"المغرب-إسبانيا" بلدان متقاربان يكاد يلامس الواحد منها الآخر، وهما بلدان متعانقان جغرافياً، جمعهما تاريخ واحد مشترك تمتد جذورُه عبر الماضي السّحيق، نظراً للمعايشات، والموروثات الحضارية والتاريخية، والأواصر الثقافية التي جمعتهما على امتداد الأحقاب، ناهيك عن المصالح المشتركة الكبرى التي تجمعهما اليوم، كلّ تلك العناصر كان من المفروض أن تحفزهما على زيادة تقوية الأرضية الصّلبة لعلاقاتهما الثنائية في مختلف المرافق والقطاعات، وهما بحُكم موقعهما الجيو-استراتيجي المتميّز، انطلاقاً من "ماضٍ" تقاسماه، و"ثقافةٍ" مشتركة نَسَجَا إشعاعها سويّاً، وبحُكم "المستقبل" الذي يتطلّعان إليه، أليس كان حريّاً بهما أن يكونا واعييْن كلّ الوعي بالدّور المنوط بهما لتحقيق المزيد من التقارب، والتداني، والتفاهم، ومدّ جسور التعاون بينهما في مختلف المجالات؟ ذلك ما كان يلحّ عليه، ويصرّح به، ويكرّره بدون انقطاع الكاتب الإسباني-الكتلاني الرّاحل، الشّهير "خوان غويتيسولو" نزيل مدينة مراكش قيد حياته، ودفين مدينة العرائش بعد مماته، الذي سبق له أن نشر في جريدة "الباييس" الإسبانية واسعة الانتشار مقالاً مُطوّلاً رصيناً حول العلاقات الإسبانية-المغربية يحمل عنوان هذه المقولة، التي طالما قالها قبله بفصاحته المعهودة، ورصانته المشهودة الملك الحسن الثاني رحمه الله. تاريخ دبلوماسي حافل ينبغي على البلدين أن يتحلّيا بروح التفاهم والتقارب والتسامح والتصالح متجاوزيْن السّحابة الداكنة التي أمست تخيّم على سماء علاقاتهما الثنائية والتي ما فتئت تلبد صفوها الدائم بين البلدين، ينبغي أن تحدوهما زيادة بلورة طموحهما، وتوسيع تعاونهما في مخططات التعاون والمشاريع الاستثمارية، والإنمائيّة، والصناعية الكبرى المشتركة. علينا أن لا ننسى أن اسبانيا أصبحت اليوم تحتلّ المرتبة الأولى في هذا القبيل في المغرب، وبالتالي عليهما زيادة توفير الإحترام المتبادل بينهما. هذا على الرّغم ممّا شاب ويشوب علاقاتهما بين الوقت والآخر من أخذٍ وردّ، وطبخٍ ونفخ، وفتقٍ ورتق! ولا غرو فالموروث التاريخي، والثقافي، والحضاري المشترك بين البلدين يشكّل أرضية صلبة، وقاعدة متينة وحقلًا خصباً يجعلهما ينفردان بخصوصّيات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى، الشيء الذي أفضى إلى خلق نوعٍ من الاستمرارية والتواصل الدائمين في علاقاتهما منذ عدّة قرون بعيدة؛ إذ ينبغي التذكير في هذا الخصوص بأن التبادل الدبلوماسي بينهما يرجع إلى القرن السّابع عشر حيث كان للمغرب قصب السّبق في ذلك بين دول الجوار، فكانت البعثات والسّفارات الدبلوماسيّة المغربية هي الأولى التي زارت إسبانيا إنطلاقا من بعثة إبن عبد الوهّاب الغسّاني، سفير السّلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الإسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، مروراً بالسّفراء: الزيّاني (1758)، وأحمد المهدي الغزال (1766)، وابن عثمان المكناسي (1779)، والكردودي (1885) إلخ، كلّ هذه الاتصالات المبكّرة شكّلت في العمق "دبلوماسية سياسية" رائدة وفريدة من نوعها في تاريخ الشعوب. نبذ الأحكام السّابقة تماشياً مع هذا السّياق، ما فتئ المثقفون في البلدين يؤكّدون على الدّور المحوري الذي تلعبه الثقافة، في توثيق وتعميق العلاقات بين البلدين للتصدّي للأفكار الجاهزة، وكبح جماح الأحكام المسبقة، وتصحيح التصوّرات الخاطئة المنتشرة بينهما، فقد أصبح الاهتمام فيهما يتنامى بالفعل بشكل فعّال، وينبغي على الطرفين التصدّي في هذا القبيل للمفاهيم المُعوجّة التي لا تقدّم صورتيهما الحقيقيتين، ونبذ الأحكام السّابقة المُخطئة بشأنها، والتي تنتشر أساساً لدى الشرائح ذات الثقافة المحدودة والنظرة الضيّقة، وبالتالي فالوسيلة الوحيدة لمحو هذه التصوّرات المُزوَرَّة هي العمل سوياًّ على واجهات التربية والتعليم، والإعلام، والثقافة، والفنون في كل من المغرب وإسبانيا. إنه مجال يتطلب تعبئة مختلف وسائل الإعلام لنقل الصّورة الحقيقية عنهما، وتصقيلها، وتقديمها بالشكل الصّحيح غير المغلوط، والحقّ أن المثقفين الإسبان والمغاربة لم يدّخروا وسعاً في بذل الجهود المتواصلة في العقود الأخيرة في هذا القبيل. حتى لا ننسى ولكي نكونَ واقعيّين في هذا الطّرح، جدير بنا أن نشير إلى أنّه على الرّغم من الزّخم الهائل الذي يطبع العلاقات الثنائية بين البلدين، والبريق اللمّاع الذي يضيئها ويوحي للعيان بأنّها على خير ما يُرام في مختلف المرافق والقطاعات، فإنه ينبغي لنا ألاّ نغفل أو ندير ظهورَنا لقضايا أخرى ثنائية هامّة عالقة، وإكراهات مُؤرقة ما زالت تثقل كواهلنا وتقلق مضاجَعنا، ممثّلة في جملة من المطالب التاريخية المشروعة التي ما زالت تنتظر الحلول الناجعة لها، وهي أمور لا تخفى على أحد، ويعرفها القاصي والدّاني على حدٍّ سواء، هذه القضايا ما فتئت تواجهنا بإلحاح، ولا ينبغي أن نتّبع حيالها سياسةَ النّعامة بإخفاء رؤوسنا في الرّمال، وعدم رؤية الواقع الحقيقي الذي نعيشه، ونلمسه، ويتجسّد نصب أعيننا. ويمكن حصر بعض هذه القضايا الشائكة التي تفجرت في خضمّ الأزمة الأخيرة وما قبلها كما يلي: الصّحراء المغربية أوّلاً وأخيراً حتى وإن لم ترحّب إسبانيا بالقرار الأمريكي، حسب تصريح يُنسب لوزيرة خارجية مدريد، وعلى الرّغم من الحديث عما يُسمّى خارطة طريق لتعيين الأممالمتحدة لمبعوث خاص لنزاع الصحراء، وعلى الرّغم من المشاورات المُفترضة التي قد تكون أجرتها اسبانيا مع فريق إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن لجسّ النبض عن احتمال مراجعة واشنطن لاعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، وعلى الرّغم من الخطأ الجسيم والزلّة الفادحة التي ارتكبتها إسبانيا في قضية استقبالها للمدعوّ إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو، بهوية مزوّرة بحجة تلقيه العلاج من وباء كورونا الذي أصابه، وما حدث في مدينة سبتةالمحتلة التي تم اكتساحها من طرف عشرات الشباب المغاربة ومن طرف المهاجرين غير الشرعيين من جنوب الصحراء، وكلّ ذلك جعل الأزمة تستفحل بين البلدين، ممّا حدا بالمغرب إلى دعوة سفيرته للتشاور، وعدم رجوعها إن لم تتمّ محاكمة المدعوّ غالي، (على الرغم من ذلك كلّه) فإنّ إسبانيا باعتبارها طرفاً تاريخياً أساسياً ورئيسياً في قضية الصحراء، هذا النزاع الإقليمي الوهمي الذي طال أمدُه بسبب تعنّت الأشقاء وراء التخوم المُحاذية لحدود المغرب الشرقية، مدعوّة أن تفتح وتجحظ عيونها جيّداً، وأن تصحو من غفوتها، وأن تقوم بحسابات براغماتية واقعية جديدة لتقوم بمبادرة أو مبادرات تعود بها إلى رشدها، وتؤوب إلى صوابها في هذه القضيّة الحاسمة التي تُعتبر من أولويّات قضايا المغرب الحاسمة والتي تدخل في صلب اهتماماته، خاصّة بعد أن ظهر على مسرح الأحداث المُعطى الجديد الذي لا بدّ أن تكون له أبعاد سياسية ذات أهمية قصوى في هذا المنوال، وهو اعتراف واشنطن بسيادة المغرب الكاملة والشاملة على صحرائه. ويجدر بنا التذكير بأن إسبانيا كانت تستغلّ هذا الجانب من قبل في كلّ مناسبة لتقايض به مصالحها مع المغرب وتقصي أو تؤجل مطالبه التاريخية في سبتة ومليلية والثغور المحتلة من طرفها بالرهان والضغط بقضية الصحراء، على إسبانيا أن تدرك جيّداً أنه بعد الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها واشنطن، وبعد ما أمسى يروج هذه الأيام ويُطبخ في دهاليز الإليزيه بفرنسا من مفاجآت وإرهاصات تنبئ عن قرب حدوث انفراجات في السياسة الفرنسية حول هذا الموضوع الشائك، وفتح العديد من دول العالم لقنصلياتها في الأراضي الصحراوية المسترجعة، (عليها أن تدرك أن) كلّ تلك العناصر آنفة الذكر تُفضي ولا ريب إلى جعل المغرب في موقعٍ أكثرَ قوّة من ذي قبل. المدينتان السّليبتان سبتة ومليلية المدينتان المغربيتان المحتلتان سبتة ومليلية، والجزر الجعفرية، وصخرة النكور، والجزيرتان الصغيرتان المحاذيتان لشاطئ "الصّفيحة" بمدينة أجدير (الحسيمة)، وشبه جزيرة بادس، وجزيرة ليلى تورة، كلها ما زالت تذكّرنا بأنّه ما زالت هناك قضايا تاريخية جادّة وعالقة تمسّ السّيادة الوطنية في الصّميم. مداخل ومخارج المدينتين السّليبتين تفصح عن الوجه الآخر المؤلم لهذا الموضوع، حيث كان المواطنون المغاربة يَعْبُرونُ هاذين المعبريْن ذهاباً أو إيّاباً لعناق بعضهم البعض، وإحياء صلة الرّحم فيما بينهم وراء الأسلاك الشائكة التي تفصل بينهما، في زمنٍ تهاوت فيه كلّ الجُدران مهما كان علوّها وارتفاعها، وقد زادت جائحة كورونا اللعينة من معاناة هؤلاء المواطنين الذين كانوا يحصلون على قوت يومهم من هاذيْن الثغريْن بعد أن تمّ إغلاقهما منذ بداية انتشار هذا الوباء المُفزع. عند الحديث عن مدينتي سبتة ومليلية السليبتيْن يحلو لي التذكير ببيت من الشعر جميلٍ ومُوفٍ ورد في كتاب "أزهار الريّاض في أخبار القاضي عياض"، يقول فيه الشاعر عند تحيته لمدينته سبتة: (سلامٌ على سبتة المَغربِ / أخيّةَ مكّةَ ويثربِ). الغازات السامّة في الرّيف موقف إسبانيا من استعمالها للغازات السامّة والأسلحة الكيميائية المحظورة في حرب الرّيف التحررية الماجدة أصبح يُثار بإلحاح مؤخراً داخل المغرب وخارجه، بل إنّه أمسى يُثار حتى في إسبانيا نفسها، فهل في مقدورها اليوم الإقدام على إتّخاذ خطوة تاريخية جريئة للمصالحة النهائيّة مع ماضيها المعتم في المغرب بتقديمها اعتذار شجاع للشّعب المغربي بشكلٍ عام، ولأهل الرّيف على وجه الخصوص، من السكّان الآمنين، وتعويضهم إنسانيًّا وحضاريّاً-حسب ما تمليه القوانين الدّولية في هذه الجريمة النكراء-وقد أصبح هذا الموضوع الحيوي الهامّ يستأثر بحدّة بإهتمام الرّأي العام المغربي والإسباني على حدٍّ سواء، المتعلق بالتظّلم المُجحف، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالعديد من الأسر والعائلات التي ما زالت تُعاني في مختلف مناطق الرّيف من الآثار الوخيمة ل "أوبئة السرطان اللعين" الناجمة عن استعمال هذه الأسلحة الكيميائية الفتّاكة من طرف إسبانيا بعد الهزائم المُنكرة التي تكبّدتها في حرب الرّيف. ولقد طالب "مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم"، الذي يرأسه الناشط السياسي والجمعوي الصّديق عبد السلام بوطيّب، غيرَ ما مرّة بضرورة إيجاد تسوية حقوقية عاجلة وعادلة لملفّ الحرب الكيماويّة ضدّ الريف واجبالة. جاليتنا المغربية في إسبانيا من المعروف أن الجالية المغربية المقيمة في إسبانيا التي أصبحت تقارب المليون نسمة ما فتئت تعاني من ضائقة خانقة في خضمّ الأزمة العويصة التي تعيشها إسبانيا في الوقت الراهن، والتي لن تعرف بوادر الخروج منها إلاّ بعد انحسار الجائحة التي ضربت الاقتصاد الإسباني في مقتل، وتنعكس هذه الأزمة سلباً على هذه الجالية؛ ذلك أن معظم أفرادها كانوا يشتغلون في قطاعيْ الفلاحة والبناء اللذين يعرفان اليوم ركوداً وتراجعا كبيريْن، وأصبحوا عرضة للتسريح المجحف، والارتماء في أحضان البطالة. وحسب الخبراء، فإنّ الحلول لا تبدو في الأفق القريب، نظراً لانعدام تواصل جاليتنا مع النّخبة السياسية الإسبانية، وعدم توفّر وسائل الدفاع عنهم وعن حقوقهم. وكانت الحكومة الإسبانية السابقة قد صادقت على قانون للهجرة غيرِ منصفٍ بالنسبة للمغاربة، مقابل السياسة التفضيلية التي يحظى بها مواطنو بلدان أمريكا اللاتينية. والحالة هذه، ينبغي مضاعفة الجهود لتقديم مختلف وسائل الدّعم لهم في هذه الظروف العصيبة من طرف المغرب واسبانيا على حدٍّ سواء. الهجرة غير الشرعيّة على الرّغم من الجهود المبذولة في هذا المجال لمحاربة أو جعل حدٍّ للهجرة السريّة واللاّشرعية التي تفاقمت بشكل مهول في خضمّ جائحة كورونا، ممّا أصبح يدعو إلى القلق، ما فتئت التساؤلات تطرح عن الإجراءات التي اتّخذها المغرب لإيجاد الحلول المناسبة العاجلة والناجعة لمواجهة هذه المعضلة الإنسانية لمواجهة هذا الزّحف العرمرم نحو المغرب وإسبانيا، ولقد أضيفت إليه مؤخراً جزر الخالدات، الشيء الذي أمسىَ ينذر بعواقب قد لا تُحمد عقباها في مختلف الواجهات الأمنية، والإرهابية، والاجتماعية، والإنسانية، والصحّية وسواها. ومعروف أن الاجتماعات الثنائية رفيعة المستوى بين البلديْن التي كانت ستعالج هذا الموضوع إلى جانب قضيّة الصحراء خلال الأشهر الماضية، قد أجّلت إلى أجل غير مسمّى على ما يبدو إلى حين انقشاع وتبدّد الغيوم التي تجثم على عيون بعض المسؤولين الإسبان حديثي العهد بالسياسة من "يساريين ويمينيين متطرفين!" لم يتمكّنوا بعد من فهم واستيعاب عمق العلاقات المغربية الإسبانية في مختلف القضايا العالقة والمسائل الشائكة بين البلدين. المُوريسكيّون وشجاعة الاعتذار ما انفكّ الإسبان يتمنّعون ويتعنّتون ويتهرّبون من تقديم اعتذار علني عن طردهم، وإبعادهم "للموريسكيّين" الأندلسيّين المسلمين "المُهَجَّرين" قهراً وقسراً عن ديارهم، والذين استقرّ معظمُهم في المغرب. وكان العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل قد قدّم اعتذاراً لليهود (السيفارديم) الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا هم الآخرون، ولم يقم هو ولا خلفُه الحالي الملك فليبّي السادس بالبادرة نفسها حتى الآن مع الموريسكيين. وأغتنم هذه السانحة لأهنّئ المثقفين الإسبان الذين شاركوا في اللقاء الدّولي (عقب الموريسكيّين والسفارديم بين التشريع الإسباني والقانون الدّولي) الذي نظمته بالرباط مؤخراً "مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن" والذي شاركتُ في أشغاله، وتُعتبر هذه البادرة خطوة تاريخية لهؤلاء الموريسكيين الذين تعرّضوا للطرد الجماعي والإقصاء القسري من أراضيهم بعد أن عاش أجدادُهم فيها زهاء ثمانية قرون، وما فتئ غير قليل من مثقفي العالم الحرّ، بمن فيهم الإسبان أنفسهم، يثيرون هذا الموضوع في مختلف المناسبات. * كاتب من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم-بوغوطا-كولومبيا