماذا يتكلمون عن حفظ الذاكرة، بينما هم يفعلون عكس ذلك؟ لماذا لم يتم إلى اليوم تحديد هوية كل قبر من هذه القبور؟ أين ذهبت الوعود التي أعطيت منذ اثنتي عشرة سنة لتأهيل هذه المنطقة؟ أسئلة عديدة تبادلها المعتقلون السابقون مع سكان القرية الوديعة، التي كانت آمنة مطمئنة إلى أن ضُرب عليها الحصار ذات صباح دون أن تدري لذلك سببا. "من غرابة الصدف أني كنت ضمن العمال الذين بنوا المعتقل، وكنت ضمن من حفروا الأرض للبحث عن القبور" يقول أحد السكان ببساطة وهو يسترجع حكاية طريفة وقعت فور الانتهاء من بناء المعتقل: " دخل المقاول المرنيسي إلى إحدى الزنازين لإلقاء نظرة على التحفة التي أنجزها، فإذا بأحدهم يغلق الباب عليه من باب البسط، وما أن غمره الظلام والضيق حتى انطلق يصرخ ويستنجد بكل قواه، بينما أصدقاؤه ينفجرون ضحكا." ثم يسألنا وهو يجد في تزويدنا بمعلومات إضافية: "من من الراحلين كان يمتلك طاقم أسنان من ذهب؟ نجيب بالإجماع: "إنك الديك الجيلالي... " لقد كان ملفوفا في غطاء لم يتآكل منه إلى القليل، وبقيت البذلة العسكرية التي كانت عليه مصانة كأنه لم يلبسها إلا بالأمس، أما شعره فقد كان فاحما غزيرا..." تخترق أجسادنا شحنة كهربائية عنيفة، ونشعر بأيادي خفية تعتصر قلوبنا ونحن نستمع للرجل الذي بدا وكأنه يسرد علينا لقطة من فيلم مصاص الدماء "دراكولا"... نعود إلى القرية، فنجد مجموعة من قدماء ضحايا إملشيل قد وصلت وفي مقدمتها شيوخ ونساء بلغوا من الكبر عتيا. يأخذ الكلمة رجل خمسيني فيتحلق حوله سكان القرية وتتطلع إليه عيون الأطفال ملتمعة بفضول بريئ: "جئنا إلى هنا لكي يندد بقوة بكل الوعود التي أعطاها المسؤولون ولم يتحقق منها شيئا. كنا نستبشر خيرا لما كان المرحوم بن زكري على قيد الحياة، ولما مات ماتت معه توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة..." ينبري للساحة شاب في الثلاثين من عمره، ويتوجه إلى الخطيب المتحمس بلهجة تتميز غيضا: " أنت لست من تزممارت، وقد جئت ومن معك لكي تغطوا على هذا الحدث، نحن من لنا الحق في فضح التهميش الذي طال هذه المنطقة، نحن شباب موجز، عشنا وآباؤنا القهر والذل والإقصاء ومللنا من الخطب العصماء التي تتبخر في الهواء...أنت مسخر من ..." تتهاطل التهم، ويتطور الصراع إلى بداية الاشتباك بالأيدي. في هذه اللحظة، تصل القافلة القادمة من فكيك، يتقدمها الدكتوران عبد الكريم المانوزي وعمر بن عمر...