بمبادرة من الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب وبمشاركة المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، وعدد من الجمعيات الطبية والحقوقية المغربية والألمانية والفرنسية، وبمواكبة إعلامية من طرف عدد من وسائل الإعلام الوطنية والدولية، تم بين 8 و 12 ماي من السنة الجارية، تنظيم قافلة طبية وحقوقية إلى كل من فكيك وتازمامارت مرورا من بني مطهر وبوعرفة. وقد وضع المنظمون لهذه القافلة من خلال برنامجها المكثف والمتعدد الأبعاد، عدة أهداف تتمثل أساسا في حفظ وإنعاش الذاكرة الجماعية لهذه المنطقة التي شكلت في الماضي مسرحا للعديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، حيث تعرض المئات من المناضلين والمواطنين من أبنائها للاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية والتعذيب والتجريد من الحقوق المدنية والسياسية. كما استهدفت القافلة إثارة الانتباه إلى معاناة سكان المنطقة من استمرار العزلة والتهميش والحرمان من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. تجمع المشاركون في القافلة بمدينة الدارالبيضاء مساء يوم الأربعاء 2013 قادمين إليها من عدة مدن مغربية وأوربية. وانطلقت الحافلات والسيارات الخاصة في حدود التاسعة ليلا لتمر عبر مدن الرباط ومكناس ووجدة وبني مطهر لتتوقف زوال يوم الخميس 9 ماي 2013 بمدينة بوعرفة من أجل تناول وجبة الغداء والالتحام ببعض الملتحقين بالقافلة من المدن الشرقية للمغرب ، قبل أن تحط الرحال بمدينة فكيك في مساء نفس اليوم. أثناء مرور القافلة من مدينة بني مطهر، مسقط رأس الشهيد عمر بن جلون، اغتنم عبد الحق عندليب وعبد الكريم وزان الفرصة لتعريف المشاركين في القافلة بشخصية هذا المناضل التقدمي الاتحادي الفذ، وبظروف وملابسات اغتياله سنة 1975 على يد أحد الإرهابيين التابع لجماعة الشبيبة الإسلامية آنذاك، وذلك بتأطير وإيعاز من طرف المدعو مطيع الذي فر إلى السعودية بتواطؤ من طرف الدكتور عبد الكريم الخطيب. عند الوصول إلى مدينة بوعرفة على بعد حوالي 107 كلم من مدينة فكيك ، توقفت القافلة لتجد في استقبالها عددا من ممثلي الجمعيات الحقوقية والمدنية المحلية، كما حظيت القافلة باستقبال من طرف عامل إقليم بوعرفة ورئيس بلديتها وعدد من ممثلي السلطات والمصالح العمومية، حيث نوه العامل بالقافلة وأثنى على الأهداف النبيلة لمثل هذه المبادرات الإنسانية. وصلت القافلة إلى مدينة فكيك مساء يوم الخميس 9 ماي 2013، ليشرع الطاقم الطبي المرافق لها صباح اليوم الموالي في استقبال أعداد غفيرة من النساء والرجال والأطفال وتلامذة المؤسسات التعليمية و عدد من ضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، حيث توزع الأطباء والطبيبات والجراحين والممرضات والممرضين والمساعدات الاجتماعيات الذين بلغ عددهم حوالي 60 فردا من المغاربة والأجانب على 4 مراكز طبية ممتدة بين مدينتي بوعرفة وفكيك. وقد استفاد من العمليات الجراحية والتشخيصات والفحوصات والتحاليل وتسليم النظارات وبعض المعدات الطبية والأدوية، حوالي 2000 مواطن ومواطنة. وبهذه المناسبة سلم الدكتور عبد الرحيم مشراوي المقيم في ألمانيا باسم جمعية طبية ألمانية ، عددا من المعدات الطبية لفائدة مستشفى فكيك الذي يشتكي سكان المدينة من عدم توفره على الحد الأدنى الضروري من المعدات والأدوات وطبيب واحد لحوالي 17 ألفا من ساكنة المدينة . بالموازاة مع عمليات التطبيب والعلاج، شهدت القافلة يوم السبت 11 ماي 2013 ، تنظيم ندوتين: الأولى طبية والثانية حقوقية. وقد أطر الندوة الطبية البروفيسور برطال في موضوع الأخطار الناجمة عن الإدمان على التدخين. أما الندوة الحقوقية التي أقيمت بمدرسة النهضة التي درس فيها المرحوم محمد عابد الجابري، فقد تناولت موضوع تقييم مسارات ونتائج تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب، حيث أطرها كل من الدكتور عبد الكريم المانوزي والدكتور عمر بن عمار عن الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، والأستاذ عبد الحق عندليب عن المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف والأستاذ عبد الكريم وزان عن لجنة التنسيق لعائلات مجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري، وعبد الله أعكاو عن جمعية ضحايا معتقل تازمامارت. ومن الفقرات التي تخللت الندوة الحقوقية نذكر الزيارة التي قام بها مجموعة من تلامذة إحدى المدارس الخاصة ببوعرفة إلى رواق الندوة ، حيث تلقوا شروحات وتوضيحات حول حقوق الإنسان وحول أهمية الإصلاحات الدستورية والقانونية والمؤسسات اللازمة لحماية الأجيال الحالية و اللاحقة من أخطار العودة إلى ما شهده المغرب في الماضي من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. أما الفقرة الثانية التي تخللت الندوة الحقوقية فقد تمثلت في الزيارة التي قام بها المشاركون في القافلة إلى مركز بلقاسم وزان للذاكرة، حيث قدمت لهم شروحات ومعلومات حول سيرة هذا المناضل الفذ الذي يعتبر من مؤسسي الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وأحد ضحايا الاختفاء القسري الذي لايزال مصيره مجهولا. كما تعرف المشاركون في هذه الزيارة على عدد من الشهداء والمناضلين من أبناء المنطقة، خاصة منهم الشهيد مصطفى يوس الذي نفذ في حقه حكم بالإعدام على خلفية أحداث مولاي بوعزة سنة 1973 ، والشهيد محمد الصنهاجي الذي استشهد تحت التعذيب بمركز الدرك بفكيك في نفس السنة . قضت القافلة بفكيك يومين حافلين بتقديم الخدمات والمساعدات الطبية لفائدة المئات من ساكنة المنطقة وفي إثراء النقاش والحوار مع عدد من ممثلي الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني وضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، حول ما شهدته المنطقة من انتهاكات وتجاوزات وما عانته ولا تزال من تهميش وعزلة، حيث أكد الجميع على ضرورة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في مجال جبر الضرر الجماعي بالنسبة للمنطقة والاستجابة للمطالب العادلة والمشروعة للسكان في مجال خلق المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الضرورية، ثم العمل على إعادة فتح الحدود مع الجزائر واستعادة ما استولت عليه الدولة الجزائرية من أراض فلاحية هي في ملك سكان المنطقة، خاصة منهم سكان مدينة فكيك. في اليوم الأخير من برنامج القافلة، أي في الصباح الباكر ليوم الأحد 12 ماي 2013، توجهت القافلة صوب قرية تازمامارت لتجد في استقبالها عددا غفيرا من سكان القرية ومن ضحايا سنوات الرصاص ومسؤولي فروع المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف بإملشيل والريش وكلميمة، بالإضافة إلى عدد من الناجين من المعتقل السري تازمامارت وبعض عائلات الضحايا الذين قضوا في هذا المعتقل الرهيب و ممثل اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان. أقوى اللحظات في هذه المحطة تمثلت في الوقوف على المكان الذي كان يتواجد به المعتقل السري الرهيب الذي عانى منه 58 معتقلا زهاء 20 سنة ، والذي قضى به 29 ضحية تحت التعذيب النفسي وانعدام أبسط الشروط الإنسانية والقانونية للاعتقال ،حيث تقدم لتقديم الشروحات والتوضيحات حول هذا المعتقل كل من عبد الله أعكاو ومحمد المرزوقي ومحمد الزموري، ليؤكدوا على أن زنازن المعتقل ومرافقه قد تم هدمها عن آخرها ، وذلك ضدا على رغبة الناجين منه و رغبة عائلات الضحايا المتوفين و رغبة المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف و كل المنظمات الحقوقية التي طالبت بالتحفظ على هذا المعتقل والعمل على صيانته وترميمه وجعله مركزا للذاكرة. وقد لاحظ المشاركون في القافلة أن المعتقل لم يبق منه سوى قبور الضحايا المتوفين، وهي قبور لا تحمل أسماء الضحايا، بل أرقاما وحروفا لاتينية ! وعندما تساءل المشاركون عن سبب عدم كتابة أسماء الضحايا على قبورهم ، كما جرت العادة بذلك، علل عضو اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان ذلك بكون 7 متوفين لم تحدد بعد هويتهم. وعندما تساءل بعض الحقوقيين عن عدم استعمال تقنية التحليل الجيني للكشف عن هوية جثت الضحايا، أجاب ممثل اللجنة الجهوية بأنه تم الاكتفاء بشهادة الذين قاموا بحفر القبور لتحديد هوية الضحايا وبأن المسألة ستتم تسويتها قريبا مع عائلات الضحايا. الدكتور محمد الجمالي وقف أمام قبور الضحايا وطلب من المشاركين في القافلة تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم والترحم على أرواح الضحايا، وذلك في أجواء رهيبة اختلطت فيها ذكريات المفقودين بدموع أفراد عائلاتهم ودموع الناجين من جحيم تازمامارت ودموع المشاركين في القافلة. بعد الترحم على ضحايا معتقل تازمامارت توجهت القافلة إلى إحدى المدارس الابتدائية بالقرية، حيث وجدت في استقبالها مدير المؤسسة و طاقمها التربوي واصطف تلامذة المدرسة ليرددوا أناشيد الترحيب والشكر للقافلة. وفي هذه الأجواء قدم أعضاء القافلة حقائب مدرسية وهدايا إلى تلاميذ وتلميذات المدرسة وتناول كلمات الترحيب مدير المؤسسة، كما تناول الكلمة عبد الله أعكاو باسم القافلة للتأكيد على ضرورة إعادة الاعتبار إلى قرية تازمامارت وفك العزلة عن سكانها وحفظ ذاكرة الضحايا الذين مروا من معتقلها السري الرهيب. وعلى إيقاع شعارات سكان القرية الذين تقدمتهم عدد من الفتيات، وهي شعارات تطالب المسؤولين بالعمل على إخراج تازمامارت من دائرة النسيان والتهميش والإقصاء، انطلقت حافلات القافلة من أجل العودة إلى مدينة الدارالبيضاء. وفي الطريق اغتنم المشاركون الفرصة للإستماع إلى عرض مفصل قدمه الأستاذ بوبكر لاركو، الكاتب العام السابق للمنظمة المغربية لحقوق الانسان وأحد أبناء المنطقة حول تاريخ مدينة فكيك، وحول رجالاتها ومناضليها الأفذاذ وما قدموه من تضحيات في سبيل تحرير البلاد من المستعمر ومناهضة الاستبداد. كما أعطى شروحات حول الطبيعة الجغرافية للمنطقة وحول ما تتوفر عليه من إمكانيات طبيعية تتطلب العمل على توظيفها لخلق مشاريع تنموية تمكن ساكنة المنطقة من الخروج من دوامة التهميش والإقصاء. وقدم المتدخل شروحات حول ملف الأراضي الفلاحية الخصبة للمنطقة التي استولت عليها الجزائر بعد حرب الرمال لسنة 1963 والانعكاسات السلبية لهذا الاستيلاء على أوضاع ساكنة المنطقة. ومن جهة أخرى توقف المشاركون على ما حققته القافلة من أهداف إنسانية وتضامنية، حيث تقدم الجميع بالشكر إلى عائلة الدكتور محمد الجمالي على استضافتها للمشاركين في القافلة طيلة مدة إقامتها بفكيك وعلى حفاوة و كرم الاستقبال. كما أكد المشاركون على ضرورة استمرار مثل هذه المبادرات من أجل ترسيخ قيم التضامن والتآزر والمواطنة في مجتمعنا وزرع بذور الأمل من أجل مستقبل يضمن لجميع المواطنات و المواطنين التمتع بكافة حقوقهم الانسانية المدنية منها والسياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في ظل دولة الحق والقانون والديمقراطية.