الشرعية، الديمقراطية، صناديق الاقتراع، انقلاب العسكر، انتفاضة الشعب، "أخونة" الدولة، استبداد الرئيس، ...يمكن اعتبار هده العبارات العناوين أو المسميات التي من خلالها يحاول كل طرف من أطراف الصراع السياسي في مصر، والأطراف المماثلة لهم في المغرب سواء السياسية والإيديولوجية أو الثقافية والإعلامية، تقييم ما جرى واستصدار الأحكام وإبداء المواقف أو تحليل بعض أبعاد الأحداث الجارية بعد 30 يونيو الأخير. فالطرف الأول الذي يتمثل أساسا في جماعة "إخوان المسلمين" ودراعها السياسي حزب "العدالة والحرية"، وبدرجة أقل وضوحا حزب "النور" السلفي المنبثق عن نفس الحركة، يعتبر القرار الذي اتخذه المجتمعون حسب البيان الذي تلاه وزير الدافع عبد الفتاح السيسي بعد انقضاء آجال 48 ساعة الذي حدد للأطراف السياسية للوصول إلى حل للأزمة القائمة، والمجتمعون هم قادات الجيش وممثل المعارضة السياسية والقوى المنتفضة والمرابطة بساحة "التحرير" مند يومين وممثلي الشباب وحركة تمرد والجبهة التي استطاعت أن تجمع أكثر من 22 مليون توقيع مؤيد لمطالبها التي يتقدمها استقالة رئيس الدولة. هذا الطرف الأول يعتبر هذا القرار انقلابا عسكريا كامل الأركان كما جاء في الرسالة التي كتبها محمد مرسي على حائطه في شبكة التواصل الاجتماعي الفيسبوك عقب قرار إقالته. الطرف الثاني في هذا الصراع الكبير، وهو ليس مجرد حزب سياسي أو معارضة حكومية أو تيارات معينة، بل هي كل تلك الأطراف المذكورة والممثلة سواء في قوى انتفاضة 30 يونيو وفضاء الاحتجاج بساحات المدن المصرية، أو في التكتل الذي اجتمع بالجيش واتخذ قرار عزل الرئيس وإصدار البيان المذكور. هذا الطرف الذي استطاع أن يجمع توقيع التأييد لمطالبه وحركته الاحتجاجية من طرف أكثر من 22 مليون مصرية ومصري، وخرج بقوة إلى ساحات الاحتجاج وعلى رأسها ساحة "التحرير" بالعاصمة القاهرة، يقول بأن ما يجري هو استمرار وتصحيح لمسار ثورة 25 يناير بعد أن تبين خلال سنة حكم محمد مرسي أن كل ما حققه هو محاولة سرقة الثورة و"أخونة" الدولة. من أجل المساهمة في تحليل ما جرى، وتوضيح مقومات وإخفاقات هذه التجربة الثورية والديمقراطية، والتي حولت البلاد إلى ساحة للصراع والمواجهات الدامية، واستحضارا لوقع ما يجري في مصر على التجربة السياسية لبعض مكونات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم في الدول المجاورة ومنها المغرب، نود تقديم التوضيحات الآتية: الانتخابات الرئاسية التي أوصلت السيد محمد مرسي وجماعة "الإخوان المسلمين" إلى رئاسة الدولة والحكم في مصر، لم تجر في سياق سياسي عادي أو بعد أن حققت الممارسة الديمقراطية تراكما واضحا ومنجزات على مستوى الحياة السياسية والوعي المجتمعي، بل جاءت في سياق انتفاضة الشعب المصري ضد النظام السابق وما ارتبط به من وضع استبدادي، وتوقه إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية كما جاء في الشعارات التي امتلأت بها ساحة التحرير على امتداد أسابيع ثورة 25 يناير 2011. وهذا يعني بأن اعتبار تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، ووضع دستور جديد رغم الخلاف الكبير حول بعض مقتضياته، وإعلان نتائج الانتخابات الرئاسية وتولي محمد مرسي زمام الحكم، اعتبار هذا بمثابة نهاية انتفاضة الشعب وتحقيق تام لمطالب الثورة، فهذا كلام يبين عن انتهازية سياسية وفهم ضيق لمعاني الديمقراطية وأسباب الثورات وأهدافها وسيرورة إرساء دعامات وتعاقدات السلطة والمشروعية بعدها. وهذا ما أكده واقع الحال وما آلت إليه الأمور فيما بعد وفي ظرف سنة على تولي محمد مرسي رئاسة الدولة. فإذا توقفنا عند نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية التي جاءت في سياق الثورة، نجد أن محمد مرسي حصل على 13230181 صوتًا فيما لم يتجاوز في الدور الأول 5ملايين و764952 صوت، فيما حصل الفريق شفيق على 12347380 صوتًا. وقد بلغ إجمالي الناخبين المسجلين 50958794 ناخبًا، وإجمالي المصوتين 26420763 ناخبًا، 843252 منها لاغية. فالدلالات والأسئلة الأساسية التي لا ينبغي على الفاعل السياسي والديمقراطي الفعلي أن يسقطها من حسابه، خصوصا في وضع ديمقراطي غير عادي ومرتبط بالثورة، هي أن نسبة المشاركة في هذا الانتخاب الذي أوصل محمد مرسي وحزبه إلى رئاسة الدولة والحكم لم تتجاوز نسبة 46،4 في المائة من عدد المواطنين والمواطنات المصريين الذين لهم الحق في المشاركة في الانتخاب وتقرير مصير بلادهم السياسي ما بعد الثورة! إضافة إلى نسبة أكثر من 48 في المائة من الأصوات المعبر عنها التي صوتت لصالح منافس محمد مرسي وهو الجنيرال شفيق، مهما كان انتماؤه ووضعه السياسي. فمنصب رئيس الدولة، وحتى في الديمقراطيات العريقة، هو منصب توافقي يتطلب تحقق مواصفات كبيرة في الأشخاص المرشحين لهذه المسؤولية من طرف الأحزاب السياسية، كما يفترض في هذه الأخيرة ما يكفي من النضج السياسي والحرص الكبير على القضايا والمصالح الوطنية والصالح والمشترك العام لمختلف مكونات المجتمع والحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، بل والالتزام بالتجرد من المصالح لفئوية أو الحزبية وبالأحرى الطائفية،، وتمثيل ورآسة الدولة وكافة مكونات المجتمع أو الشعب وحساسياته. فالديمقراطية في هذه الدول والمجتمعات تتحول من مجرد آلية انتخابية وفرز لأصوات صناديق الاقتراع وإعلان النتائج، إلى ممارسة وثقافة سياسية ممتدة، سرعان ما تتحرر بعد الانتخابات من هواجس الفئوية والتمثيلية ولغة النسب والصناديق، لتفسح المجال لتبلور منطقها الهام في تحقيق مجال للتنافس والتدافع بين البرامج والمشاريع، وبين المقاربات والكفاءات التدبيرية، وذلك بما يخدم المصلحة العامة ويحترم التعددية والاختلافات ومنظومة الحقوق والواجبات القائمة. فهل وعت جماعة "الإخوان المسلمين" وقياديي حزب "الحرية والعدالة" وحلفائه ، ورئيس الدولة محمد مرسي كل هذه المقتضيات والتعاقدات التي بدونها لا يمكن الحديث لا عن الشرعية والمشروعية السياسية ولا عن الديمقراطية؟ يكفي العودة إلى قرارات مرسي مباشرة بعد توليه الحكم والسلطة، والتي لا تخفي على كل حال نوعا من التهافت السلطوي والطائفي الساذج، ومنها الإعلان الدستوري وعدم الالتزام بالوعود الانتخابية والتعلق المتعالي بنتائج صناديق الاقتراع وبنوع من العجرفة، والانحياز الكامل لمشروع حزبه الإيديولوجي، بل والعمل ضد منطق إرساء تعاقدات وتحققات ونتائج الثورة على المستوى السياسي التعددي والديمقراطي...فكل هذا يوضح أن الإخوان يتحملون مسؤوليتهم الكاملة في إخفاق حلمهم القديم وتجربتهم الحديثة في تولي السلطة والحكم، كما يتحملون المسؤولية السياسية والأخلاقية في تعقيد وإرباك مشروع الانتقال إلى الديمقراطية في مصر، ونتائج الصراع الشعبي والطائفي التي ستترتب عن ذلك والتي ستعطل لسنوات مصالح ومستقبل البلاد والعباد. ماذا يمكن أن يستفيد المغرب، وخاصة الدولة ومكوناتها السياسية والحزبية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية الذي يتولى رآسة الحكومة، وبقية مكونات الإسلام السياسي الطامح إلى السلطة، مما يجري في مصر؟ الدرس سهل جدا وواضح المراحل المنهجية ومنها المنطلق والتقويم والنتائج. ويمكن أن نحيط الاستنتاجات والخلاصات الهامة بخط وإطار عريض ولون مغاير حتى تتضح أكثر: - الديمقراطية، ليست مجرد تحصيل لنتائج صناديق الاقتراع في موسم انتخابي عابر ، بل الديمقراطية أساسا هي مبادئ وممارسة سياسية وثقافية، وتمرين وتراكم طويل النفس على تدبير الشأن العام والمشترك الوطني في تعدديته واختلافاته وحساسياته، ومجال لتنافس البرامج والكفاءات من أجل خدمة الصالح العام وتطلعات وانتظارات الدولة والمجتمع، بعيدا عن هاجس التمكين الإيديولوجي أو الشخصاني الضيق لأهداف ولأفراد حزب أو جماعة معينة. - نسب المشاركة والتصويت، ونسب التسجيل وعدم التسجيل في لوائح الانتخابات، هي معطيات أساسية في العملية الديمقراطية والسياسية. وفي سياق الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعرفه بعض دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنها المغرب، من الواضح أن الصوت الاحتجاجي القوي والمشروع الثوري القادم هو "الحزب الصامت" والفئة العريضة التي تتابع مجريات التغيير بحذر كبير ومنها مكونات الحركة الأمازيغية. فإذا كان حزب "العدالة والتنمية" في المغرب استطاع أن ينال أصوات ما يفوق مليون ناخبة وناخب مغربي في انتخابات 2011، فالمعطيات المتوفرة تؤكد أن ملايين المواطنين والمواطنات غير مسجلين في لوائح انتخابات الشرعية السياسية، والملايين منهم قاطعوا هذه العملية بشكل مباشر أو عبر خيار إلغاء الأصوات، وهذا يكفي لتذكير الدولة والحزب الذي يتولى رآسة الحكومة بأن المستقبل سيكون محكا حقيقيا للممارسة الديمقراطية الفعلية، من جهة، ولمنطق اللأغلبية العددية ونسب صناديق الاقتراع بمعناها الضيق، من جهة أخرى. - المواطنون المغاربة، يصلون ويصومون، يزكون، يصلون الرحم، يطعمون الأيتام ويحسنون المحتاجين...يحجون ويحبون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا. لكن عندما يذهبون إلى صناديق الاقتراع أو عندما يخرجون للاحتجاج والاعتصام في الفضاء العام، وعندما ينزوون في صمت، أو عندما ينتفضون ويثورون، فهم لا يفعلون ذلك لكونهم منعوا من زيارة أو من أداء شعائرهم الدينية في المساجد أو الكنائس والسنكوكات، أو لأنهم في حاجة إلى مزيد من الدروس في التربية الإسلامية، بل لأنهم عانوا من جراء الفساد والاستبداد، وغياب العدالة الاجتماعية وفرص الشغل، ومن نتائج السياسات الحكومية في الاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة ... فهل قدمت الحكومات الإسلامية التي أفرزها الربيع الديمقراطي المنشود، ومنه حكومة حزب العدالة والتنمية في المغرب، أجوبة فعلية ومشاريع وتدابير كفيلة بالاستجابة لهذه الإنتظارات؟ ذالك هو السؤال الصعب الذي تتفاداه أحزاب الإسلام السياسي في هذه الأقطار، اليوم. فدون العبور عبر هذا السؤال المصيري والتوضيح المستقلبي، سيصير النقاش حول الديمقراطية والاستبداد، وتحكم العسكر أو آخرين، وتنافس الأحزاب وصراع "النوايا والمناوئين"، مجرد نقاش لتبرير الإخفاق ومشروع الاستحواذ، أو للاستهلاك السياسي والإعلامي، الذي لا يفرز في نهاية المطاف سوى تعطيل عجلة الدمقرطة الفعلية والتغيير المنشود، لا غير.